فلاديمير الثالث
نجح بوتين في بعث الروح في الأمّة الروسية وإعادتها إلى عالم الكبار، بالاتكاء أولاً على سردية أو خطاب من رواسب الأزمنة الروسية القيصرية، فذلك ما انتبه له بوتين وقاربه من موقع التعدّد الإثني.
منذ صعود بوتين وتسلّمه قيادة الاتحاد الروسي، والسياسات الغربية بقيادة واشنطن تتدحرج نحو أجواء الحرب الباردة، التي اعتقد البعض أنها انتهت مع تفكّك الاتحاد السوفياتي وتسلّل ليبراليّين بنكهة يهودية إلى الكرملين، من غورباتشوف إلى يلتسين.
لم تصدر حتى الآن دراسات معمّقة لا حول أسباب التفكّك وسيطرة الفريق اليهودي ممثّلاً بـ "شوبايس" و"خودروفسكي" وغيرهما، ولا حول أسباب ظهور وصعود بوتين السريع وتحوّله من أحد المدعومين من الفريق غير الشيوعي، إلى واحد من قادة روسيا العظام، أو من الفلاديميرات الثلاثة: فلاديمير الأول المؤسس لروسيا، وفلاديمير لينين قائد ثورة أكتوبر الاشتراكية، وفلاديمير بوتين الذي اختصر هذا التاريخ في السياسة الروسية الحالية، الحضور في المشهد الدولي وتأمين روسيا بطوق أوراسي، قيصري أو شيوعي أو قومي أرثوذكسي.
فقد نجح بوتين في بعث الروح في الأمّة الروسية وإعادتها إلى عالم الكبار، بالاتكاء أولاً على سردية أو خطاب من رواسب الأزمنة الروسية القيصرية (القومية والكنسية الأرثوذكسية، ولكن على نحو مغاير لتاريخ القياصرة الذين ربطوا ذلك بالتضييق على القوميات والمذاهب الأخرى)، فذلك ما انتبه له بوتين وقاربه من موقع التعدّد الإثني.
والاتكاء ثانياً على حلف عالمي ضدّ الهيمنة الغربية، مطوّراً بذلك مفهوماً جديداً للسياسة التي كانت شديدة الصلة بالاقتصاد بما يذكّر بالعلاقة الميكانيكية بين البنى التحتية والفوقية وهي العلاقة التي حذّر منها لينين.
فالسياسة اليوم حقل له مساحاته الواسعة من دون الاستقلال التامّ عن الاقتصاد، مما يسمح برؤية محاور متناقضة في قلب المنظومات الرأسمالية نفسها.
بهذه الروحية أخذ بوتين يؤسّس لاستراتيجية انبعاث جديدة لا تخفي الثوابت الأساسية في التاريخ الروسي وخاصة المياه الدافئة، والمجال الأوراسي، ومن مفارقات ذلك أنه كلما ارتخت القبضة الروسية على التاريخ انطلاقاً من هذه الثوابت، فإنّ الاستفزازات الغربية لموسكو كانت تتكفّل بإنعاش الذاكرة الجمعية الروسية وإحياء هذه الأمّة ودفعها إلى صدارة العالم.
ومن الواضح حتى الآن أنّ الحنين إلى الاشتراكية التي صنعت الاتحاد السوفياتي والجيش الأحمر ودفعته إلى معقل الفوهرر الألماني في برلين، لا يزال حنيناً مرهوناً بالثوابت المذكورة، وهو ما قد يفسّر استعادة السياسات السوفياتية السابقة مفرغة من مضامينها الاشتراكية، ليس بالنسبة لموسكو وحدها بل وللمجالات والساحات والدول المرتبطة بالسياسات المذكورة.
فمن الملاحظ كما سنرى أن الحركة الروسية بقيادة بوتين ركّزت على بلدان اشتراكية أو تحكم فعلاً أو شكلاً من أحزاب اشتراكية إضافة إلى قوى وبلدان أخرى، ومن ذلك:
1- مقابل أزمة الصواريخ الروسية في كوبا خلال فترة خروتشوف، بعيد انتصار الثورة الكوبية وتهديد واشنطن بالتدخّل وإرسال موسكو الصواريخ إلى كوبا على مرمى السواحل الأميركية، أرسل بوتين العديد من السفن الحربية لإجراء مناورات مشتركة مع كوبا التي تقع في قلب الأنواء والأعاصير البحرية الأميركية في الكاريبي.
2- مقابل انخراط روسيا والصين في الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، ردّاً على تدخّل الناتو والتحالف الإمبريالي لإنقاذ عملائهم في كوريا، قام بوتين نفسه بزيارة إلى كوريا الشمالية ووقّع معها اتفاقية دفاع وتعاون عسكري مشترك.
3- مقابل انخراط روسيا في حرب فيتنام ضد العدوان الأطلسي ـــــ الأميركي وقبله الفرنسي في ستينيات القرن الماضي، قام بوتين بزيارة إلى فيتنام ووقّع معها أكثر من اتفاقية استراتيجية، وذلك علماً بأنّ علاقات فيتنام مع الصين علاقات متوترة وهي الحليف الأساسي لموسكو منذ سنوات.
4- مقابل تدخّل موسكو الشيوعية أكثر من مرّة في بلدان مثل هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا خلال النصف الثاني من القرن الماضي، وفي سياق الصراع الروسي – الأميركي المعروف ودعم واشنطن لجماعات الثورة المضادة في تلك البلدان، عادت موسكو في عهد بوتين لتمنح دعمها للقوى المهدّدة بالتدخّل الأطلسي المباشر أو عبر الثورات الملوّنة، وقد تمكّنت دول مثل روسيا البيضاء وكازاخستان من تثبيت الاستقرار فيها بفضل الدعم الروسي بقرار من بوتين.
5- مقابل السياسة المتردّدة أحياناً والمفرطة أحياناً أخرى، بشأن أراضٍ هنا وهناك خلال الحكم الشيوعي السابق، كان بوتين أكثر حزماً كما فعل مع القرم ودونباس والأراضي التي كانت تحتلّها جورجيا.
6- عودة روسيا إلى السياسات السوفياتية السابقة في أفريقيا وأميركا اللاتينية، ودعم القوى المناهضة لواشنطن وباريس ولندن.