قال كلمته ومشى.. ثم عاد"الطيب"

لماذا تراجعت أنقرة عن شرطها عالي السقف لإتمام المصالحة مع تل أبيب وما الذي تغير؟ بعد سنوات من القطيعة ها هي الظروف التي أملت على تركيا إعادى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.

من المشادة التي حصلت بين أردوغان وبيريز خلال مشاركتهما بمؤتمر دافوس عام 2009.
 المعلومات التي كانت حتى الأمس القريب تغذيها التسريبات والمصادر باتت اليوم رسمية. اتفاق المصالحة بين أنقرة وتل أبيب بات ناجزاً. تفاصيله باتت معلنة. الأهم أنها تعكس موازين القوى بين القوتين العضوين في حلف الأطلسي.
هذه الموازين لم تكن بحاجة إلى اتفاق مصالحة لقراءتها. بعض المراقبين يجزم أن العلاقات بين الدولتين لم تهتز دعائمها أصلاً. 
يفسر هؤلاء التوتر الظرفي في العلاقة انطلاقاً من رغبة أردوغان بخلق عداء وهمي لخداع مؤيديه. على مدى عقود كانت تركيا أوثق حلفاء إسرائيل في المنطقة. هذا ثابت.
 
هناك ما يدلل بحسب باحثين أنه منذ البداية قبلت تركيا بالدونية في العلاقة مع إسرائيل. لقد انطلقت النخب العلمانية التي توالت على حكم تركيا من افتراض مفاده أن تعزيز العلاقة مع الولايات المتحدة يستدعي توثيق العلاقة مع إسرائيل. وبفضل هذه العلاقة، تعاظم التعاون الاستخباري والأمني بين الجانبين على مدى عقود.
 
ومن المفارقات التي حكمت فترة التوتر أن العلاقات الاقتصادية بين الجانبين تعاظمت ووصلت إلى مستويات غير مسبوقة.
ست سنوات من القطيعة مع إسرائيل بعد حادثة "مرمرة"، ماذا حققت أنقرة في نهايتها؟
حصلت على اعتذار علني وكان هذا شرطها الأول.
نالت تعويضات بعشرين مليون دولار مقابل مواطنيها العشرة الذين استشهدوا في الهجوم على سفينة مرمرة. لكن تعين عليها بالمقابل إسقاط الملاحقات القضائية ضد العسكريين الاسرائيليين.
أما شرطها الثالث الذي كان العائق الرئيسي امام التوصل الى اتفاق فقد تراجعت عنه أنقرة. يتمثل هذا الشرط في رفع الحصار عن غزة.
قال نتنياهو كلمته "اتفقنا على استمرار الحصار الأمني والبحري المفروض على قطاع غزة وهو أمر لم أكن لأتساهل بشأنه".
وأضاف "الاتفاق سيسمح بمعالجة انسانية في قطاع غزة وفقاً لاعتبارات أمنية اسرائيلية".
يسلب الاتفاق تركيا إذا انتصاراً كان يمكن أن تجيّره لغزة، ويعطيها بدلاً من ذلك جائزة ترضية تحفظ ماء الوجه. مساعدات الى القطاع عبر ميناء اشدود الاسرائيلي، وبناء مشفى ومعمل جديد للكهرباء ومحطة تحلية لمياه الشرب.
حتى هذه الجائزة كانت مدفوعة سلفاً. منع نشاطات حماس على الأراضي التركية كانت شرطاً إسرائيلياً آخر اضطرت أنقرة إلى الرضوخ له.
لماذا تراجعت أنقرة عن شرطها عالي السقف، برفع الحصار عن غزة، وما الذي تغير؟
أمور كثيرة تغيرت منذ زمن القطيعة عام 2010. ضاقت الخيارات أمام وريثة العثمانيين. طموحاتها في زعامة المنطقة تناثرت. سقط الإخوان في مصر. حساباتها في سوريا فشلت فشلاً ذريعاً. نام أردوغان على حلم الصلاة في الجامع الأموي بدمشق فاستيقظ على كابوس الكيان الكردي. في الداخل أزمة سياسية. مدن جنوب شرق البلاد تحولت بشكل غير مسبوق إلى ساحات حرب. الكرد السوريون باتوا يسيطرون على معظم الحدود التي تمتد لأكثر من 600 كلم. بقي لديهم جيب واحد من نحو 80 كلم بين جرابلس واعزاز. الحليف الأميركي لا يستجيب. حساباته السورية لا تتقاطع مع رغبات أردوغان وطموحاته. مع أوروبا أزمة مستعصية ولا يبدو في الأفق ما يشي بانفراجات.

ضاقت الخيارات أمام أنقرة. سقطت الطائرة الروسية في مغامرة تركية غير محسوبة. تراجعت مؤشرات أنقرة الاقتصادية. اكتملت الدائرة. "صفر مشاكل" باتت صفر حلول. كان لا بدّ من مخرج.  

كل هذه العوامل أدت بحسب متابعين إلى تسريع اتفاق المصالحة مع تل أبيب. اتفاق بدا خلال الأشهر الأخيرة أن أنقرة تلهث إليه مدفوعة بأزماتها، فيما بقيت إسرائيل تنتظره بشروطها.

لا يعني ذلك أن تركيا ستخرج خالية الوفاض من هذا الاتفاق، وإلا ما كان ليتم. لا شك أن هناك مكاسب معلنة وأخرى غير معلنة، وهي تتعدى السياسة إلى الاقتصاد، ولا سيما ما يتعلق بالغاز، وإمداداته. 
سنوات مرت على أحداث "الربيع"، وقبلها على مرافعة دافوس. المرافعة التي جعلها الرجل "الطيب" رافعته. بضعة كلمات كانت كفيلة بحمله ملكاً على قلوب العرب والمسلمين. وقتها توجه للرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بالقول: "حين يتعلق الأمر بالقتل أنتم تعرفون جيدا كيف تقتلون. وأنا أعرف جيدا كيف قتلتم أطفالا على الشواطئ".

لم يكن يحتاج إلى أكثر من ذلك لكي يستقبل بعد عودته إلى اسطنبول استقبال الأبطال وترفع صوره في العالم العربي. ما الذي تغيّر اليوم؟ بالتأكيد لم تتغير إسرائيل. تبدلت رياح المصالح واتسعت لها أشرعة السياسة.

اخترنا لك