هل تنجح القمة القادمة في إعادة ترتيب البيت العربي؟

لا شكّ أنّ الشروع في تطبيع العلاقات العربية مع إيران وتركيا، خلق ديناميكية جديدة في المنطقة ووفّر أجواء مواتية للشروع في معالجة العديد من الأزمات في العالم العربي، ما سينعكس إيجابياً على الأجواء التي ستعقد فيها القمة العربية القادمة.

  • هل تنجح القمة القادمة في إعادة ترتيب البيت العربي؟
    هل تنجح القمة القادمة في إعادة ترتيب البيت العربي؟

أخيراً تمّ الإعلان عن موعد انعقاد القمة العربية التي تستضيفها المملكة العربية السعودية هذا العام. فمنذ أيام قليلة، صرّح أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية، مؤكداً انعقادها يوم 19 أيار/مايو القادم. غير أن أكثر ما لفت نظري في هذا التصريح قول الأمين العام لجامعة الدول العربية "إنّ الموضوع الرئيسي لقمة هذا العام اقتصادي وسيتناول كيفية مساعدة الأقاليم العربية المحتاجة"، الأمر الذي بدا لي غريباً وباعثاً على الحيرة. 

فهل يريد الأمين العام أن يقول إن مؤتمر القمة القادم سيركّز على بحث كيفية مساعدة الدول العربية التي تضرّرت من الأزمات التي ألمّت بالنظام العالمي خلال السنوات الأخيرة، كالأزمات الاقتصادية التي نجمت عن وباء كوفيد 19 أو عن الحرب المشتعلة على الساحة الأوكرانية. أم أنه يريد أن يقول إنّ هذا المؤتمر سيركّز على بحث كيفية مساعدة جميع الدول العربية التي تحتاج إلى مساعدة، أياً كانت الأسباب التي تستدعي مثل هذه المساعدة، وما إذا كانت المساعدات المطلوبة تشمل، على سبيل المثال لا الحصر، إعادة بناء ما دمّرته الحرب في اليمن، أو توطين اللاجئين والنازحين السوريين، أو تمكين لبنان من التغلّب على أزمته الاقتصادية الطاحنة التي أدت إلى إفقار الغالبية العظمى من مواطنيه؟

لذا أعتقد أن هذا التصريح يطرح أسئلة كثيرة لا تزال تبحث عن إجابة: فهل يمكن حقاً أن تتفق الدول العربية "الميسورة الحال" على مد يد العون للدول العربية "المحتاجة" في ظل الأوضاع السياسية التي يمرّ بها العالم العربي حالياً، أم أنّ الأمر يتطلّب التوصّل أولاً إلى تسويات سياسية للأزمات التي تسبّبت في الوضع الاقتصادي الكارثي الذي تواجهه بعض هذه الدول في المرحلة الراهنة؟ 

ومن هنا شعوري بالعجز عن فهم مغزى التصريح الذي أدلى به الأمين العام لجامعة الدول العربية، والذي بدا لي وكأنه يضع العربة أمام الحصان. ولا أظن أنني أبالغ إن قلت إنّ القمة العربية القادمة ستكون واحدة من أهم وأخطر القمم التي عقدت خلال السنوات العشرين الماضية، خاصة وأنها تأتي في ظل أجواء تتسم بتحسّن كبير طرأ على العلاقات العربية البينية، من ناحية، وعلى العلاقات العربية بدول الجوار الإسلامية، خاصة علاقاتها مع كل من تركيا وإيران، من ناحية أخرى.

فعلى صعيد العلاقات العربية البينية، بدأ هذا التحسّن يصبح واقعاً ملموساً بعد نجاح قمة مجلس التعاون الخليجي التي انعقدت في مدينة العلا في كانون الثاني/يناير2021 في وضع الأسس اللازمة لإنهاء أزمة حصار قطر التي كادت تعصف بمجلس التعاون الخليجي نفسه، ثم راح هذا التحسّن في العلاقات البينية بين دول مجلس التعاون الخليجي يعكس نفسه على مجمل العلاقات العربية البينية إلى أن وصل ذروته بالانفتاح مؤخّراً على سوريا التي عُزلت عن النظام الرسمي العربي منذ أكثر من 12 عاماً، خاصة من جانب كل من مصر والسعودية، وهو ما يعد في تقديري أهم تطوّر تشهده العلاقات العربية العربية منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011.

وعلى الصعيد الإقليمي، شهدت العلاقات العربية التركية اختراقاً واضحاً منذ الزيارة التي قام بها رجب طيب إردوغان إلى السعودية في نيسان/أبريل عام 2022، كما شهدت العلاقات العربية الإيرانية اختراقاً واضحاً منذ الإعلان الذي صدر في بكين يوم 10 آذار/مارس الماضي عن توصل السعودية وإيران، برعاية صينية، إلى اتفاق يقضي بتبادل العلاقات على مستوى السفراء بين البلدين خلال فترة لا تتجاوز شهرين، ما فتح الباب أمام البلدين المتنازعين للتسابق على إثبات حسن النية والمبادرة بتوجيه دعوات لزيارات متبادلة على أعلى مستوى.

ولا شك أن الشروع في تطبيع العلاقات العربية الإيرانية، من ناحية، والعلاقات العربية التركية من ناحية أخرى، خلق ديناميكية جديدة في المنطقة ووفّر أجواء مواتية للشروع في معالجة العديد من الأزمات في العالم العربي، ما سينعكس إيجابياً على الأجواء التي ستعقد فيها القمة العربية القادمة.

فقد أشارت تقارير صحافية مؤخراً إلى أن السعودية، الدولة العربية المضيفة لقمة هذا العام، ستوجّه، إن لم تكن قد وجّهت بالفعل، دعوة رسمية إلى سوريا لحضور هذه القمة، ما يعني أن سوريا باتت على وشك استعادة موقعها ومكانتها داخل النظام الرسمي العربي. ويتوقّع أن يكون لهذا التطور، في حال ثبوت صحته، انعكاسات مهمة على مجمل أداء النظام العربي في المرحلة القادمة، وذلك من زاويتين محددتين:

الأولى: إعادة تحديد موقف النظام العربي الرسمي من قضية التطبيع مع "إسرائيل". ففي غياب سوريا عن الجامعة العربية انفتح الباب أمام بعض الدول العربية للإفلات من الالتزامات الواقعة على عاتقها بموجب القرار الذي اتخذته قمة بيروت العربية عام 2002، والذي ربط بين إمكانية تطبيع الدول العربية لعلاقتها مع "إسرائيل" وانسحاب الأخيرة من كلّ الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967، وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم وفقاً لما يقضي به قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948.

ولأنّ جزءاً من الأراضي السورية لا يزال محتلاً من جانب "إسرائيل"، فمن الطبيعي أن تعكس قرارات القمم القادمة من الآن فصاعداً عودة إلى موقف الجامعة العربية من قضية التطبيع كما حدّدته قمة بيروت عام 2002، ما يعني توليد ضغوط مستمرة على الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات أبراهام لوقف اندفاعها على هذا الطريق وردع الدول العربية الأخرى عن اتخاذ موقف مماثل، وبالتالي عودة اهتمام الجامعة العربية بالقضية الفلسطينية وعودة إلى التعامل مع "إسرائيل" من جديد باعتبارها المصدر الرئيسي لتهديد الأمن القومي العربي، وليس باعتبارها حليفاً محتملاً للدول العربية في مواجهة إيران، وهو ما كانت تسعى إليه "إسرائيل" باستماتة.

الثانية: إعادة تنشيط الحوار والتفاهم بين المثّلث العربي الذي يشكّل قيادة تقليدية وطبيعية للنظام الإقليمي العربي، والمؤلّف من مصر والسعودية وسوريا. فمسيرة النظام الرسمي العربي منذ نشأته وحتى الآن، تؤكد أن أهم الإنجازات التي سجّلها تحقّقت حين كان التوافق تاماً بين العواصم العربية الثلاث: القاهرة والرياض ودمشق. وهو ما اتضح بجلاء إبان أزمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وكذلك إبان حرب تشرين الأول/أكتوبر المجيدة عام 1973، وكذلك في بعض الأزمات الأخرى.

كما تؤكد هذه المسيرة في الوقت نفسه أن النظام الرسمي العربي دخل في حالة من التيه والضياع في كل مرة حدثت فيها فرقة واختلاف بين مواقف ورؤى هذه العواصم والثلاث. وهو ما اتضح بجلاء حين قرّر السادات منفرداً زيارة القدس عام 1977، وأيضاً حين اختلفت العواصم الثلاث حول الموقف الذي ينبغي تبنّيه تجاه الثورة الإيرانية التي اندلعت عام 1979. ولأن الحاجة تبدو اليوم ماسة لإعادة ترتيب البيت العربي من الداخل، فلن يكون ذلك ممكناً أبداً إلا من خلال صيغة تتوافق عليها الدول الثلاث أولاً، وهو شرط ضروري لإمكانية حدوث توافق عربي جماعي حولها.

لا شك أنّ دولاً عربية عديدة تمرّ الآن بأوضاع اقتصادية بالغة الصعوبة، ومن ثم فهي في أمسّ الحاجة إلى مساعدة الدول العربية الأخرى ذات الاقتصاديات القوية. لكن ما لم تتم هذه المساعدة عبر رؤية سياسية تستهدف إعادة بناء النظام العربي على أسس جديدة وقوية، فلن يكون لهذه المساعدة أي تأثير قابل للدوام. 

فهل تنجح القمة العربية القادمة في بلورة هذه الرؤية. أظن أن هذا النجاح بات مرهوناً بمسألتين مترابطتين، الأولى: مشاركة سوريا في هذه القمة، والثانية: استئناف العلاقات الدبلوماسية فعلاً بين إيران والسعودية قبل انعقاد هذه القمة.