إمدادات الغاز إلى أوروبا: كل الطرق تمرّ عبر تركيا

رجب طيب إردوغان، يرفع من قدرات وجوده على مسرح الطاقة العالمي بسبب الجغرافيا السياسية من جهة، وارتفاع حدة الصراع بين روسيا وأوروبا من جهة أخرى.

  • يتمسك أردوغان ببوتين مع قرب الانتخابات الرئاسية المقبلة (أرشيف)
    يتمسك أردوغان ببوتين مع قرب الانتخابات الرئاسية المقبلة (أرشيف)

دفعت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن إمدادات جديدة من الغاز، وهو ما ولَّد اهتماماً جديداً بخطوط أنابيب الغاز من آسيا الوسطى وغرب آسيا عبر معبر رئيسي هو تركيا. 

طبعاً لم يغب هذا الطرح عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أشاد قبل أسابيع بمشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي "تورك ستريم"، قائلاً إن أوروبا يجب أن تكون ممتنة لتركيا على إمداداتها المستمرة من الغاز الروسي.

جاءت تصريحات بوتين بينما كان يجلس أمام نظيره التركي رجب طيب إردوغان قبل محادثاتهما في مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود، الذي عبره، ينقل الغاز الروسي إلى تركيا وجنوب أوروبا.

كان اهتمام تركيا قد تضاءل بشأن التنقيب عن الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، بعد نجاحها في التنقيب في البحر الأسود منذ منتصف عام 2020، يوم اكتشفت شركة النفط الحكومية التركية ما يقدر بنحو 540 مليار متر مكعب من موارد الغاز. ومن المحتمل أن يوفر الحقل الذي سمي "ساكاريا" للغاز، ما يصل إلى 30% من الطلب المحلي عندما يبدأ تشغيله في العام المقبل. ومن المتوقع أن يبلغ الحد الأقصى للإنتاج 40 مليون متر مكعب يومياً، و1.5 مليار قدم مكعب يومياً، بحلول عام 2028.

نفوذ جيوسياسي عالمي متزايد نتيجة لخطوط الأنابيب هذه، تتلاقى مع الأهداف الطموحة لتركيا للحدّ من واردات الغاز والمدفوعات الأجنبية، والعمل على أن تصبح في نهاية المطاف مصدراً للغاز، وهو ما سيساعد إردوغان للحدّ من التضخم الذي وصل الى 70% داخل بلاده. 

وعليه، يمكن لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي النظر في تسهيل الاستثمارات في عمليات الغاز الجديدة في البحر الأسود، ودعم التنمية التركية السريعة، والحد من الاستهلاك التركي للغاز الروسي، لكن إمدادات الغاز هذه عبر تركيا ستكون محل جزء غير كبير من حاجات الاتحاد الأوروبي التي تلبيها روسيا، خاصةً أن الحرب في أوكرانيا لم تنته بعد.

وأولى مفاعيل النقص في الحاجات، قيام ألمانيا، زعيمة أوروبا الغربية حالياً، بإعادة تشغيل 16 محطة طاقة تعمل بالفحم والنفط "مؤقتاً"، بعد أيام من إغلاق خط أنابيب الغاز نورد ستريم الأول. بالإضافة الى ذلك، ارتفعت مبيعات الفحم الجنوب أفريقية الى أوروبا 8 أضعاف خلال النصف الأول من العام الجاري (2022)، مقارنةً بالعام الماضي، وفق ما أعلنته شركة ثونجيلا ريسورسز، اليوم.

الإمدادات المفترضة تحتاج الى أنقرة

أبحاث الاتحاد الأوروبي عن إمدادات جديدة من الغاز غير الروسي، سيكون كله تحت مقصلة إردوغان. من آسيا الوسطى وغرب آسيا عبر تركيا، مع العلم أن الصعوبات العملية تجعل معظم هذه المشاريع معرّضة للتدخل الروسي، أو مرهونة بأحداث وصراعات سياسية مستمرة.

خط الأنابيب الإيراني

وُضع هذا الاقتراح على أرض الواقع عام 2008، بهدف تزويد الغاز من حقل غاز "بارس" الجنوبي/القبة الشمالية، للمشترين الأوروبيين. كان المشروع ذو جدوى كبيرة من الناحية الاقتصادية، إذ إن لإيران حدود مباشرة مع تركيا عبر خط أنابيب تبريز - أنقرة، والتي ستوفر العبور إلى أوروبا. لكن هذا المشروع أوقف عند حده الأول، مع العقوبات المتعددة من قبل الولايات المتحدة، وهو ما جعل هذا الأمر شبه مستحيل بالنسبة للقارة العجوز. اليوم، مع اقتراب وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق النووي، قد يعود هذا الخط خياراً متاحاً، لكن طبعاً، تسهيل الغاز إلى أوروبا لن يكون من دون اتفاق الحلف الإيراني - الروسي.

خط الأنابيب القطري التركي

إلى جانب إيران، تمتلك قطر، حصةً من حقل غاز بارس/ القبة الشمالية، وهو الأكبر في العالم.  ورغم أن قطر لا تعيقها العقوبات، إلا أن إرسال غازها كان يحتاج إلى المرور في السعودية، الأردن، سوريا (الواقعة تحت عقوبات قيصر) وتركيا. خطَّة معقدة جيوسياسياً. لكن قبل ذلك، وفي عام 2000، وضع المشروع لأول مرة، ومع تطور الأحداث، دخلت قطر بحلف ضد الرئيس السوري بشار الأسد، ثم حصلت أزمة دبلوماسية بين قطر والرياض عام 2017. ومذ وقتها، ورغم تحسّن الأجواء السياسية، إلا أنّ خط الأنابيب هذا، سيكون عرضةً لانقسامات قد تعود فجأةً مع ارتفاع حدة الانقسامات في المنطقة.

ممر الغاز الجنوبي

أذربيجان، المصدر الذي ورَّد 8.1 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الطبيعي إلى أوروبا عام 2021، سيبقى على حاله. يقع هذا الخط جنوب القوقاز حيث يمتد من أذربيجان عبر الأناضول إلى تركيا، وأخيراً عبر البحر الأدرياتيكي الذي ينتهي في إيطاليا. يمكن لهذا الخط، أن يضاعف قدرته إلى 20 مليار متر مكعب مع تطوير حقل "شاه دنيز" للغاز في بحر قزوين، لكن الحجم المتزايد سيوفر ما لا يزيد عن 10% من الغاز الذي كانت تورده موسكو إلى الاتحاد الأوروبي.

عبر بحر قزوين

تمتلك تركمانستان احتياطيات غنية من الغاز الطبيعي، لكن محيطها غير السوي سياسياً، يقلص طموحاتها. يمكن أن تصل إلى الصين عبر كازاخستان، ويحدها جنوبياً إيران التي تعاني من العقوبات، وأفغانستان التي تعاني على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي. كل هذا يجعل الاتصال بأسواق أخرى شبه مستحيل.

كما يمكن، نظرياً، أن يربط خط الأنابيب المقترح عبر بحر قزوين حقول الغاز في تركمانستان بشبكة خطوط الأنابيب في أذربيجان ثم عبر جورجيا وتركيا إلى أوروبا، لكن بحر قزوين ليس ممراً مائياً دولياً، مما يعقد مثل هذا الإجراء، إذ تسمح اتفاقية بحر قزوين لعام 2018 بمد خطوط الأنابيب فوق قاع البحر، ولكن قد تكون هناك ثغرات، مثل التطهير البيئي من قبل جميع الدول الساحلية، ومن ضمنها روسيا، قد تعقد أي مشروع جديد. ناهيك عن أن لتركمانستان علاقات متينة مع روسيا.

خط أنابيب "إسرائيل" - تركيا - الاتحاد الأوروبي

حققت "إسرائيل" اكتشافات كبيرة للغاز البحري في حقلي تمار وليفياثان للغاز في 2009-2010، وفي حقل كاريش عام 2021، وهو ما يتجاوز بكثير متطلباتها الفورية. عملياً، تصدر "إسرائيل" الغاز إلى الأردن ومصر، ويمكنها تصدير الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما يتطلب خط أنابيب تحت سطح البحر أولاً إلى تركيا ثم إلى أوروبا. لكن، يتوقف هذا المشروع عند النزاع البحري مع لبنان، ويتعلق بما ستؤدي إليه المفاوضات غير المباشرة بين بيروت والاحتلال الإسرائيلي. ولأن أجواء المفاوضات، غير إيجابيةً حالياً، فإن كل حقول الغاز "الإسرائيلية" قد تكون عرضةً لصواريخ المقاومة في لبنان، حسب ما هدد الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله.

فوق ذلك، يمر خط الأنابيب عبر المياه الإقليمية لقبرص. وتسيطر قبرص الشمالية المدعومة من تركيا على جزء من تلك الجزيرة، لكن المعضلة أن الاتحاد الأوروبي لا يعترف بقبرص الشمالية، وقد يكون غير راغب في المشاركة في مشروع ينتهك السيادة الإقليمية لدولة عضو داخل اتحاده.

لا شك أن الاتحاد الأوروبي، على المدى البعيد، ومع تطور الأحداث في الحرب الروسية، سيواجه أزمة لن تمر سهلة لا على الأنظمة، ولا على شعوبها. اليوم، أورد تقرير لرويترز أنه بسبب ارتفاع أسعار الطاقة في ألمانيا، سيتعين على الأسر الألمانية دفع ما يقرب من 500 يورو إضافية سنوياً مقابل الغاز بعد فرض ضريبة لمساعدة المرافق على تغطية تكلفة استبدال الإمدادات الروسية. أما في فرنسا، اقترحت هيئة تنظيم الطاقة الفرنسية "CRE" الشهر الماضي زيادة بنسبة 3.89% في تعريفة مبيعات الكهرباء. 

تنبي هذه الأرقام بأن سوق الغاز العالمي سيظل متقلباً، وهو ما سيضع الاتحاد الأوروبي، تحت مقصلة موسكو، وإن كان من حل في المدى المنظور، فإنه سيمر عبر إردوغان، ولهذا الأمر تبعات تتجلى من خلال نفوذ جيوسياسي متزايد لتركيا، ناهيك عن أن خطي الغاز  "Blue Stream" و"Turk stream" اللذين يمران من روسيا إلى تركيا عبر البحر الأسود، هما بالمفهوم الاستراتيجي مصالح أهم حالياً لدى أنقرة من مصالحها مع الغرب.

اخترنا لك