هل يصمد الناتو أمام لهيب الحرب في أوكرانيا؟
الولايات المتحدة أدارت الأزمة الأوكرانية بطريقة تمكّنها من أن تصبح هي المستفيدة الأكبر من استمرار هذه الحرب، حتى لو على حساب حلفائها الأوروبيين.
بعد أسابيع قليلة ستدخل الحرب المشتعلة حالياً في الساحة الأوكرانية عامها الجديد من دون أن تلوح لها نهاية في الأفق. ولأنها تتباين كثيراً عن "حروب الوكالة" التي اندلعت في مرحلة الحرب الباردة بين قطبي النظام الدولي، كالحرب في كل من فيتنام وأفغانستان، فليس من المتوقع أن تنتهي بهزيمة كاملة لأي من طرفيها، تُماثل تلك التي مُنيت بها الولايات المتحدة في فيتنام في منتصف السبعينيات، أو التي مُني بها الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.
لذا، يرجَّح أن تظل مشتعلة إلى أن تدرك روسيا والولايات المتحدة: 1- أنهما على وشك الدخول في صدام مباشر، قد تُستخدم فيه الأسلحة النووية؛ 2- أن التكلفة المترتبة على استمرار هذه الحرب باتت أكبر كثيراً من تكلفة قبول حل سياسي قابل للدوام. وإلى أن تحين هذه اللحظة، التي لم تنضج ظروفها الموضوعية بعدُ، سوف تظل التداعيات الناجمة عن هذه الحرب الدائرة تتفاعل وتُلقي تأثيراتها المتباينة في كل الفاعلين الدوليين إلى أجَل غير مسمى.
يتباين وضع روسيا تبايناً بيّناً عن وضع حلف الناتو. فروسيا لم تقرر استخدام القوة المسلحة ضد أوكرانيا إلّا بعد أن أصبحت مقتنعة تماماً بأنها تواجه تهديداً وجودياً بسبب إصرار حلف الناتو على مواصلة تمدده شرقاً، وعلى ضم أوكرانيا إليه، وتحويلها إلى شوكة من أجل استنزاف روسيا وإجبارها على الانكفاء على ذاتها، وشلّ قدرتها على أداء أي دور فعّال خارج حدودها، سواء على الصعيد الإقليمي أو على الصعيد الدولي، تمهيدا لتفكيكها مثلما تم تفكيك الاتحاد السوفياتي من قبل. ولأنها لا تزال تعتقد أن الحرب الدائرة حالياً في الساحة الأوكرانية هي بالنسبة إليها "حرب وجود وليست حرب حدود"، يرجَّح أن تواصل روسيا خوضها وفق العزيمة والإصرار نفسيهما، حتى لو أدت تداعياتها إلى صدام مباشر مع الولايات المتحدة وحلفائها تُستخدم فيه الأسلحة النووية، وخصوصاً أنها لا تزال تعتمد، في إدارتها هذه الحرب، على قدراتها وإمكاناتها الذاتية، أي على قدراتها العسكرية وعمقها الجغرافي الواسع ومواردها الطبيعية الهائلة، ولم تلجأ، حتى هذه اللحظة، إلى طلب أي دعم مباشر من أي من حلفائها الفعليين أو المحتملين.
أمّا الولايات المتحدة فيلاحَظ أنها قررت، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب، أن تستعين بحلفائها في تقديم كل ما يستطيعون من وسائل الدعم إلى أوكرانيا، بما في ذلك المساعدات العسكرية، بل لجأت إلى تحريض أوكرانيا على مواصلة القتال حتى النصر. ويعود السبب في ذلك إلى حرص الولايات المتحدة، ليس فقط على مساندة دولة أوروبية مرشحة لعضوية حلف الناتو، لكن أيضاً على المحافظة على موقعها المهيمن داخل النظام العالمي، وخصوصاً أنها تدرك يقيناً أن انتصار روسيا في هذه الحرب سيؤدي حتماً إلى وقف تمدد حلف الناتو، وإجباره على التراجع، الأمر الذي يعنى انفراط عقده واضطراره إلى قبول قيادة جماعية لنظام دولي جديد متعدد الأقطاب، وهو ما تسعى الولايات المتحدة لتجنب حدوثه بأي ثمن.
غير أنه يلاحَظ، في الوقت نفسه، أن الولايات المتحدة أدارت الأزمة الأوكرانية بطريقة تمكّنها من أن تصبح هي المستفيدة الأكبر من استمرار هذه الحرب، حتى لو على حساب حلفائها الأوروبيين. فعلى رغم ضخامة المساعدات التي قدمتها إلى أوكرانيا، والتي بلغت قيمتها حتى الآن نحو 45 مليار دولار، فإنها تعمل، في الوقت نفسه، على إعادة ضخ هذه المبالغ من جديد داخل الاقتصاد الأميركي، وذلك عبر عقود ضخمة تبرمها شركاتها العملاقة، وخصوصاً شركات تصنيع السلاح والشركات المتخصصة بتقديم الخدمات المرتبطة بالأنشطة الحربية. ولأنها كانت في حاجة ماسّة إلى استعادة هيمنتها وفرض الانضباط على العالم الغربي، أتاحت لها الأزمة الأوكرانية فرصة ثمينة في تحقيق هذا الهدف، فلقد سارعت الدول الأوروبية، فور اندلاع هذه الأزمة، إلى وضع نفسها تحت المظلة الأميركية، ضاربةً بعُرض الحائط أحلامها القديمة بشأن استقلال الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً في مجال السياسة الخارجية والأمن.
وبعد أن كانت قيادات أوروبية مهمة، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ترى أن حلف الناتو "مات إكلينيكياً"، إذ بها تنخرط في الصف، وتسلّم زمام القيادة من جديد إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت تجني من وراء الأزمة الأوكرانية مكاسب جيوسياسية واقتصادية وعسكرية وسياسية ضخمة، من دون أن تضطر إلى إرسال جندي أميركي واحد، أو إلى إطلاق رصاصة واحدة. لقد أشارت تقارير صحافية متعددة إلى أن دولاً، مثل ألمانيا وفنلندا وكندا واليابان وغيرها، أبرمت مؤخراً عقوداً من أجل شراء أسلحة أميركية تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات، وإلى أن كلّ الدول الأوروبية تقريباً، ما عدا النرويج طبعاً، اضطرت إلى شراء النفط والغاز من الولايات المتحدة بأسعار بلغت أضعاف ما كانت تدفعه إلى روسيا في مقابل الحصول على الكميات نفسها.
يدلّ المسار، الذي سلكته الحرب، التي لا تزال دائرة حتى الآن في الساحة الأوكرانية، على أن كِلا الطرفين، الروسي والأميركي، ارتكب أخطاء في الحسابات. فروسيا تصورت أن في مقدورها إنهاء الحرب وتحقيق أهدافها منها بسرعة، ثم لم تقدّر، بطريقة صحيحة، حجمَ الدعم الذي يمكن للقوى الغربية أن تقدمه إلى أوكرانيا في مختلف الصعد، من أجل تمكينها من الصمود ومواصلة الحرب، أو عمقَ المشاعر الوطنية لدى الشعب الأوكراني، والتي من دونها ما كان في مقدور الجيش الأوكراني أن يواصل الحرب حتى الآن وفق هذا المستوى من التصميم والقدرة على مواجهة التحديات. غير أن هذه الأخطاء لا تعني أن روسيا أصبحت تواجه مأزقاً، سواء على الصعيد العسكري أو على الصعيد السياسي، فخسارتها بعض المعارك العسكرية في الميدان لا تعنى بالضرورة أنها توشك على خسارة الحرب.
أمّا الولايات المتحدة فتصوّرت، على صعيد آخر، أن المساعدات الضخمة التي قدمتها هي وحلفاؤها إلى أوكرانيا، من ناحية، والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة، والتي فُرضت على روسيا، من ناحية أخرى، ستجبر الأخيرة على الاستسلام وإنهاء الحرب، ثم لم تستطع أن تقدّر، بصورة صحيحة، حجمَ الموارد والإمكانات الاقتصادية التي تملكها روسيا وتساعدها على الصمود وإفشال العقوبات، أو حجمَ القوة العسكرية التي تملكها، والتي لم تستخدم إلّا قَدْراً يسيراً منها في معركة لا تزال تتعامل معها انطلاقاً من أنها "عملية عسكرية خاصة".
لذا، يمكن القول إن الرؤية الاستراتيجية للمسار الذي سلكته حرب أوكرانيا حتى الآن تسمح، في تقديري، باستخلاص مفاده أن كفّة روسيا، على عكس ما تروّجه وسائل الإعلام الغربية، ترجح على كفّة الولايات المتحدة وحلفائها، وذلك نتيجة عدة أسباب، يمكن أن نجمل أهمها على النحو التالي:
السبب الأول: يتعلق بتأثير العقوبات الاقتصادية في طرفي الصراع. فمن الواضح أن روسيا كسبت هذه الجولة، بدليل أن وضع العملة الروسية (الروبل) يبدو حالياً أقوى مما كان عليه قبيل اندلاع الحرب، وهو مؤشر يصلح لقياس درجة متانة الاقتصاد الروسي واستقراره في المرحلة الراهنة، فضلاً عن أن التأثيرات السلبية المرتدة لهذه العقوبات في اقتصادات الدول الغربية، وخصوصاً الأوروبية، تبدو أقوى من تأثيراتها السلبية في الاقتصاد الروسي نفسه.
السبب الثاني: يتعلق بسير المعارك العسكرية. فمن الواضح أن أداء الجيش الروسي يبدو أقل مما كان متوقَّعاً، ومع ذلك يجب ألّا ننسى أن روسيا تواجه جيشاً تقف وراءه وتدعمه، عبر كل الوسائل المتاحة، كل الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، وخصوصاً أنها لم تحشد كل قوتها العسكرية في معركة قد يتسع نطاقها في المستقبل. ولأنها لا تزال تسيطر على معظم الأراضي التي أعلنت ضمها، على رغم شراسة المقاومة الأوكرانية، فإن من الصعب استنتاج مفاده أن روسيا باتت على شفا هزيمة عسكرية في أوكرانيا.
السبب الثالث: يتعلق بمدى تماسك التحالفات السياسية والعسكرية في الجانبين. فالتحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي يتكون أساساً من الدول الأعضاء في حلف الناتو وبعض الدول الغربية الأخرى، بدا شديد التماسك في بداية الحرب، لكنه يبدو الآن أقل تماسكاً، وبدأت بعض الشروخ والتصدعات تظهر في واجهته، وهي شروخ وتصدّعات تتجه نحو الاتساع تحت تأثير الضغوط الناجمة عن فصل الشتاء، وما قد يترتب عليه من تضارب المصالح بين الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية.
أمّا في الجانب الآخر، فعلى رغم رفض عدد من الدول التجاوب مع نظام العقوبات الذي فرضته الولايات المتحدة والدول الغربية على روسيا، فإنه يصعب القول إن هذه الدول باتت على وشك دخول تحالف سياسي أو عسكري بالمعنى الدقيق. صحيح أن مظاهر التعاون بين روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، وربما الهند أيضاً، تتزايد مع إطالة أمد الحرب، وبالتالي قد تتّجه نحو قيام شكل ما من أشكال التحالف الفعلي فيما بينها، وخصوصاً إذا اتخذت الحرب منحىً آخر يؤدي إلى اتساع نطاقها وانخراط أطراف أخرى فيها بصورة مباشرة، لكنه يظل حتى الآن تحالفاً محتملاً وليس فعلياً، الأمر الذي يعني أن لدى روسيا رصيداً استراتيجياً من التحالفات يمكن الارتكاز عليه إذا ما ساءت الأمور، وهو ما يشكل إضافة إليها. أمّا الولايات المتحدة فإن التحالف الذي تقوده، والذي يمثّله حلف الناتو، مهدَّدٌ بالانهيار، وخصوصاً إذا طال أمد الحرب، وعجزت الدول الأوروبية عن إيجاد بديل حقيقي عن الطاقة الروسية.