الثابت والمتحوّل
المتابع للإعلام الغربي، بما فيه الناطق بالعربية، قد يؤخذ بما يبثه هذا الإعلام من دعايات وأقاويل وتحليلات لا تمت إلى الواقع بصلة. وتستخدم الولايات المتحدة، خاصة في العقدين الأخيرين، برامج إعلامية مموّلة يتكاتف فيها الخبر المزيف مع تجنيد أدوات لها.
لعلّ إحدى سمات هذا الزمن التي تدعو الكثيرين إلى التشاؤم أو الإحباط أو العزوف أو اليأس أحياناً هي اختلال الثوابت في معظم الميادين، سواء كانت الثوابت السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو حتى الفكرية، ولهذا أسبابه المتعددة والمتشعبة طبعاً. فالزمن يتحوّل وتتغيّر الحال عندما يكتشف شاغلو هذا الكون طرائق جديدة لتحقيق غاياتهم التي قد تتوافق أو تتعارض وما يرغب فيه ويبتغيه الآخرون. فعلى الصعيد السياسي، على سبيل المثال لا الحصر، يشهد المجتمع الدولي تحولاتٍ يمكن وصفها بالجذرية، ولا شك في أنها ستقود إلى أشكال وأنماط في السياسة والحكم والعلاقات غير مسبوقة وغير معروفة من قبل لأبناء هذه الحقبة التاريخية.
في السردية السياسية يكاد يكون المضمون منسلخاً تماماً عن الواقع، وهذا بفعل فاعل طبعاً، أي إن هناك من يستخدم ويعمّم ويروّج سرديات هدفها التعمية على واقع الأمور بدلاً من وصفه أو الإفصاح عنه. وأقرب مثال على ذلك السردية التي تستخدمها وسائل الإعلام التابعة للولايات المتحدة وكيان الاحتلال الصهيوني لوصف مقررات "الأسرة الدولية" و"الضمير العالمي"، فمنذ عام 1992 تصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة كل عام قراراً يدين الحظر الأميركي اللاشرعي على شعب كوبا، وتعلن أنه ينتهك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
ففي ذلك العام صوتت 188 دولة لمصلحة القرار، وحتى هذا العام صوتت 185 دولة لمصلحة القرار. أي إن تصويت الغالبية العظمى من البشرية هو لمصلحة القرار، ومع ذلك تستمر حكومة الولايات المتحدة مستغلة قوتها العسكرية المتغطرسة بفرض أطول حصار في التاريخ على الملايين من شعب كوبا، ولا يؤيّدها في ذلك سوى الكيان الصهيوني، وقلة من الجزر التابعة للإرادة الأميركية، ومع ذلك يتحدث إعلام وحكومات الولايات المتحدة عن حقوق الإنسان وكأنها تمثل الأسرة الدولية والإرادة الدولية، فيما لا تمثل سوى قوة السلاح والتهديد والحصار والعقوبات في حق مئات الملايين من شعوب العالم، ومنها الشعب الكوبي والشعب السوري واليمني والإيراني، واخيراً الشعب الروسي.
ومع ذلك، فإن المتابع للإعلام الغربي، بما فيه الناطق بالعربية، قد يؤخذ بما يبثه هذا الإعلام من دعايات وأقاويل وتحليلات لا تمت إلى الواقع بصلة. وتستخدم الولايات المتحدة، خاصة في العقدين الأخيرين، برامج إعلامية مموّلة يتكاتف فيها الخبر المزيف مع تجنيد أدوات لها في ظروف وبلدان ترفض أن تخضع للمشيئة الأميركية وللنسخة الأميركية من الأنظمة التابعة لها، التي تسميها الأنظمة "الديمقراطية"، والتي بنت فشلها على الواقع الأميركي، ومع ذلك فإن الجهود مستمرة لنقل هذه النسخة وفرضها على دول أخرى.
فقد أثبتت الانتخابات النصفية الأميركية، كما أثبتت التجارب الانتخابية السابقة أن التسابق على الحكم لا علاقة له بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان، وأن هموم المواطن الأميركي تبقى جاثمة على صدره وميزانيته على الرغم من تغيّر الأوجه أو الأحزاب. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة قد اتبعت أسلوباً أو استحدثت سلطة سرية سمتها "127e" بذريعة مكافحة الإرهاب في مناطق مختلفة من العالم، ولكنّ حقيقة ما تقوم به هذه السلطة هي تقويض ثوابت الشعوب العريقة المستمرة، وتسميم تفكيرها وآرائها وصولاً إلى تجنيدها كأدوات رخيصة ضد مصالح بلدانها، ولخدمة الأجندة التي تضعها هذه السلطة وتعمل لتنفيذها بتمويل زهيد مقارنة باستخدام الجيوش والصواريخ والطائرات. يقول النص "من خلال "127e" تسلّح الولايات المتحدة وتدرّب وتوفّر المعلومات الاستخبارية لقوات أجنبية، ولكن على عكس برامج المساعدة الخارجية التقليدية التي تهدف أساساً إلى بناء القدرات المحلية، فإن شركاء "127e" يُرسلون في مهام تديرها الولايات المتحدة وتستهدف أعداء الولايات المتحدة لتحقيق أهداف أميركية".
يقوم المشاركون الأجانب في برنامج "127e" بملء الثغر التي لا تملك عدداً كافياً من الأميركيين لملئها. ويقول الجنرال غوتيل: "أعتقد أن هذه سلطة لا تقدّر بثمن فهي توفر القدرة على تنفيذ أهداف أميركية باستخدام قوى محلية، يمكن أن تصمّم لتتوافق مع الظروف الفريدة للمنطقة المحددة التي تجري فيها العمليات".
من هنا نرى أوجه التشابه لما حصل في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا وأوكرانيا، فالقيادة واحدة، والآلية واحدة، والهدف واحد، وإن كانت السرديات تختلف من زمن إلى آخر. والمبرّر الذي يتحدثون عنه طبعاً هو "مكافحة الإرهاب"، فيما تُثبت أعمالهم ويثبت تاريخهم أن هذه العمليات والثورات الملونة تنشر الفوضى والدمار، وتيّسر لهم نهب الثروات في بلدان غير مستقرّة تكافح من أجل تحقيق الحد الأدنى من الأمان والخدمات والعيش الطبيعي لشعوبها.
في وجه هذه الحقيقة الثابتة والمؤكدة والمغلفة بمئات وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وتشويه وتزوير الحقائق واستبدالها بأخبار كاذبة مغرضة تهدف إلى شلّ الإرادة الوطنية وضعضعة الصفوف، لا حلّ أمام المتضررين سوى أن يتمسكوا بثوابتهم ويدركوا أن الانجرار وراء الأوهام التي يبتدعها أعداء الشعوب، لن تقود إلا إلى الخذلان والخسران المبين.
من هنا، أثبتت تجربة الطفلة شام البكور وفوزها بالمركز الأول من تحدي القراءة ولغتها، العربية الجميلة لتقول للتائهين والنائمين والمحبطين: "استفيقوا واعملوا وانفضوا عن أنفسكم وعقولكم وضمائركم سرديات من يستهدفكم أحياناً من خلال أبناء جلدتكم. واعملوا، ولا شك أنكم تمتلكون من عوامل القوة ما هو جدير أن يثبت مكانته على الساحتين الإقليمية والدولية". الطفلة ذات السنوات السبع تنبئ العالم العربي من محيطه إلى خليجه بأن اللغة العربية هي اللغة الأجمل في العالم، وأن دمشق لم تبرح بالنفس عالقة، وتنادي دمشق أنْ "صبراً على البلوى".
هذه الطفلة الجميلة لقّنت المهزومين والمتواطئين والمتنكرين للغتهم ثقافتهم وحضارتهم ومصادر قوتهم درساً من أنبل وأجمل الدروس، ولتثبت أن اللغة العربية حية وأنها جميلة جداً ومؤثرة، وأن كل ما يحتاج إليه الآخرون ليتفاعلوا وينخرطوا هو بارقة أمل حقيقية مرساة على الصدق والشفافية والإنجاز.
جائزة تحدي القراءة تطرح معادلة يجب التوقف عندها هي أن هذه الأعمال والأفكار الخلّاقة أهم ما يمكن للأمة العربية في الوطن والمغترب أن تقوم به، وأن هذه اللغة الجميلة الجامعة جديرة بأن تكون موضع اهتمام فعلي في المناهج التربوية العربية، وأن يشعر الأطفال أن لغتهم هي جديرة بأن يضاهوا بها العالم، وأن إتقانها شرط أساسي لإتقان أي لغة غيرها.
لا شك في أن الإرث المشترك لأبناء الضاد إرث عظيم، وأنه يحق لهم أن يفاخروا به العالم، إذا ما فهموا حقيقة الثابت في حياتهم، وتجاهلوا كل السرديات التي تشكك في قدراتهم ولغتهم وانتمائهم وحقهم في أن يصنعوا مستقبلاً مختلفاً تماماً عن الواقع الذي تسبب به الاستعمار، استعمار الأرض والعقول والفكر والمتواطئين معه، والذي يبث في الأذهان أن اللغة العربية ليست لغة العصر والعلوم، وأن إهمالها لا يضيرهم في شيء.
مكتباتنا العربية تزخر بكنوز مكنونة، فليتجه أطفالنا وطلابنا إليها، وليكتشفوا العمق الحضاري لهذه الأمة، وليبنوا عليه، وليحذروا كل مشروعات الاختراق المعمّمة والممولة والممنهجة للنيل من عزيمتهم واحترامهم لأنفسهم. ولنتذكر دوماً أن "الزبد يذهب جُفاءً وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض" تتوارثه وتبني عليه الأجيال. لقد صمدت سوريا وشعب سوريا لأنهم آمنوا بالثوابت وكشفوا من خلال معايشتهم المؤلمة والحقيقية للواقع زيف ادعاءات الأعداء واستهدافهم للبشر والحجر في وجه أخطبوط إعلامي مؤسس على الأكاذيب.
ليس أمام من يعشق الحياة إلا التمسك بثوابته وهويته ولغته وكرامته، مدركاً إدراك اليقين أن الزمن معه والمستقبل له، متسلحاً بالوعي العميق لحقائق ما يجري والصبر على الاستمرار حتى الفوز. وها هي سوريا على الرغم من كل ما عانته تتألق في تحدي القراءة وتتألق في مهرجان قرطاج السينمائي، وتعد ولادة للإبداع والتميّز متكئة على تاريخ عريق ولغة القرآن الكريم وعزيمة شعب لا تلين.