لماذا أصبحت طرابلس ساحة استثمار أمني وتحريك شعبي؟
أثارت التحركات المختلفة المظاهر في مدينة طرابلس اللبنانية في فترات مختلفة تساؤلات عن سبب تصدر المدينة للتحركات المختلفة، وخصوصاً منها العنفي الطابع. ولا بد أن يكون لطرابلس خاصية تتجلى فيها هذه المظاهر تكراراً.
تصدرت مدينة طرابلس، شمال لبنان، اهتمام المراقبين في مشاركتها بالتحركات الاحتجاجية الأخيرة، فبدت متقدمة على بقية مسارات الاحتجاج في مختلف المدن والمناطق اللبنانية، إن من حيث زخم التحركات، أو من حيث ممارسة العنف أحياناً بما تجاوز بقية المناطق.
والإشكالية كانت مع انطلاق التحركات في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي حيث بدت المدينة منتظمة في تحركاتها، خصوصاً في تجمعها في ساحة النور، التي انطلقت فيها شعارات بعيدة عن العنف الذي شهدته المدينة مع انطلاقة الأحداث السورية، وانضواء الكثير من أبنائها في الصراع، كما في التقاتل الداخلي الذي عرف بصراع باب التبانة- جبل محسن.
التدخل في الصراع السوري، والتقاتل الداخلي، صبغ المدينة بصبغة سلفية، جهادية، فإذا بالتحركات الاحتجاجية الأخيرة تظهرها بمظهر آخر، ليس على صلة بالمظهر الأول، مما طرح علامات استفهام عن هذه الإشكالية.
وفي بعض محطات التحركات الاحتجاجية، مثل قطع الطرقات، والهجوم على المصارف، والمجابهات مع الجيش اللبناني، اتخذت التحركات الطرابلسية مظاهر عنفية شديدة ربما فاقت بعنفها المظاهر في المناطق الأخرى.
يحتاج التفسير للوضع الطرابلسي لأبحاث تاريخية، وسوسيولوجية، وربما استخبارية، لفهم ما جرى، وما يمكن أن يجري، والبداية حول الوضع الراهن، واختلاط التحركات المنتظمة مع التحركات العنفية.
يجد البعض في تفسير ظاهرتي العنف والسلمية في تحرك واحد في آن باختلاف الانتماء الطبقي للمشاركين في التحركات، فبينما كانت التحركات ذات الطابع العسكري-الأمني سابقاً تقوم على أكتاف أبناء المناطق الفقيرة، وهي المناطق الأوسع، والأكثر انتشاراً من طرابلس القديمة والوسيطة، فقد شارك في الاحتجاجات الأخيرة أناس من مختلف فئات المدينة، من المناطق الثرية، والمتوسطة الحال، والمنتظمة في أحزاب وتجمعات نظامية، هؤلاء صبغوا التحركات بطابع هادئ.
وبغض النظر عن حجم المشاركة الطرابلسية في الاحتجاجات، ودور الإعلام المركز في تضخيمها، لكن الحالة سيطرت على المدينة بمن شارك فيها، فبدت طرابلس رافضة للسلطة، بغض النظر عن الأسلوب، ونوع الممارسة.
ويعود السؤال ليطرح نفسه: ما هي الإشكالية الدائمة القائمة بين طرابلس والسلطة اللبنانية؟
قيل الكثير في توصيف الحالة الطرابلسية، واستبعدت حقيقة أن طرابلس لم تدخل في الوطن منذ تكونه كياناً منفصلاً عن محيطه ابتداء من اتفاقية سايكس-بيكو 1916، وإعلان صيغته النهائية 1943. وبداية الأمور، رفضت عديد من عائلات طرابلس الانفصال عن محيطها، عندما حاول المستعمر الفرنسي رسم خطوط الصيغة الجديدة، وتجلى الرفض برفض مضاد، ما دفع السلطات المختصة إلى إبقاء المدينة كأنها خارج السياق الوطني، ووقعت فيها، على فترات متقطعة، صدامات بين السكان وبين الجيش الفرنسي حيث سقط العديد من الشهداء رفضاً للاحتلال.
الصحفي الطرابلسي مايز الأدهمي، صاحب دار "الإنشاء" التي أصدرت الجريدة السياسية اليومية الوحيدة خارج العاصمة، سنة 1947، وتعتبر داره أهم مركز توثيقي لطرابلس، وربما المركز الوحيد، ومن أهمها للتطورات اللبنانية المختلفة.. يرد الأدهمي مشكلة طرابلس مع السلطة إلى البداية مع إعلان دولة لبنان الكبير، والسبب في ذلك أن "طرابلس كانت رافضة للانفصال عن الداخل السوري باعتباره المنطقة الحيوية التي تنمي اقتصادها، وتجعل منها منطقة مزدهرة، واشتدت الأزمة منذ إعلان لبنان الكبير، وهذا ما استتبع عقد مؤتمرات الساحل، وطرح مشكلة عامة خصوصاً بعد أن ضمت مدينة طرابلس والأقضية الأربعة للبنان الكبير بهدف تكبير حجم لبنان".
وأوضح الأدهمي في حديثه للميادين نت أن "طرابلس قبلت الانضمام إلى دولة لبنان على أساس أن يكون هناك نمو متوازن لكل المناطق، وهذا ما لم يحدث. حتى إذا جاءت القطيعة الاقتصادية في الخمسينات، قطعت أوصال طرابلس عن محيطها، وعوملت كأنها منطقة نائية فلم يتم أي مشروع هام فيها حتى اليوم، لذلك طرابلس مستمرة بالمعاناة".
وعلى سبييل المثال عن نظرة السلطة إلى طرابلس، يورد الأدهمي واقعة زيارة وفود طرابلسية للرئيس كميل شمعون 1953، طالبته خلالها بتحسين مرفأ المدينة، فرد: "لا توسعة لمرفأ طرابلس حتى ينجز الحوض الرابع في مرفأ بيروت".
يعتقد مطلعون عايشوا تطورات طرابلس منذ ستينات القرن الماضي أنه "بين التزام الطرابلسيين ببعدهم العروبي، واعتكاف السلطة عن إيلائهم ما يحتاجونه، ظلت الهوة بين الاثنين واسعة، وبقيت طرابلس على خصومة دائمة مع السلطة، وأبرز تجليات تلك الخصومة انضمام طرابلس سريعاً إلى أحداث سنة 1958، الداعمة للدعوة الناصرية العروبية، كما كانت أول مدينة عصية عليها انتصاراً للثورة الفلسطينية، عقب نكسة حزيران 1967حيث قام أول عصيان مدني على يد أحد أبنائها، فاروق المقدم 1968، في حركة عرفت بحركة "24 تشرين"، وبقيت مناطق كثيرة في المدينة خارج سيطرة السلطة لفترة طويلة".
غياب دور الدولة أفسح المجال للتيارات والأحزاب
وعلى خلفية وفود المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، بدأت حالات متعددة من العصيان تظهر على الساحة، منها حركة "اللجان الشعبية"، ثم حركة "الغضب"، وهما حركتان نمت في ظلالهما حركة تمرد شعبية واسعة ضد السلطة في باب التبانة.
سنة 1972 أيضاً، شهدت المدينة حركة عصيان جديدة في أسواقها الداخلية، وهذه المرة في باب الرمل، للجهة الجنوبية للمدينة القديمة، في ساحة تعرف بساحة "الدفتردار"، حيث أقامت شخصية وافدة من عكار سلطتها، بالتفاعل مع المقاومة الفلسطينية، وعرفت بحركة "أحمد القدور"، واستمرت حتى 1974.
إشكالية العلاقة بين طرابلس الممتدة منذ نشأة الكيان، والسلطة، تكرست بوجود تيارات إسلامية منها "الجماعة الإسلامية"، و"جند الله"، وتيارات سلفية تركزت مع آل الشهال، و"جمعية المشاريع" (الأحباش)، جلها رفض الاعتراف بقيام لبنان الكبير، كما أتاحت تلك الإشكالية نمو الحركات اليسارية المختلفة، فنما فيها بقوة مؤيدون لأحزاب البعث، والاشتراكي، والشيوعي بمختلف تشكيلاته، والقومي، والناصري، وجبهة المواجهة الوطنية التي تشكلت في جبل محسن أواسط السبعينات. وقد ساهمت هذه الحركات بالتجييش ضد السلطة في الحركة المطلبية الواسعة عام 1973، وفي تحركات دائمة لاحقة، ظلت تتحرك، وتتفاعل على مدى السنوات التالية.
صراعات بين مكونات المدينة أبعدتها عن الاستقرار والتنمية
بنهاية الحرب الأهلية 1976، وقع خلاف بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، فانقسم التحالف الذي ضم القوى الموالية لهما، في جبهتين، كان من نتيجتها المجابهة القاسية مع جبل محسن حيث أغلبية مؤيدة لسوريا، فانطلقت القوى المؤيدة لمنظمة التحرير من باب التبانة في هجوم على جبل محسن أدى إلى تهجير الآلاف من أبنائه.
ويوم عاد الاستقرار للبنان بقرار من جامعة الدول العربية بواسطة قوات الردع العربية، وتمركز الجيش السوري في طرابلس، جرت ممارسات اتخذت طابعاً انتقامياً، بين جبل محسن وباب التبانة، بدأت فردية، وما لبثت أن تطورت بالتدريج ابتداء من سنة 1979، حتى تفاقمت الحالة، إلى أن خلت المدينة من أي سلطة، وتأسست فيها "حركة التوحيد الإسلامي" سنة 1982، وسيطرت على طرابلس، وكان التوتر دائماً بين جبل محسن وباب التبانة في هذه الآونة، حتى عودة دخول الجيش السوري إلى المدينة 1985.
استقرت الأحوال الأمنية في طرابلس، لكن ما جرى طوال هذه السنوات من الصراع كان كافياً ليقضي على أية تنمية فيها، فظلت أوضاعها التنموية والاجتماعية في تردٍ مطرد.
في هذه الفترة، بدأ اهتمام منظمات دولية غير حكومية بالمدينة، وتوسع دورها زمن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، فبنت علاقات اجتماعية في المناطق الفقيرة والوسيطة، وقدمت مساعدات لفئات من أبناء المدينة، ولم تغب عن الساحة، دون أن يبرز لها دور واضح، حتى انطلاق الحركات الاحتجاجية 17 تشرين الأول/أكتوبر ليظهر مدى تعمقها في المجتمع الطرابلسي لما لعبته من دور في تحريك مجموعات واسعة انضوت في التحركات الاحتجاجية.
ظلت التنمية غائبة عن طرابلس في مرحلة الطائف، وبعد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، سادت توترات الساحة اللبنانية، فعاد الصراع للاندلاع بين باب التبانة وجبل محسن ابتداء من 2008، واستمر حتى سنة 2014 مع فترات هدوء نسبية.
وبين توظيف المختبرين للأعمال العسكرية من أبناء المدينة، وانخراط المزيد منهم من أبناء الأحياء المدقعة الفقر في مختلف الصراعات، مع تحفيز لهم من قبل المنظمات غير الحكومية، ومن قبل بعض قيادات المدينة، تحولت الساحة الطرابلسية إلى ساحة خصبة للتوظيف الأمني، والتحريك الشعبي لمن يريد، وأفلتت المدينة رهينة لمن هو مستعد للاستثمار الشعبي فيها، وما تزال.
لقد أمضت طرابلس القرن الماضي في مجابهات وصراعات وتوترات غلبت على حياتها العامة، ولم تشهد إلا فترات هدوء قليلة، ومن هنا ظهرت متقدمة في عنفها، ومدى مشاركتها في مختلف التحركات الأمنية، والعسكرية، والاحتجاجية، والجرح الطرابلسي نازف، دون من يسد نوافذ استثمار أوضاعها الاجتماعية في الصراعات القائمة بمختلف الاتجاهات.