الهبّة في الدّاخل الفلسطيني المحتلّ.. قراءة في النشأة والتبعات
أرادت سّلطات الاحتلال الإسرائيليّة "تدجين" الفلسطينيين في الداخل، لكنهم أشعلوا الأرض المحتلة وفاجأوا الإسرائيلي بأنَّ هويتهم الفلسطينية حاضرة، ولم تخفت أصلاً.
أعلنت "وثيقة الاستقلال"، التي وقّعها ممثّلو ما يسمى "المجتمع اليهودي" والحركة الصهيونية عشية 14 أيّار/مايو 1948، أنَّ "إسرائيل دولة طابعها ديمقراطي - يهودي"، وهو مفهوم سياسي أقرب إلى البدعة، إذ أضافت أنَّ ما سُمي "دولة إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي"، وأنَّ "اسمها يعبّر عن كونها كذلك".
المفارقة الأخرى أنَّ الوثيقة نفسها تدّعي ارتكاز "الدولة الوليدة" على قيم الحرية والعدل، "وتحقيق المساواة التامة في الحقوق لجميع مواطنيها، من دون تمييز من ناحية الدين والعرق والجنس"، بمن في ذلك "مواطنوها العرب"، الذين تعهّدت بالحفاظ على "التمثيل المناسب لهم في مؤسَّسات الدولة".
معركة الانتماء والهُوية في الدّاخل الفلسطيني المحتل
سنوات من الجمود والركود السّياسي داخل فلسطين المحتلة العام 1948، بدت للمراقبين خارج تلك الحدود، الذين ذُهلوا أمام مشهد الفلسطيني المنتفض بوجه "إسرائيل" في الداخل، كأنها تنفجر على حين غرّة، إنما هي حقيقةً تراكم لسنوات طويلة من السياسات الاستعمارية الإسرائيلية.
لعلّ ذروة مشروع الأسرلة و"المُواطَنة" تجلّت في أوائل التسعينيات، تزامناً مع "اتفاقيات أوسلو"، حين صُدم فلسطينيو الـ1948 بمشروع الدولة الفلسطينيّة العتيدة الَّذي استثناهم جملةً وتفصيلاً، ما شكّل أزمة هُويّة حقيقية دفعت جزءاً منهم إلى الانفتاح على فكرة "المواطَنة"، لكونها ضمن واقعهم اليوميّ المعيش.
عمدت المؤسَّسة الصّهيونيّة إلى تهويد الوعي في الداخل، إلى جانب تهويد الأرض، حيث جرى العمل على "فك ارتباط" فلسطينيي الـ1948 بمحيطهم الإقليمي والعربي، وإشغالهم بقضايا المسكن، وزيادة ميزانيات السلطات المحلية في "الوسط العربي[1]"، وخطاب قيَم المساواة بما أطلق عليه "دولة لجميع مواطنيها"، والحقوق المدنيّة. ودائماً ما غُلّفت هذه القضايا بشعارات رنّانة، كمشروع "المُواطَنة" والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية الديمقراطية، وذوبان الجزء في الكلّ ضمن أطر "مؤسَّسات الدولة وهيبتها". وبالتالي، هذا الـ"ستاتيكو" (Status quo) أنتج جواً عاماً للفلسطينيين في الداخل المحتل، يعتمد أولوية المصلحة الفردية على حساب المصلحة الوطنية القائمة على التمسّك بالبُعد الفلسطيني والعربي.
سياسات التّحريض الإسرائيليّة المرافقة للهبّة
قبيل أحداث الهبّة الشعبية في أيّار/مايو 2021، تنبّأ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت بمقال له نُشر في صحيفة "معاریف" الإسرائيلية، بأنَّ بنيامين نتنياهو سيحرّض ويدفع نحو تصعيدٍ في القدس ما لم يستطع تشكيل حكومة، لحساسية العاصمة الفلسطينية ومركزيّتها، ولكونها الورقة الأخيرة بالنسبة إليه، هرباً من الهزيمة السياسية. وما لم يستطع ذلك، فإنه سيشعل إحدى الجبهتين الشمالية أو الجنوبية.
في الخلفية، كانت هناك قضايا انتشار السلاح، وعصابات الجريمة المدعومة من السلطات الإسرائيلية، والحراك الأسبوعي في مدينة أم الفحم في إثر ذلك، والتظاهرات التي تبعتها في مدينة يافا، احتجاجاً على مخططات التهجير الناعم التي تتّبعها شركات الإسكان الإسرائيلية، مثل "عميدار" وغيرها.
كلّ ذلك تزامن مع ظهور حيّ الشيخ جرّاح المقدسي في المشهد، وازدياد وحشية الممارسات الإسرائيلية في "باب العمود" في شهر رمضان تحديداً، حيث مُنع فلسطينيو الـ1948 من الوصول للصّلاة في القدس؛ تلك المدينة التي تشكّل نقطة التقاء الشّعب الفلسطيني ببُعدها الدّينيّ والسياسيّ والوطنيّ. أقانيم القدس الثلاثة هذه لا يمكن فصل بعضها عن بعض بالنسبة إلى الفلسطيني، بل يجب أن لا تُفهم في سياقات مستقلّة الواحدة عن الأخرى.
ما بين القدس والمدن "المختلطة"
استشعر الفلسطينيون في الداخل المحتل أنّ ما يجري في الأحياء المقدسية ليس بعيداً عن واقعهم، وأن ما يرونه في القدس آتٍ لا محالة ليطالهم، فثاروا غضباً للعاصمة الفلسطينية وغضباً لِحالهم، ولا سيّما في "المدن المختلطة"، أي المدن الساحلية واللد والرملة والنقب.
وقد تصدّرت "المدن المختلطة" في الداخل المحتل واجهة التظاهرات والهبّة الشعبية، وهي المدن التي تم زجّ المستوطنين الإسرائيليين فيها بكثرة منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة في العام 2005، أو بعد ما يُسمّى بخطّة أريئيل شارون "فك الارتباط الأحادي الجانب"، إذ جرى العمل على مشروع "الاستيطان في القلوب"[2] الذي اخترعه الحاخام يوئيل بن نون، وذكره في مقال له نشر في مجلة "نِكُوداه" الإسرائيلية في العام 1991، وأصبح جزءاً من السياسات الإسرائيلية الرسمية، بهدف التضييق على الفلسطينيين ومحاصرتهم وإنشاء ثقل سياسي يتوزع بين "قمم الجبال" في الضفة الغربية، و"قلوب" المدن الفلسطينية المحتلة، بحيث يُخلق "مجتمع توراتي ممتدّ من كِريات شمونة (الخالصة) شمالاً، إلى إيلات (أم الرشراش) جنوباً"، وبالتالي يمنع تكرار ما جرى في مستوطنات غزة آنذاك.
التعامل الإسرائيلي مع الهبّة في الداخل
لم يقتصر التعامل العنصري مع فلسطينيي الداخل على المؤسسة السياسيّة والأمنيّة، بل انزلق بطبيعة الحال إلى "المجتمع" الإسرائيلي ومؤسسات "المجتمع المدني" والشأن العام. وفي 18 أيّار/مايو الماضي، حين تم إعلان الإضراب الشامل في كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، تسابقت المؤسَّسات وأماكن العمل على التهديد بفصل العاملين في حال تغيّبهم، أو بإيقاف توظيف الفلسطينيين من الأساس. كما ذكرت الصحافية في "ذي ماركر" الإسرائيلية التابعة لصحيفة "هآرتس"، عَدي دوفرات ميزريتس، أنَّ "المواجهات انتهت، لكن التوتّر أبعد من أن ينتهي.. أصبح الإسرائيليون، أصحاب المصالح، يكتبون أننا نبحث عن عمّال يهود حصراً، وليسوا عرباً".
الجهاز الصحّي تأثر هو الآخر (للمفارقة، معظم المستشفيات الإسرائيلية بُنيَ أساساً كمعسكرات تقدّم خدمات صحية لـ"جيش" الاحتلال، وبعضه ما زال كذلك، مثل مستشفى "أساف هَروفيه" و"شيبا")؛ فبعد إعلان الإضراب، هدّد بعض المستشفيات الأطباء المضربين بتقديمهم للجان طاعة قبل الفصل. وكان مستشفى "هيلِل يافِة"، مثلاً، قد دعا عدداً من الأطبّاء والممرضين إلى "اجتماعات توضيحية بسبب الغياب غير المهني عن العمل".
في المقابل، تتّجه توصيات الكثير من مراكز البحوث والمحلّلين الإسرائيليين نحو دمج فلسطينيي الـ1948 أكثر في المؤسَّسة الإسرائيلية، وتطبيع أوسع مع "المجتمع" الإسرائيلي في المستقبل، على غرار توصية عضو الكنيست السابق ورئيس "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" يوحنان بليسنر للقيادة الإسرائيلية في هذا السياق، "بالتفريق في التعامل بين حماس والجهاد الإسلامي في غزة من جهة، وفلسطينيي الـ1948 من جهة أخرى"، والعمل على "معالجة التحديات الجوهرية التي يعانيها المواطنون العرب، وإشراكهم أكثر في السياسة، وبالتالي دقّ إسفين بينهم وبين القادة الإسلاميين في غزة، الذين سعوا لتجنيد فلسطينيي الـ1948 لمصالحهم".
كسر الحواجز الاستعمارية وتبدّد الخوف
مع اقتراب ذكرى "توحيد أورشليم" التي يحتفل بها المستوطنون في العاصمة الفلسطينية المحتلّة، اشتدّ عود المواجهات في الداخل في أكثر من 30 بلدة على امتداد فلسطين التاريخية، وأسقط شبّان مدينة اللّد العلم الإسرائيلي في المدخل الرئيسي، وعَلا مكانه العلم الفلسطيني مساء العاشر من أيّار/مايو الماضي، وأصبح مشهد دوريات الشرطة المحترقة بعد ملاحقاتها الفارغة للشبان مشهداً عاديّاً من أعالي الجليل حتى صحراء النقب، وقُصفت المدن والبلدات المحتلة رداً على اعتداءات الاحتلال، فخرج فلسطينيو الـ1948 مهلّلين ومحتفلين يحيّون قادة المقاومة في غزّة. وفي الشوارع المحتلة، رُفعت الأعلام الفلسطينيّة "الخارجة عن القانون" في العُرف الإسرائيلي، وأُحرقت إشارات المرور، وحُذفت الكتابات العبرية عن اللافتات التي تُدلّ على أسماء المدن والبلدات والمفارق، وكُتب بدلاً منها "القدس - فلسطين"، ورُسمت الجداريات الفلسطينية، وأُحرقت مراكز الشرطة.
استشهد موسى حسّونة ومحمّد كيوان، واعتُقل الآلاف، ولا يزالون معتقلين، لكنَّ المحتلّ الإسرائيليّ وجد نفسه بحاجةٍ إلى إرسال تعزيزات مكثّفة لـ"الجيش" والشرطة وقوات "اليمام واليَسام واليّمار" الخاصَّة وحرس الحدود. استُجلب المستوطنون المسلّحون من مستوطنات الضفة الغربية للاعتداء على الفلسطينيين، وتمَّ التشويش على شبكات الاتصال لأول مرة، وقوبلت التظاهرات بالرصاص الحيّ والمطاطي العشوائي. أما قنابل الصوت والغاز، فأصبحت روتينية.
فقد الاحتلال السّيطرة على المشهد المشتعل في الداخل لأيام، وسقط معها حاجز الردع الوهمي الذي بنته لفلسطينيي الـ1948. وكان وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق موشيه يعالون قد عبّر عن ذلك بوضوح، معلّقاً على الأحداث في مقابلة لإذاعة قناة "كان" العبرية: "كان فلسطينيو الداخل ليذبحونا لو كانت دولتنا ضعيفة. لو لم نكن أقوياء، لما كان ثمة وجود للدولة اليهودية".
أرادت السّلطات الإسرائيليّة إذاً "تدجين" الفلسطينيين في الداخل، كما أرادت لهم أن ينسوا، موهِمةً إياهم بالانخراط في "المجتمع". لم ترِدهم أكثر من "عبيد منزل" يروّجون للديمقراطية الإسرائيلية الكاذبة، لكنهم أشعلوا الأرض المحتلة، ففاجأوا الإسرائيلي الّذي لطالما عاملهم بنزعة أمنيّة، ورأى تهديداً في هُويّتهم. لقد فاجأوه بأنَّها حاضرة، ولم تخفت أصلاً، وأثبتوا لمن زايد عليهم بأنَّهم في جميع الأحوال فلسطينيون بكل ما تحمله الكلمة من أبعاد، ولا يقبلون تسميةً أو انتماء آخر، رغم التناقضات الكثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
[1] الوسط العربي: مصطلح مستخدم في "إسرائيل" لوصف مجتمع فلسطينيي الداخل، يقابله مصطلح "الوسط اليهودي" لتوصيف المجتمع الإسرائيلي.
[2] صاغ الحاخام يوئيل بن نون مصطلح "الاستيطان في القلوب" في مقال نشره في مجلة "نِكُوداه" الصهيونية في العام 1991. المصطلح يعكس التصور القائم على أنَّ الاستيلاء على الأرض لا يكفي. من أجل تحقيق أهداف الصهيونية، على حركة الاستيطان التأثير في "إسرائيل" وفي التصورات التي تميّزها، من خلال الارتباط بالإسرائيليين العلمانيين ومَن هم خارج المعسكر الديني الصهيوني. يتمّ ذلك عن طريق إقامة "نوى توراتية" تعمل في المدن، وخصوصاً المختلطة منها. وهكذا "تستقر في القلوب"، وهو ما تم العمل به.