جبل الجرمق.. خلافات حادة بين تيارات "الحريديم" وشرطة الاحتلال

المناوشات في "جبل مِيرون" تعكس الانقسامات العميقة بين التيّارات اليهودية الأرثوذكسية المختلفة بين بعضها البعض، وتشكل مصدر قلق للمؤسسة السياسية الإسرائيلية.

  • جبل ميرون: انقسامات بين تيارات اليهود الحريديم وشرطة الاحتلال
    "جبل ميرون": انقسامات بين تيارات اليهود الحريديم وشرطة الاحتلال

عامٌ مرّ على حادثة انهيار المدرّج بالحرَيديم المتهافتين بمئات الآلاف إلى جبل الجرمق/جبل مِيرُون من جرّاء التدافع، وأسفر عن 45 قتيلاً وأكثر من 100 جريح من المستوطنين. وتبيّن حينها أن معظم القتلى من طلّاب الـ "يِشِيفُوت"، أي مجالس تعليم التلمود (التعاليم اليهودية)، وأن عدداً منهم كان قد قدِم حديثاً حينها من الولايات المتحدة بغية الاستيطان في فلسطين المحتلّة.

حادثة جبل الجرمق في 29 نيسان/ أبريل من العام الماضي، والتي يحييها المستوطنون "الحَريديم" سنوياً عبر صعودهم إلى ما يُعرف بـ "جبل ميرون" أو جبل الجرمق في صفد شمال فلسطين المحتلة، بمناسبة العيد اليهودي "لاغ بَعومير/ Lag Ba’Omer" ولإحياء ذكرى وفاة الحاخام شمعون بار يوحاي/ Shimon bar Yochai بمراسيم تدعى الـ "هِيلُولاه/ Hillula"، إذ يُزعم أن قبره في الجبل المذكور، تتم زيارته ليلاً والتبرّك به ثم يشعل تيّار "تعاليم أهرون" الحسيدي، إحدى فرق اليهود الحَريديم النيران بقربه في طقوس احتفالية ويتجمع حوله الزائرون ويبدأون بالاحتفال الديني حتى ساعات الليل المتأخرة، وتستمر الطقوس لمدة 24 ساعة بمشاركة تيارات حريديّة أخرى.

"الحَسيديم" يسيطرون على "جبل ميرون"

إن تيّار "الحَسيديم"/ Hassidim الذي يحج إلى "جبل ميرون" لزيارة قبر الحاخام المزعوم "شمعون بار يوحاي" هو تيار يهودي وأحد فروع الحَريديم (الأرثوذكسية اليهودية). أصل التسمية مشتق من الكلمة العبرية "حسيد" أي "تقي"، وهو تيار ذو نزعة صوفية ومعظم فرقه تختلف مع الصهيونية، إلاّ بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.  ينتظر "الحَسيديم" عودة المسيح اليهودي لإقامة الهيكل الثالث وبنائه. لعل حركة "حاباد" الحسيدية خير مثال، إذ يعتبِر أتباعها أن فلسطين "أرض إسرائيل" قلب العالم "حيث يتدفق منها الخلاص والرحمة". ويفيد كتاب "هَتانيا" وهو الكتاب الأصولي الأشهر لحركة "حاباد"، أحد أهم فروع "الحَسيديم" بأن "غير اليهود كلهم مخلوقات شيطانية ليس بداخلها أي شيء جيد على الإطلاق". وبأن "على اليهود الخروج من بلاد الأغيار المدنّسة، والاستيطان في أرض فلسطين المقدّسة". كما إن أحد أشهر أعلامها الحاخام "مناحيم مندل شنيرسون"، كان قد أفتى بحرمة التّنازل عن شبرٍ واحدٍ من "أرض إسرائيل".

 يُعتبر أتباع "حاباد" من أهم الداعمين لحكومات الاحتلال المتعاقبة،ومن أهم الداعمين لشارون، ثم نتنياهو، فبينِت. والضغوطات السياسية المهولة التي تمارسها فرق "الحَسيديم" على الحكومات تجعل الأخيرة غير قادرة على فرض واقع جديد أو تغييرات في الجبل. 

تبادل تُهم وتنصّل من المسؤولية

الأزمة حول "جبل ميرون" ليست وليدة "الكارثة" المذكورة، إذ صرّح وقتها الرئيس السابق لمجلس "أعالي الجليل" شلومو ليفي بأنه "لا يمكن إزاحة حجر من جبل ميرون من دون اعتراض مختلف تيارات اليهود الحريديم المسيطرين على المكان بالفساد والنفوذ والمال. وإن حصل ذلك، ستتلقى مكالمة من أورشليم (إشارة إلى الحكومة) خلال نصف ساعة. لقد جرّبت تحسين ظروف المكان في السابق وتلقّيت ضغوطاً سياسية".

أمّا ضابط الشرطة شمعون لافي المسؤول عن منطقة الشّمال فقد بيّن بعد مقتل المستوطنين وخلال التحقيقات بأنه "عند وقوع الكارثة كان هناك حوالي 25،000 شخص بدلاً من 3000 كما تتيح ظروف المكان. لكن الشرطة لم تدرك حينها أن هناك شيئاً غير عادي. هذا هو الوضع القائم منذ ما يزيد على ثلاثة عقود في الجبل. الشرطة لا يمكنها فرض قيود هناك. كانت تعليمات القيادة السياسية حينها واضحة بإتاحة المجال لدخول الحَريديم من جميع التيارات إلى ميرون." وهذا بالرغم من فرض حكومة نتنياهو وقتها تقييدات على التجمّعات ومنع التجمهر لما يزيد على مئة شخص  في المكان نفسه، تم استثناء الحَريديم منها."

بدوره، صرّح وزير الداخلية الإسرائيلي الأسبق إيلي يِشاي خلال التحقيقات بالحادثة بأنه "لم يكن على عِلم بوجود عشرات المباني غير القانونية وغير الآهلة للزيارة في جبل ميرون. إن هذه مسؤولية الشرطة والمركز الوطني لتطوير الأماكن المقدّسة. منذ العام 2010 جرى الاتفاق على عقد تحديثات في المكان  لكن هناك من لا يؤجل ذلك". 

أوضح المهندس المعماري عيران مابل، المسؤول عن المخطط العام لتطوير مجمّع ضريح الحاخام المزعوم في "جبل ميرون"، الذي كان من المقرر العمل به في 2012 بأنه "خلال الفترة التي عملنا بها، كان واضحاً بأن كل من يعارض تطوير المجمّع في "جبل ميرون" يتمتع بدعم سياسي. قيل لي باستمرار: "مثلما ألغينا الخطة السابقة بدعم من وزير الداخلية إيلي يشاي، سنلغي خطتك بدعم أرييه درعي. إذاً، العلاقة المباشرة بين وزراء الداخلية الإسرائيليين وبين ما يحدث هناك من قبل أصحاب النفوذ  هو حاضر في كل الوقت". في إشارة منه إلى زعماء الحركات الصهيونية اليمينيّة في الـ "كنيست" على شاكلة "شاس"، و"الصهيونية الدينية" و "يهدوت هتوراة" الذين يدعمون سياسياً هؤلاء الحَريديم الرافضين لإجراء تغييرات في الجبل. 

ما بعد الكارثة، حذر إسرائيلي وتحضيرات للحدث

تحضيرات وترقّبات كثيرة للحدث هذا العام الذي يبدأ خلال ساعات، منها تحديد أعداد الواصلين إلى "جبل ميرون"، وإلزامهم بشراء التذاكر للدخول، والتي لا يزيد عددها على 16 ألفاً، بعكس الأعوام الماضية حيث حضر مئات الآلاف. هذا بالإضافة إلى تكثيف وجود الشرطة، والسماح بمبيت 15% من المستوطنين في الجبل فقط ممّن تتوفر فيهم الشروط الخاصة التي تم تحديدها، منها مدى قرب أتباع فرق التيّار الحَسيدي من الحاخام "شمعون بار يوحاي"، بالإضافة إلى الناجين من حادثة العام الماضي وأقربائهم. هذا كله ولّد مناوشات بين الأعداد القليلة من الحَريديم الموجودين في "جبل مِيرُون" خوفاً من منعهم من الدخول ليلاً وبين قوات الشرطة منذ الصباح، فهُم يرفضون فرض التعليمات عليهم، بادّعائهم في المقاطع المتداولة من المكان بأن "هذا جبل ميرون وليس الأقصى"، واصفين عناصر شرطة الاحتلال بالأغيار والنازيين.

هذه المناوشات في "جبل مِيرون" اليوم والتي لا نعرف إلى أين تتجه خلال هذه الليلة، تعكس الانقسامات العميقة بين التيّارات اليهودية الأرثوذكسية المختلفة بين بعضها البعض ومع الصهيونية، وكذلك الانقسامات بين فئات المجتمع الإسرائيلي المتنوعة، بين علماني، ومتديّن، وبين الفروقات في الأصول؛ كاليهودي من أصول أشكينازية، أو أصول شرقية (مزراحي)، أو سفارادي، أو مغربي، أو تونسي، أو فارسي، أو يمني.. وفروقات أخرى لا حصر لها، لا يجمعها إلا الاستيطان في فلسطين المحتلة. 

وهذه الفروقات هي مصدر قلق للمؤسسة السياسية "الإسرائيلية"، ولا سيّما أنها تعبّر عن انعدام الاستقرار المجتمعي داخل كيان الاحتلال، فبحسب استطلاع رأي أجرته القناة 13 الإسرائيلية مطلع الشهر الجاري، 68% من الإسرائيليين يعتقدون أن الشر سيُفتح على "إسرائيل" من الداخل، "فالانقسامات الداخلية هي أكبر تهديد وجودي لإسرائيل".  

اخترنا لك