هل يتحول "قانون الإجهاض" في الولايات المتحدة مادة للاستقطاب السياسي؟
تسريبات المحكمة العليا الأميركية حول إلغاء قانون الإجهاض تهزّ الرأي العام الأميركي، وتُعيد إلى الواجهة جدال الحرية العقيم حول الإجهاض ما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
نشر موقع بوليتيكو الإخباري الأميركي، قبل يومين، وثيقة مسرّبة تكشف أن المحكمة العليا الأميركية تستعد لإلغاء قرار يعود إلى عام 1973، ويسمح بالإجهاض، وهو حق دستوري أساسي تتمتع به ملايين النساء في الولايات المتحدة الأميركية منذ حوالى الـ 50 عام.
هذه التسريبات الخطيرة هزّت الرأي العام الأميركي، إذ تكمن أهميتها في أن ما يقرب من نصف النساء الأميركيات في سن الإنجاب (18-49) - أي حوالى 36 مليون امرأة – سيفقدن إمكانية اللجوء إلى الإجهاض بشكل قانوني، وذلك وفق تقديرات أصدرتها منظمة الأبوة المخططة، وهي منظمة رعاية صحية تقدم عمليات الإجهاض.
وإذا أقرت المحكمة العليا القرار المعروف باسم "رو ضد ويد" بصورة نهائية، فستعود الولايات المتحدة إلى الوضع الذي كان سارياً قبل 1973، عندما كانت كل ولاية حرة في أن تسمح بالإجهاض أو أن تحظره. بالتالي يصبح الإجهاض غير قانوني في 26 ولاية أميركية، وذلك بحسب "معهد غوتماكر" للأبحاث.
وتعكس الوثيقة المسربة - المسماة "المسودة الأولى" - رأي أغلبية المحكمة. وقد كتب القاضي صامويل أليتو، في المسودة المكونة من 98 صفحة، أن القرار كان "مخطئاً بشكل فاضح منذ البداية، وكان منطقه ضعيفاً للغاية، وكان للقرار عواقب وخيمة". لكن رئيس المحكمة العليا جون روبرتس، أكد أن "هذه التسريبات لا تمثل القرار النهائي للمحكمة".
قرار الإجهاض: السياق التاريخي
عام 1973 صدر قرار يشرع الإجهاض في الولايات المتحدة الأميركية، ما يسمح لكل ولاية أميركية بحظره بشكل منفرد. وأعطى قرار "رو ضد وايد" النساء في الولايات المتحدة الحق المطلق في الإجهاض في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، وحقوقاً محدودة في الثلث الثاني من الحمل.
ورأت المحكمة أن قرار الإجهاض يجب أن يترك للحامل بالتشاور مع طبيبها خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وأن الدولة قد تنظم الإجهاض بطرق ترتبط بشكل معقول بصحة الأم في الفصل الثاني، وأنه خلال الفصل الثالث قد تنظم الدولة أو تحظر الإجهاض، إلاّ عند الضرورة واستناداً على حكم طبي مناسب، لحياة وصحة المرأة الحامل.
بالتالي، في قضية "رو ضد ويد"، كرّست أعلى محاكم البلاد حق الإجهاض في الدستور. وقرار "رو ضد وايد" يجعل من الولايات المتحدة واحدة من الدول القليلة التي تسمح بالاجهاض من دون قيود بعد الأسبوع العشرين من الحمل، علماً أن دولاً أخرى تسمح بالاجهاض بعد الأسبوع العشرين لدواعٍ معينة.
يذكر أن غالبية دول العالم تسمح بالاجهاض الطوعي حتى الأسبوع الثاني عشر من الحمل.
ومن عام 1973 حتى عام 1992، تم تمرير قيود على الإجهاض في كل ولاية تقريباً. وفي عام 2020، حظرت العديد من الولايات الإجراءات الطبية غير الأساسية خلال جائحة كورونا، وهو ما مثّل فرصةً انتهزها صانعو السياسات المناهضة للإجهاض في 12 ولاية، إذ حاولوا إغلاق عيادات الإجهاض بذريعة أن الرعاية الصحية للإجهاض غير ضرورية.
وفي أيلول/سبتمبر 2021، أقرّت تكساس قانوناً يحظر إجهاض أي جنين حالما يصبح فيها نبض قلبه محسوساً في الموجات فوق الصوتية، أي بعد أربعة أسابيع تقريباً من حصول الإخصاب.
أمّا الآن، تنظر المحكمة في قرار"رو ضد ويد" لأنها تبحث طعناً بشأن حظر ولاية ميسيسيبي للإجهاض بعد 15 أسبوعاً من الحمل. وكان القضاة قد بدأوا جلسات الاستماع في الطعن في كانون الأول/ديسمبر من عام 2021. وفي هذه الحالة، يكون القرار بشأن السماح بالاجهاض أو حظره منوطاً بسلطات كل ولاية على حدة.
ماذا بعد التسريبات؟
صباح أمس الثلاثاء، تجمّع متظاهرون من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، أمام مقر المحكمة العليا في واشنطن بعيد نشر التسريبات. وأطلق مشاركون في الحشدين المتقابلين هتافات وشعارات مضادة. فيما أطلق مناهضو الحق في الإجهاض هتافات على غرار "الإجهاض عنف... الإجهاض ظلم"، و"قرار رو ضد وايد يجب أن يلغى".
من جهته، قال الرئيس الأميركي، جو بايدن، للصحافيين إن "مجموعة كاملة من الحقوق على المحك"، محذّراً من "تحوّل أساسي" قد يطال أحكاماً تتعلق بزواج المثليين ومنع الحمل والإجهاض وتربية الأطفال. وأكد بايدن أن "الحد الأدنى من العدالة" يقضي بعدم نقض حق النساء في الاختيار.
ودعا بايدن الكونغرس إلى "تكريس حق الإجهاض في القانون الأميركي"، لكنه أقر بأن "الظروف غير مؤاتية، نظراً للانقسام بين الجمهوريين والديموقراطيين".
بدورها، أكدت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، أنّ "إبطال حق الإجهاض من شأنه أن يسلب النساء حرية اتخاذ قرارات تخص أجسادهن"، مشيرةً إلى أنّ "حقوق جميع الأميركيين في خطر"، وفقاً لما ورد في بيان نشره البيت الأبيض.
وأضافت أن المشرعين الجمهوريين في جميع أنحاء البلاد "يستخدمون القانون كسلاح ضد المرأة".
كذلك، أصدرت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، بياناً مشتركاً قالا فيه: "إذا كان التقرير دقيقاً، فإن المحكمة العليا مهيأة لفرض أكبر تقييد للحقوق في الـ50 عاماً الماضية".
على المقلب الآخر، وبعيد صدور نبأ التسريب، أعلنت النائبة الجمهورية جاكي والوركسي أن إلغاء الحق في الإجهاض "سيكون استجابة للصلاة".
وأعلن الحاكم الجمهوري لولاية أوكلاهوما أنّه وقّع قانوناً يحظر إجراء أيّ عملية إجهاض بعد 6 أسابيع من الحمل، في تشريع يُعتبر من الأكثر صرامة في البلاد.
من جهتهم، سارع حكام ديموقراطيون لولايات من بينها كاليفورنيا ونيو مكسيكو وميشيغن إلى الإعلان عن مساعٍ لتكريس الحق في الإجهاض بقوانين حتى في حال ألغته المحكمة العليا.
جدال الحرية العقيم حول الاجهاض ما بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي
تعتبر مسألة الإجهاض من القضايا المثيرة للجدل والانقسام في الولايات المتحدة، بين مؤيدين ومعارضين لقرار الحظر، على أسس أيديولوجية أو دينية أو حزبية، حيث يشن سياسيون يمينيون هجوماً شرساً على حق الإجهاض في أنحاء عدة من الولايات المتحدة.
وتسعى ولايات يقودها جمهوريون إلى تشديد القيود، وفي بعض الأحيان منع الإجهاض بعد مرور 6 أسابيع على الحمل، أي قبل أن تدرك نساء كثيرات أنهن حوامل، فيما يسعى ديمقراطيون يتقدمهم الرئيس جو بايدن إلى حماية الوصول إلى هذا الحق.
وتغيّر ميزان القوى داخل المحكمة بشكل جذري في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي عيّن 3 من قضاتها التسعة، واختارهم جميعاً من المحافظين، فأصبحت أغلبية الثلثين فيها من المحافظين (6 مقابل 3).
ماذا عن احترام قدسية سرية العملية القضائية؟
يُعدّ تسريب مسوّدة في قضية لا تزال قيد البحث خرقاً استثنائياً لقواعد المحكمة العليا، وطالب الجمهوريون بفتح تحقيق لكشف ملابساته.
بدوره، قال رئيس المحكمة العليا جون روبرتس إن موظفي المحكمة "لديهم تقليد نموذجي وهام في احترام سرية العملية القضائية، والحفاظ على ثقة المحكمة"، مضيفاً: "كان هذا انتهاكاً فظيعاً ونادراً لتلك الثقة، وإهانة للمحكمة ومجتمع الموظفين العموميين الذين يعملون هنا".
وقد أمر رئيس شرطة المحكمة بفتح تحقيق في مصدر التسريب. ويسبب التسريب نفسه، بحسب شبكة "سي بي إس نيوز"، ضرراً هائلاً لإحدى أكثر المؤسسات احتراماً في أميركا. ومن المحتمل أن يشهد تحقيقاً شاملاً، يشارك فيه مكتب التحقيقات الفيدرالي، لكشف المصدر.
وتسريب مسودة قرار فيما لا تزال القضية قيد النقاش أمر نادر الحدوث. وقالت "بوليتيكو" إنها "المرة الأولى في التاريخ الحديث التي يتم فيها الكشف عن مسودة قرار علناً".
واعتبر نيل كاتيال الذي شغل منصب المحامي العام خلال عهد الرئيس باراك أوباما، في تغريدة في "تويتر" بأنّ تسريب الوثيقة "يعادل تسريب أوراق البنتاغون"، في إشارةٍ إلى الوثائق المسربة حول تورط الولايات المتحدة في فيتنام.
المحكمة العليا: معركة سياسية
قبل خمس سنوات، عشية الانتخابات الرئاسية لعام 2016، تعهد دونالد ترامب بتعيين قضاة المحكمة العليا الذين سينقضون "تلقائياً" حكم "رو ضد وايد".
وخلال فترة توليه لمنصبه، قام ترامب بتغيير شكل المحكمة، وذلك من خلال تعيين 3 قضاة جدد ومنح المحافظين الأغلبية بـ6 قضاة مقابل 3 فقط من الليبراليين.
بالتالي، تم تعيين 6 من القضاة الـ9 الحاليين في المحكمة من قبل رؤساء جمهوريين. أما الثلاثة الآخرون فيتم اختيارهم من قبل رؤساء ديمقراطيين.
التسريبات والاستثمار السياسي
تسلط هذه القضية الضوء على التسييس المتزايد للمحكمة العليا، فقد أصبح موقف المرشح من الإجهاض اختباراً أساسياً للرؤساء. بالتالي، تعدّ هذه القضية بمثابة ساحة معركة سياسية شرسة في خضم عام انتخابي.
وبات من المؤكد أن هذه المسألة ستشكل نقطة سجال رئيسية في الحملة الانتخابية لاستحقاق منتصف الولاية في تشرين الثاني/نوفمبر.
وقد بدأ الاستثمار السياسي للمسودة منذ قبل تأكيد المحكمة حتى على صدقية المسودة. وكان بايدن قد شدّد، أمس الثلاثاء، قبل تأكيد المحكمة على صحّة المسوّدة، على أهمية أن يدافع الناخبون عن هذا الحق في حال قرّرت المحكمة المضي قدماً في هذا التوجه.
وأضاف بايدن في إشارة واضحة إلى الانتخابات النصفية قائلاً: "إذا ألغت المحكمة القرار، فإن حماية حق المرأة في الاختيار سيقع على كاهل المسؤولين المنتخبين. وسوف تقع مسؤولية انتخاب مسؤولين داعمين لحق الاختيار على الناخبين. أما على صعيد الحكومة الفدرالية فسنكون بحاجة إلى مشرعين داعمين لحق الاختيار كي يقروا قانوناً يفرض هذا الحق. وسوف أعمل على إقرار هذا والتوقيع عليه ليصبح ساري المفعول".
بالأرقام: الإجهاض في الولايات المتحدة الأميركية
استطلاعات الرأي تفيد بأن الأميركيين يعارضون بشدة إلغاء قرار قضية رو ضد ويد تماماً - يعتقد 54% من الأميركيين أنه يجب تأييد قرار "رو ضد وايد"، بينما يعتقد 28% أنه يجب إلغاءه، وفقاً لاستطلاع جديد أجرته صحيفة واشنطن بوست - "إيه بي سي".
وعام 2019، أبلغ عن حوالى 630 ألف حالة إجهاض في الولايات المتحدة وفقاً للمراكز الأميركية لمكافحة الأمراض. وكان هذا انخفاضاً بنسبة 18 % مقارنةً بعام 2010.
وتمثل النساء في العشرينيات من العمر غالبية عمليات الإجهاض - ففي عام 2019 كان نحو 57 % من هذه الفئة العمرية. فيما يمارس الإجهاض بين الأميركيات ذوي البشرة السمراء بمعدل أعلى - 27 لكل 1000 امرأة تتراوح أعمارهن بين 15 و 44 عاماً.