حصارات سوريا.. (الجزء الأول: الخمسينيات)
قبل إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، كانت تركيا تراقب الأوضاع من كثب في سوريا؛ خوفاً من تسلل الشيوعية إليها. وبإيعاز من حلف الأطلسي، بادرت تركيا إلى التدخل في الأوضاع الداخلية في سوريا.
بالرغم من المشاهد المروّعة للنساء والأطفال تحت أنقاض الزلزال المدمر، تواصل أوساط التحالف الإمبريالي – الصهيوني – الرجعي، وما يعرف بالمعارضة السورية المرتبطة بهذا التحالف حملتها على سوريا، وتحاول التأثير في أشكال الإغاثة الواسعة التي انطلقت قوافلها البرية والجوية على المستويين العربي والدولي، ناهيك بالانحطاط الذي وصل إليه بعض المعارضين ابتهاجاً بالعدوان الصهيوني على دمشق، "سماء مضاءة" بصواريخ نتنياهو.
ما تغيّبه هذه الأوساط أن معركتهم ضد سوريا معركة قديمة – جديدة، لا ترتبط بحقبة أو سلطة سياسية أو أيديولوجية بحد ذاتها، وكل حكم وطني مر على الشام كان هدفاً للتحالف المذكور.
ابتداءً من شكري القوتلي، ابن البرجوازية الوطنية الشامية السنية، فقد أسقطه انقلاب أميركي – فرنسي عام 1949 بقيادة حسني الزعيم: الأميركيون لتمرير خط التابلاين، والفرنسيون للحفاظ على هيمنة مصرف لبنان – سوريا، وما إن عاد القوتلي محمولاً بحركة شعبية وعسكرية وطنية متنوعة الأطياف منتصف خمسينيات القرن الماضي، حتى دخلت سوريا في عهد أول حصار سياسي واقتصادي وتهديد عسكري تركي، بسبب رفض القوتلي والائتلاف البرلماني الذي يدعمه لحلف بغداد – أنقرة (الجناح العسكري الجنوبي للناتو) وغير ذلك من الإملاءات الرجعية والأنكلوسكسونية، ومعها أوساط من برجوازية بيروت المتضررة من السياسة السورية المستقلة في موضوع المصارف.
وفي تفاصيل أكثر، ترافقت عودة القوتلي مع الانتخابات النيابية التي جرت عام 1954 بمشاركة واسعة أظهرت تحوّلاً كبيراً في مزاج الشعب السوري على غير ما توهّمته الدوائر الأميركية والبريطانية والعراقية، فقد حصل حزب البعث على 22 مقعداً مقابل مقعد واحد في انتخابات 1949 وزادت مقاعد الحزب الوطني بزعامة القوتلي 19 مقابل 12 (1949).
فيما تراجع حزب الشعب من 43 إلى 30 مقعداً، وفاز الشيوعيون والاشتراكيون التعاونيون بثلاثة مقاعد ونال المستقلون 46 مقعداً فيما خسر الإخوان المسلمون مقاعدهم السابقة ولم يفز أحد منهم (انظر باتريك سيل والصراع على سوريا ص241).
والجدير ذكره هنا أن الحزب الوطني كان يمثل البرجوازية السورية الوطنية ولا سيما في دمشق، فيما يمثل حزب الشعب تحالفاً يضم أوساطاً من تجار حلب والإقطاع في حماه وحمص.
ووفق تقاليد الانتخابات الرئاسية آنذاك، يقوم البرلمان بانتخاب الرئيس، فنجح القوتلي في هذه الانتخابات بـ 89 صوتاً مقابل 42 صوتاً لخالد العظم وصوتين للشيخ هايل السرور (نذير فنصة، النكبات والمغامرات، ص347).
المؤامرة الكبرى على سوريا
ساهمت عوامل عديدة في إثارة الأميركيين والبريطانيين وتحريك العواصم المرتبطة بهما في المنطقة (تركيا بعد سيطرة إسلاميين عليها) وعراق نوري السعيد ضد سوريا ومن هذه العوامل:
1-فشل حلف بغداد بسبب المقاومة السورية ودعمها للتظاهرات الشعبية في البلدان المستهدفة.
2-الاقتراب السوري من موسكو وصفقات الأسلحة التشيكية.
وحسب باتريك سيل في كتابه "الصراع على سوريا"، فقد بدأ التحرك الأميركي – البريطاني -التركي – العراقي بإقامة علاقات مع المنفيين والهاربين السوريين السياسيين والعسكريين.
وبالإضافة إلى ما عرف بالضباط الأربعة وضمنهم النقيب صلاح الشيشكلي، والعقيد محمد صفا (رئيس ما عرف حينها بحكومة سوريا الحرة)، (سيل، ص352)، شملت الحركة عدنان الأتاسي وهو سفير سابق في باريس وعضو بارز في حزب الشعب، وابن عمه فيضي الأتاسي وزير الخارجية السابق، ومنير العجلاني وهو أستاذ حقوق في جامعة دمشق معروف بتعاطفه مع الهاشميين، وسامي كبارة وهو وزير عدل سابق خلال حكم الحناوي وصاحب صحيفة "النضال" والشيخ هايل سرور وهو شيخ قبيلة، والوجيه الدرزي الأمير حسن الأطرش (سيل، ص360).
وقد جرت سلسلة من الاجتماعات واللقاءات بين المذكورين ومسؤولين في السفارات الأميركية والبريطانية والتركية والعراقية في بيروت التي تحوّلت إلى مركز رئيسي لهذه الحركة. وكان من نتيجة ذلك تشكيل هيئة باسم "أصدقاء سوريا" تدار من لجنة أميركية – بريطانية. وتم التوافق أيضاً على تزويد المعارضة بالأسلحة (تدريب مقاتلين لهذه الغاية).
وحسب سيل أيضاً، فقد تولّت أميركا والعراق تأمين الأسلحة مقدمة لدعم انشقاق الانقلاب العسكري في سوريا (سيل، ص358).
بعثة لوي هندرسون
وفي الرابع والعشرين من آب/أغسطس، غادر لوي هندرسون، نائب وكيل وزارة الخارجية الأميركية وأحد خبراء الشرق الأوسط الرئيسيين في الحكومة الأميركية، واشنطن قاصداً تركيا (كان نشيطاً في الدور الذي لعبه في صوغ مبدأ ترومان في عام 1947، المتعلق باليونان وتركيا والنفط الإيراني في عام 1953)، وفي أنقره اجتمع هندرسون برئيس الوزراء مندريس، وملكي الأردن والعراق اللذين لحقا به إلى هناك، ثم طار إلى لبنان للاجتماع بالرئيس شمعون قبل العودة إلى تركيا للقيام بمحادثات أخرى مع مندريس.
وبناءً على بيان رسمي ألقي على المراسلين الصحفيين في الخامس من أيلول/سبتمبر، ذكر هندرسون أن الوضع خطير جداً، وأعلن في تقريره، كما جاء في بيان وزارة الخارجية، اهتمامه العميق بمصير سوريا، وأن تصبح ضحية للشيوعية الدولية، كما أن تكون قاعدة لتهديدات أبعد مدى لاستقلال الإقليم وحدوده.
وجرى اعتقاد بضرورة اتخاذ عمل حاسم بتوجيه تحذير إلى سوريا من أن تقوم بمغامرة خارج حدودها وبتقوية خطوط دفاع جيرانها المؤيدين للغرب. وبناء على ذلك، أعلن عن خطط في الخامس من أيلول/سبتمبر لشحن أسلحة أميركية جواً إلى الأردن فوراً، وأسلحة أخرى إلى العراق ولبنان، وقد أعطيت الحركة الانقلابية الداخلية في سوريا اسم عملية "نصر"، بينما أعطي التدخل العسكري اسم عملية "سيف العرب"، وأعطي ميخائيل اليان الزعيم الحلبي دوراً رئيسياً في عملية "نصر"، وكانت مهمته تأسيس منظمة وطنية للاجئين السوريين يقوم العراق بالاعتراف بها على أنها الحكومة الشرعية في سوريا في حال نجاح الانقلاب. (سيل 381/385/388).
وكشف المقال الذي نشر في صحيفة الجيش السوفياتي (النجم الأحمر) ما عدّه مؤامرة أميركية شيطانية لغزو سوريا، وأكدت الصحيفة أن المؤامرة كان تنطوي على خطة تشمل عدة مراحل في الوقت الذي تهيأ فيه الأميركيون لمعارضة العدوان الأنكلو – فرنسي على مصر:
أولاً: تقوم "إسرائيل" بتحركات عسكرية استفزازية، على حدودها مع سوريا.
ثانياً: تسارع تركيا عند ذلك إلى تجميع قواتها على الحدود السورية الشمالية مثيرة احتمال حدوث صدام سوري-إسرائيلي، وترافق ذلك مع خطة أميركية تضع سوريا على شفا الانحلال كمجتمع سياسي ومدني – وتدفع السوريين إلى فقدان الثقة بمستقبل بلادهم ككيان مستقل.
وكانت الرشى والضغوط الخارجية تسير جنباً إلى جنب مع حملات دعاية مختلفة سخرت لها منابر وإذاعات عديدة.
تركيا تحشد قواتها العسكرية على الحدود السورية بذريعة التغلغل الشيوعي
قبل إعلان الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، كانت تركيا تراقب الأوضاع من كثب في سوريا؛ خوفاً من تسلل الشيوعية إليها بعد النشاط الملحوظ للحزب الشيوعي السوري. وبإيعاز من حلف الأطلسي، بادرت تركيا إلى التدخل في الأوضاع الداخلية في سوريا، واختلاق الافتراءات لتضليل الرأي العام العالمي، بذريعة أن الاتحاد السوفياتي يسيطر على سوريا، وأن نظام الحكم هناك شيوعي، وعدّت ما يجري في سوريا خطراً على أمن المنطقة، وخاصة أنه يهدد تركيا كما يهدد الأوضاع في كل من العراق والأردن ولبنان والسعودية، وأن سوريا تقوم بتقديم تسهيلات عسكرية لبناء قواعد هناك.
وفي ما يلي نص مذكرة الاحتجاج التي رفعتها الحكومة السورية إلى المفوضية السويسرية في دمشق، التي كانت ترعى المصالح البريطانية في سوريا لإبلاغ مضمونها إلى وزارة الخارجية البريطانية.
الجمهورية السورية (وزارة الخارجية)
الرقم س/65/802/37
التاريخ 19/12/1957
تهدي وزارة الخارجية أطيب تحياتها إلى المفوضية السويسرية، وتتشرف بأن ترجو منها إحاطة وزارة الخارجية البريطانية علماً بما يأتي:
كانت الحكومة السورية تأمل بعد بحث شكواها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بشأن الحشود التركية أن تبدل تركيا من نواياها وخططها العدوانية تجاه سوريا، وأن تعمل على إزالة جو التوتر الذي شمل الشرق الأوسط من جراء السياسة التي ساهمت تركيا في اتباعها، والتي تهدف إلى التدخل في شؤون سوريا الداخلية.
غير أن الحكومة التركية لم تحاول أن تظهر أي دليل يشعر بحدوث مثل هذا التبدل في سياستها، بل استمرت في التهجم على الأوضاع الداخلية في سوريا واختلاق الافتراءات التي لا تستند إلى أي واقع أو حقيقة.
وكان خطاب رئيس مجلس الوزراء التركي السيد عدنان مندريس الذي ألقاه في اجتماع حلف شمال الأطلسي في 16/12/1957 في باريس دليلاً جديداً على استمرار الحكومة التركية في حملة التهويش العدوانية على سوريا. فاتخذ السيد مندريس من هذا الاجتماع مسرحاً لترداد الأباطيل والافتراءات التي ما فتئت حكومة تركيا تضلل بها الرأي العام العالمي، مردداً أن روسيا سيطرت على سوريا وركزت نفسها فيها، وزاعماً أن نظام الحكم الشيوعي في سوريا هو أمر واقع، وأنه إذا لم يكن ظاهراً حتى الآن فذلك لغرض تكتيكي معين.
وعدّ ما يجري في سوريا أمراً شديد الخطورة يهدد تركيا كما يهدد الأوضاع في كل من العراق والأردن ولبنان والمملكة العربية السعودية (الوحدة المصرية – السورية في الوثائق البريطانية ص9، 10).