تسريب إنتقائي لـ"أوراق بنما": اليد الخفية لأميركا

في خضم الأزمة الإنتخابية في الولايات المتحدة تبرز مجموعة "الإتحاد الدولي للصحافيين الإستقصائيين" لكشفها ما يعرف بـ"أوراق بنما". وتُطرح تساؤلات لناحية التوقيت والأسباب والجهات السياسية التي تقف خلف تلك التسريبات خاصة وأن أميركا ترحب بنقل الأموال اليها وتحميها بغلاف قوي لا يخترق من السرية الضرائبية، لا تتوفر في أي منطقة أخرى من العالم.

توقيت مريب وأهداف متعددة

ترحب أميركا رسمياً بنقل الأموال اليها "دون أدنى مساءلة
في خضم الأزمة السياسية الإنتخابية، الأسبوع الماضي، وإستغراق العديد البحث في أوهام وخطورة تصريحات المرشح دونالد ترامب، برزت مجموعة "الإتحاد الدولي للصحافيين الإستقصائيين" في صدر العناوين والتغطية المصورة لكشفها ما يسمى "أوراق بنما،" تتضمن مشاعر الريبة التي إنتابت العديد من المعنيين والمراقبين، منذ البداية، لا سيما وأن مجموعة "الإتحاد الدولي" ذات هوية غامضة وتعرف عن نفسها بأنها "ذراع لمركز الشفافية العام،" مقره واشنطن. أما التمويل فيأتي من ممولين وأثرياء معروفين بتوجهاتهم الداعمة بشدة للمؤسسة الحاكمة الأميركية، منهم: "مؤسسة فورد الوقفية؛ صندوق الأخوة روكفلر؛ صندوق عائلة روكفلر؛ صندوق كارنيغي؛ صندوق الثري وورين بافيت؛ إتحاد الجالية اليهودية" وتبرعات فردية على رأسها "جورج سوروس؛ ستيفن ميردوخ؛ شارلز لويس (الذي سيأتي إسمه لاحقاً)؛" وقائمة طويلة من أهم الشخصيات الإعلامية والسياسية والفكرية والمصرفية. حملة الترويج للأوراق والوثائق بلغت أشدها بتحديد حجمها "11 مليون وثيقة ونيف.. كأكبر تسريب وثائقي في التاريخ،" قيل إنها ثمرة "قرصنة الكترونية" لسجلات وملفات مقر مكتب "موساك فونسيكا" للمحاماة في بنما، الناشط في تقديم خدمات مصرفية بمعزل عن المراقبة – اوف شور، تمت العام الماضي. أحد مؤسسي المكتب، رامون فونسيكا أكد أن مقره "تعرض لقرصنة من قبل أجهزة تعمل من الخارج." كان لافتاً تمييز مجموعة "الإتحاد الدولي" لنفسها وطرق عملها بأنها لن تنشر كامل الوثائق المسربة، بخلاف ويكيليكس، وستقوم بالكشف عن محتوياتها لاحقاً انتقائياً لما تراه مناسباً "في الأيام والأسابيع المقبلة." وصف مدير المجموعة، جيرارد رايل، أهمية المادة المقرصنة بأنها "تتضمن كل وثيقة أصدرها (مكتب المحاماة) لفترة تمتد على نحو 40 عاماً".   وحصلت صحيفة ألمانية، سود دويتش زايتونغ، على الدفعة الأولى من الوثائق التي تقاسمتها مجموعة "الإتحاد الدولي.. مع أكثر من 100 صحيفة ووسيلة إعلامية، وجهود تحقيق إستمرت عاماً كاملاً؛ شارك فيه أكثر من 400 صحفي سراً،" حسبما أفادت الجهات المسربة لها. طاقم كبير من موظفي مجموعة "الإتحاد الدولي" طار من واشنطن إلى  ميونيخ، مقر الصحيفة الألمانية، لتنسيق جهود وزمان الإعلان. جدير بالذكر أن الصحيفة الألمانية عينها كانت تعاونت مع "ويكيليكس" في السابق في عدة ملفات منها تسريبات تخص وثائق لوزارة الخارجية السعودية، الصيف الماضي. السؤال الأبرز في محتويات الوثائق المسرّبة يتعلق ليس بالشخصيات والمؤسسات الضالعة في النشاط المنسوب إليها فحسب، بل الأهم في التفاصيل التي حجبت في الإصدار رقم واحد. ما يعزز تلك الشكوك هو التلميح لتورط كل من الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس وزراء ايسلندا والرئيس السوري عبر أشخاص مقربين منهم، وكذلك "مسؤول مالي يعتقد أنه من حزب الله وأشخاص يدعمون البرامج النووية الإيرانية والكورية الشمالية وشخصين يشتبه بانهما يدعمان رئيس زيمبابوي روبرت موغابي."  ولم يشمل الإصدار أي شخصية أو مؤسسة أميركية. وعليه لا يجوز إستبعاد أهداف سياسية وراء الإصدار، حتى لو طالت بعض "وكلاء" أميركا كرئيس أوكرانيا بيترو بوروشينكو، الذي أضحى مادة مستهلكة بالنسبة لواشنطن، وعبئاً على الدول الأوروبية. الحكومة الصينية أصدرت رداً رسمياً نشرته يومية غلوبال تايمز قالت فيه "ان الحكومة الأميركية تبقى المستفيد الأكبر من وراء النشر." موقع "ويكيليكس" اتهم الحكومة الأميركية مباشرة "بتمويل" مشروع الوثائق بالإضافة للمياردير جورج سورس، وانه موجه ضد روسيا والرئيس بوتين تحديدا. في السياق ذاته، توقيت الإعلان يأتي في الذكرى الخامسة لوثائق ويكيليكس وما تبعها من نشر وثائق سرية تتعلق بالحكومة الأميركية، شيلسي مانينغ، ومن ثم ادوارد سنودن الذي أحدث هزات داخل المؤسسة الحاكمة لا تزال أصداؤها فاعلة وقوية إلى يومنا هذا. من تداعيات وثائق بنما، أميركياً، ما تعتبره الأوساط الليبرالية أنها تصب في خدمة جهود التشديدات الرقابية والأمنية التي تمارسها "وكالة الأمن القومي،" محلياً وعالمياً بحجة محاربة الإرهاب والفساد. بعض النخب الفكرية الأميركية إعتبرت التوقيت متزامناً مع جهود الرئيس أوباما الحثيثة لتطبيق الإصلاحات الضريبية على الأفراد والشركات التي تنوي نقل أعمالها إلى خارج الولايات المتحدة، للتهرب من الضرائب. واتهم أوباما في خطاب القاه يوم الثلاثاء في 5 نيسان/ أبريل، القوانين "سيئة التصميم .. والتي أتاحت فرص الإتجار غير المشروع ونقل الأموال على الصعيد العالمي." والمفارقة أن الولايات المتحدة عينها أضحت الملاذ المفضل للإستثمارات والأرصدة الأجنبية، منذ زمن بعيد، "وجنة ضرائبية" للمستثمرين عبر العالم، نظراً لقوانينها وشروطها الميسرة. القاء نظرة عابرة على آليات عمل الشركات الأميركية، في الداخل الأميركي، يوضح حجم النفاق الرسمي والإدعاء بمحاربة الفساد. في خطاب الرئيس أوباما سالف الذكر، أوضح أن "التهرب الضريبي هو مشكلة عالمية كبرى." تشير البيانات الرسمية إلى أن شركة آبل العملاقة للاكترونيات تحتفظ بنحو 187 مليار دولار نقداً "في حسابات مصرفية" خارجية (اوف شور)، مما أتاح لها التهرب من إستحقاقات ضريبية بمليارات الدولارات، بممارسة علنية. وكالة بلومبيرغ للأنباء المالية أشارت بوضوح إلى إستخدام الأثريا لولاية نيفادا كملاذ للتهرب من دفع الضرائب. وقالت مؤخراً "ترتبط بنما والولايات المتحدة بأمر مشترك: فكلاهما رفض المصادقة على معايير دولية من شأنها تعقيد مهام المتهربين من الضرائب وتحويل الأموال للتغطية على أموالهم." يشار إلى أن نحو 100 دولة ومؤسسات عالمية أخرى وافقت مجتمعة، عام 2014، على فرض شروط مشددة على افشاء معلومات بنكية بالمودعين، والوقفيات واستثمارات أخرى مختلفة، كانت من بنات أفكار مؤسسة إقتصادية أميركية تمولها الحكومة "منظمة التعاون الإقتصادي والتطوير." يشار إلى أن أشهر الملاذات العالمية، سويسرا وبيرمودا، وافقتا على الكشف عن حسابات زبائنها مع السلطات الضريبية المختصة لدول متعددة، بيد أن أبرز رافضي التوقيع على الإتفاقية كانت الولايات المتحدة وبنما. الإصدار الأول للوثائق "يؤكد على عمق السرية المتبعة في بنما،" كما توضح مديرة "المكتب الأميركي لمكافحة الفساد" بالوكالة، ستيفاني اوستفيلد. وأضافت أن بلادها ما هي الا "منطقة سرية شاسعة كما هو وضع عدد من دول بحر الكاريبي وبنما. لا ينبغي علينا أن نكون ملعباً لأموال العالم القذرة، وهو ما أصابنا راهناً." الحكومة الأميركية، ممثلة بوزارة المالية، تشدد من قيودها واجراءات تعقبها للأموال بالعملة الأميركية في الخارج، بينما تتغاضى عن الإستثمارات الأجنبية لديها. أميركا لا تخشى عاقبة تجاهلها الصارخ للمعايير الدولية "ولا تطبق العديد منها، نظراً لنفوذها الطاغي، وهو العنصر الذي يوفر لها حرية عدم التقيد،" كما أوضح أحد أخصائيي الضرائب الدولية في واشنطن، بروس زاغاريس. وأضاف ان بلاده "عملياً هي الدولة الوحيدة التي تستمر في تجاهلها المتعمد. الآخرون مثل بنما حاولوا ذلك، لكن نفوذ بنما لا يبلغ مدى قريباً من السطوة الأميركية." تجاهل أميركا للمعايير الدولية أدى بها إلى تسويق نفسها لدى المستثمرين العالميين لإيداع أموالهم في مصارفها وشروط السرية المطبقة داخلياً، وللملاذات الضريبية في قوانين ولايتي نيفادا وساوث داكوتا، واتباع سياسة "عدم المساءلة" مما يحصنها من الكشف أمام مصادرها الأساسية. للدلالة، أوضحت وكالة بلومبيرغ أن عائلة روثتشيلد العريقة في المجال المالي أسست "شركة وقفية" في مدينة رينو بنيفادا، يبعد مقرها بضعة أمتار عن شارع الملاهي الشهير. وعليه، تمضي "العائلة" بنقل ثروات زبائنها المودعة لديها من الأثرياء الأجانب من الملاذات المعتادة في بيرمودا الى نيفادا، التي لا تطبق معايير الكشف عن الأصول المودعة. وكذلك الأمر في ولاية ساوث داكوتا الساعية لاستقطاب الثروات الأجنبية. أوروبياً، تشتهر إمارة "اندورا،" الواقعة على الحدود الفرنسية الإسبانية بالتسهيلات المقدمة للأموال المودعة للتهرب من الضرائب. البعض أشار إلى إنتشار اللغة الروسية في الإمارة بشكل واسع، اذ استقطبت العديد من الأثرياء الروس الجدد، وأضحت "تتكلم اللغة الروسية أكثر من الكتالونية الرسمية منذ سنوات." في المحصلة، ترحب الولايات المتحدة رسمياً بنقل الأموال اليها "دون أدنى مساءلة،" وتحميها بغلاف قوي لا يخترق من السرية الضرائبية، لا تتوفر في أي منطقة أخرى من العالم.

تجاهل أميركي محكم

"وثائق بنما" تغفل تحديد هوية الشخصيات والشركات الأميركية
في البحث لتحديد المسؤولين عن إدارة الضهر للمعايير المصرفية الدولية تبرز إلى الصدارة إدارة الرئيس أوباما وكذلك وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، لاستثناء الولايات المتحدة من عقوبات إنتهاك النصوص. فالرئيس أوباما تبنى إتفاقية تجارية مع بنما سمحت بموجبها للتهرب الضرائبي بأن يكون موجوداً. كما حث الرئيس أوباما أعضاء الكونغرس للمصادقة على جملة من الإتفاقيات التجارية، إحداها أبرمت مع بنما، تتيح بموجبها للأثرياء والشركات الأميركية إيداع ثرواتهم فيها للتهرب من قوانين الضرائب الأميركية. يشار إلى أن الإتفاقيات والمفاوضات الدولية بشأنها تشرف عليها وزارة الخارجية الأميركية، مما يعزز الإتهامات بتورط المرشحة هيلاري كلينتون، التي قالت عنها صحيفة انترناشيونال بيزنس ديلي، بأنها جهدت عام 2009 في تسويق إتفاقية التجارة الحرة مع بنما وكولومبيا وكوريا الجنوبية، المتعثرة انذاك، نظراً لقلق خصومها من عسر مهمة بنما تعديل قوانينها الضرائبية المخفضة على الإستثمارات الأجنبية، وإختراق جدار السرية في قوانينها الناظمة للمعاملات البنكية، فضلاً عن تاريخ بنما الطويل من عدم التعاون مع شركاء أجانب. وعقب مصادقة الكونغرس على الإتفاقية المذكورة، بدت الوزيرة كلينتون مزهوّة بالإنجاز الذي قامت به "إدارة الرئيس أوباما والتي تعمل بكد مستمر لتعزيز إنخراطنا الإقتصادي في عموم العالم، وما هذه الإتفاقيات الا خير مثال على ذلك الإلتزام."  المرشح للرئاسة وخصم كلينتون، بيرني ساندرز، عارض اتفاقية التجارة الحرة محذراً، عام 2011، من عسر إقناع أي امرئ بصحة الإدعاء حول توفير الإتفاقية لفرص عمل إضافية للأميركيين، مشيراً إلى أن الدخل السنوي الوطني لبنما لا يتعدى نسبة واحد إلى عشرة من الناتج الأميركي. وأضاف "لماذا يتعين علينا النظر باتفاقية تجارة حرة قائمة بذاتها مع بنما، تلك الدولة الصغيرة .. التي أضحت رائدة عالمياً فيما يتعلق بتسهيل تهرب الأثرياء الأميركيين والشركات الكبرى من قوانين الضرائب الأميركية." وفق هذه الخلفية، اغفلت "وثائق بنما" تحديد هوية الشخصيات والشركات الأميركية، وأوردت الصحيفة الألمانية التي اطلعت عليها أن هناك نحو 200 صورة لجواز سفر أميركي ضمن الوثائق "بعضهم يظهر أنه من فئة المتقاعدين الأميركيين الساعين وراء شراء عقارات في كوستاريكا وبنما .. كما أن هناك نحو 3,500 من المستثمرين في شركات خارج الحدود .. ونحو 3,100 شركة مرتبطة بمهنيين في الاستثمار خارج الحدود تقع في ميامي ونيويورك ومناطق أميركية أخرى." بعض كبار الشخصيات الأميركية النافذة تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الزوجين كلينتون، وتدير إستثمارات مالية لشركات أجنبية. إحداها "مجموعة بوديستا،" التي يديرها الزوجان بوديستا في مجال "البنوك والتجارة والعلاقات الخارجية. توني بوديستا كان أحد ممولي حملة كلينتون الإنتخابية، وشقيقه جون ترأس الحملة الإنتخابية. تضمنت قائمة الأسماء، وفق بيانات مجموعة "الإتحاد الدولي" بعض الشخصيات الأميركية، ومنها من له علاقة بعالم الجريمة والإحتيالات المالية. أحدهم، بنجامين واي، رئيس شركة ضخمة في نيويورك تمت ادانته العام الماضي بالإحتيال مع شريكه رئيس البنك السويسري، سيريف دوغان اربك. إستطاع واين النفاذ من عقوبة أشد بدفع غرامة مالية كبيرة. ارتضت السلطات القضائية الأميركية بتغريم عدد من كبار المتهمين بمبالغ رمزية مقارنة بما تسببوه من ضرر للآخرين والثراء الذاتي الفاحش. ليس هناك من إجراء أو عقوبة  تحفز السلطات القضائية على انزال عقوبات سجن طويلة، مما يعزز المعتقد الشعبي بأن ذلك العدد الكبير من الأثرياء لديه نفوذ سياسي واسع داخل المؤسسة الحاكمة؛ الأمر الذي يفسر أيضاً حرص مجموعة "الإتحاد الدولي" على عدم تحديد أسمائهم.

اخترنا لك