ديون لبنان... المسدَّدة!
ننطلق من النقطة الأخيرة "الفساد" الذي يروَّج كأنه حالة منفردة أو شيء محسوس، في وقت هو عبارة عن بنية تتعمق في تشكيلات وعلاقات الإنتاج في البلاد، أي إن القبض على "مُرتشٍ" هنا أو "سارقٍ" هناك، ما هو إلا شكليات لا تحقق الإصلاح المرتجى. وبالتالي فإن الانطلاق لمواجهة الانفجار المرتقب يتطلب إصلاحاً ضريبياً قبل كل شيء.
شهد لبنان بعد اتفاق الطائف، توجهات اقتصادية يمكن وصفها بالمدمرة للاقتصاد المنتج، وميلاً نحو تعظيم الأرباح الريعية (المصرفية والعقارية)، وغياباً للتخطيط على مستوى إدارة ملفات أساسية، أبرزها النقل والطاقة والعقارات.
هذه السياسات أفضت إلى نتائج كارثية. نزوح سكاني هائل من الأطراف إلى المراكز، وتراجع القدرة الشرائية للغالبية العظمى من السكان، مع تعظيم متسارع لأرباح المصارف، واستفحال أزمة النقل، وغياب أي تنظيم أو خطط لإعمار البنى التحتية المدمرة من الحرب، حيث شهدنا ميلاً متسارعاً لما سمي آنذاك ورشة إعادة الإعمار، سرّعت حركة النزوح السكاني من الأرياف، بدل أن تؤدي إلى ربط الأطراف بالمركز بطريقة تشاركية.
الاستدانة (بهدف الإعمار) التي طبعت العقد منذ العام 1990 حتى العام 2000، ومؤتمرات الاستدانة الاقتصادية من باريس 1 حتى باريس 3 وبيروت 1، عمقت تبعية الاقتصاد اللبناني لمراكز النفوذ العالمية، ليأتي مؤتمر سيدر الأخير كدليل على الرضوخ الكامل للسياسات الخارجية، علماً أن "التزامات الجهات المانحة" تركز على تحديث البنى التحتية، مقابل خطط "إصلاح" تأتي كوصفات جاهزة من صندوق النقد الدولي، وهي خفض الإنفاق على أجور القطاع العام، وخفض دعم السلع الأساسية، والخصخصة، ومواجهة الفساد!
ننطلق من النقطة الأخيرة "الفساد" الذي يروَّج كأنه حالة منفردة أو شيء محسوس، في وقت هو عبارة عن بنية تتعمق في تشكيلات وعلاقات الإنتاج في البلاد، أي إن القبض على "مُرتشٍ" هنا أو "سارقٍ" هناك، ما هو إلا شكليات لا تحقق الإصلاح المرتجى. وبالتالي فإن الانطلاق لمواجهة الانفجار المرتقب يتطلب إصلاحاً ضريبياً قبل كل شيء.
منذ تسعينيات القرن الماضي بدأ لبنان مسلسل الاقتراض غير المجدي، حيث كانت تودع معظم الأموال المقترضة في المصرف المركزي، ويجري تكبيد اللبنانيين المقيمين والمغتربين فوائد هذه الأموال. هذه العملية كانت أعظم وأكبر عملية نقل أموال منظم في تاريخ البلاد، من جيوب مجموع اللبنانيين، إلى جيوب ملّاك ومساهمي المصارف. وبذريعة إعادة الإعمار، بدأت الحكومة بالاقتراض عام 1992، ولم يكن يتعدى حينها حجم الدين العام 159 مليون دولار، بفائدة وصلت إلى 48 في المئة سنوياً. هذه العملية راكمت ديوناً وفوائد ديون أصبحت تراكم فوائد عليها، ما رفع حجم الدين إلى مستويات هائلة اليوم. وسدد لبنان طيلة تلك السنوات أكثر من 77 مليار دولار كخدمة دين (وهي تناهز أصل المبلغ) حيث زادت هذه العملية رأسمال المصارف 100 مرة منذ عام 1993، وأبقت ديوناً تقدّرها اليوم وزارة المال بـ 80 مليار دولار (وهي قيمة أصل الدين حالياً) من دون احتساب قيمة الفائدة المتوجبة عليه، التي إذا احتسبت بمعدلات الفائدة الحالية، فسيصل الدين العام إلى 106 مليارات دولار.
اقتصاديون يؤكدون أن إصلاح هذا النموذج يكون بتدفيع المصارف ضرائب استثنائية على الأرباح تصل إلى 40 و50 في المئة خلال السنوات المقبلة (خطة لمدة 5 أو 10 سنوات). وهذا يعني أن المصارف تصبح شريكة في العبء الاجتماعي، وهذا يعني بالعمق أنه على المصارف أن تتوقف عن كونها "رابحة" وحدها من النموذج الضريبي القائم، حيث تحصل على ما يصل إلى 80 في المئة من أموال الضرائب، وهي بمعظمها ضرائب غير مباشرة على الاستهلاك، أي إنها تشمل الشريحة الأوسع من اللبنانيين بطريقة غير عادلة.
الريوع المالية والعقارية في لبنان، أدت إلى تركز الثروة على نحو حاد، ليكون ثالث أعلى معدل عالمي. ووفق دراسة بعنوان «إعادة النظر في الأعجوبة الاقتصاديّة اللبنانيّة: التركّز الشديد للدخل والثروة في لبنان بين عامي 2005 و2014»، أعدّتها الباحثة في كلية باريس للاقتصاد ليديا أسود، بإشراف الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، فإن 1 في المئة من المقيمين يمتلكون 40 في المئة من الثروة، ويحصلون على 25 في المئة من الدخل، و10 في المئة من السكان يحصلون على 55 في المئة من الدخل، ويمتلكون 70 في المئة من الثروة.
هذا الواقع عبارة عن خلل اجتماعي صارخ، الإجراءات الضريبية تمركز هذا الخلل، والإصلاح المفترض لتحقيق العدالة هو تشطير الضريبة التصاعدية على الفوائد المصرفية ورفعها إلى 15 في المئة ما يؤمن 800 مليون دولار إضافية للدولة. إضافة إلى تشطير الضرائب على الدخل والأرباح الرأسمالية باتجاه تصاعدي، لتصل إلى 30 في المئة على الشطور العليا. وأي إجراء حكومي دون ذلك هو تأبيد للخلل الضريبي القائم.