العراق في الاستراتيجية الأميركية: من تفكيك قوّة سوريا وإيران إلى "الحشد" (2\2)
لم يكن المطلوب عزل العراق عن حالة الصراع المستمرة مع الاحتلال الإسرائيلي، لأنه كان خارجها أصلاً، بل أن يستخدم العراق في عزل سوريا وإيران، ومن ثم الانقضاض على فصائل المقاومة.
"إذا أراد ترامب مواجهة إيران، فعليه أن يبدأ في كركوك" - عنوان مقال نشر في صحيفة "فورين بوليسي" الأميركية بتاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر 2017.
جاء سقوط النظام الحاكم في العراق في العام 2003 ليضع المنطقة أمام تحديات كبيرة، يتمحور معظمها حول مشروعٍ أميركي كان يراد من خلاله بناء "شرق أوسط جديد" وفق معايير البيت الأبيض، لكن بعد أكثر من 18 عاماً على ذلك، لم يعد الأمر يتعلق بما تريده أميركا من العراق، بل بما حققته أميركا في العراق! ولمصلحة من!
كان العراق في مرحلة حرب الخليج الثانية وصولاً إلى الغزو، يدور خارج فلك محور المواجهة مع العدو الإسرائيلي لأسباب عديدة، وكان الحضور العراقي في المنطقة ضعيفاً، ولا يشكل أي ثقلٍ سياسي يمكن البناء عليه. النفط نفسه ارتبط بالابتزاز الإنساني في ما عُرف بـ"النفط مقابل الغذاء"، ولم يكن له تأثير سياسي تستطيع بغداد فرض سياستها أو حضورها من خلاله.
ولم تُسجّل في تلك المرحلة أي مخاوف إسرائيلية أو أميركية من قوة عراقية يمكنها توجيه ضربة ضد الحضور الأميركي في المنطقة أو ضد الاحتلال الإسرائيلي. وفي ذروة الانتفاضة الثانية في فلسطين المحتلة، وإلى جانب تقديم مساعدات عينية عن طريق السلطة الفلسطينية، فإن أكثر ما استطاع النظام العراقي السابق تقديمه، كان طلباً قدمه وزير الخارجية العراقي محمد سعيد الصحاف للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، للموافقة على قرار العراق "تخصيص مبلغ مليار يورو من عائدات نفطه لدعم الشعب الفلسطيني".
هذه المقدمة ضرورية لفهم الواقع العراقي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي حينها على صعيد القدرات لا النيات. كانت قدرة العراق على تقديم الدعم المطلوب مكبلة بعوائق عديدة، وهي في جزء منها تتعلق بسياسات النظام العراقي على مدى عقود، والتي جعلت العراق رهينة لتلك العقوبات، كما جعلته غير قادر على الالتفاف عليها، على عكس إيران مثلاً، التي استطاعت، رغم العقوبات القاسية التي تجاوزت ما فُرض عليه أحياناً، فرض نفسها قوة إقليمية بحضور مستمر وعملي، نتيجة علاقتها مع شعوب المنطقة التي تتصدر مشهد المواجهة.
لكن بعيداً عن هذا النقاش، فإن الحديث يدور حول صورة العراق قبل الغزو، كنظام حكم لا يمكنه أداء دور محوري في توجيه أي ضربة لأمن "إسرائيل"، ولو أراد ذلك. وانطلاقاً من هنا، بات تحليل المشهد العراقي في العام 2021 يتطلب فهم المراحل التي مرّ بها هذا البلد، من قوّة بدأت في الأشهر الأولى بعد الغزو، وكانت تهدد طهران ودمشق، متحدثةً عن محورية "أمن إسرائيل" ضمن أمن المنطقة، ومستغلةً تواجدها العسكري داخل العراق، إلى قوّة تحاول حماية هذا التواجد والانسحاب ضمن ترتيبات تحفظ الحد الأدنى من الأهداف.
إذا كان المطلوب هو استغلال العراق ضمن استراتيجية تطال المنطقة بأكملها، ففي الأشهر الأخيرة، كان ما سمي بـ "الحوار الاستراتيجي" بين بغداد وواشنطن، الذي وضع إطاراً زمنياً لانسحاب القوات الأميركية، والذي حصلت جلساته تحت تهديدات المقاومة العراقية وضرباتها، وعلى رأسها فصائل من "الحشد الشعبي"، يعطي مؤشرات عديدة على كيفية تحول العراق من خطرٍ أميركي داهم على "محور المقاومة" في أولى مراحل ما بعد الغزو، إلى خطر على أميركا مع هذا "المحور".
وإذا كان تموضع العراق في الاستراتيجية الأميركية يتعلق بشكلٍ أساسي بضرب مراكز القوى الداعمة لحركات المقاومة بين لبنان وفلسطين المحتلة، أي سوريا وإيران، وجعله مركزاً لتواجد أميركي فاعل في المنطقة، فإن الواقع الذي وصلت إليه السياسة الأميركية لا يدل على إخفاقٍ في ذلك فحسب، بل تعدّاه إلى إخفاقٍ داخل العراق نفسه.
لم يكن المطلوب عزل العراق -إبان مرحلة الغزو- عن حالة الصراع المستمرة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، لأنه كان خارجها أصلاً، بل كان المطلوب أن يستخدم في عزل سوريا وإيران وتحييدهما، ومن ثم الانقضاض في وقتٍ لاحق على فصائل المقاومة. لذلك، إن مجمل المطالب التي حملها المسؤولون الأميركيون إلى سوريا في حينه، كان وقف أي شكل من أشكال الدعم والتواصل مع حركات المقاومة والدخول في تسوية وعملية "سلام" وفق المفهوم الأميركي. الأمر ذاته انطبق على إيران، بحيث إن الضغوط تركزت على مواجهة حضورها الإقليمي الداعم لفصائل المقاومة من باب ملفها النووي، وبذريعة "خطره"، ولا سيما أن هذا الملف لم يكن يشكل إزعاجاً لواشنطن عندما كان تحت إدارة حليفها الشاه قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
لكن حسابات واشنطن اصطدمت في السنوات التي تلت ذلك بتحولات شهدتها الساحة العراقية، يطول الحديث عن مسارها، لكن من المهم الالتفات إلى نتائجها، باعتبار أن العراق تحوّل بحد ذاته إلى رافدٍ شعبي وعسكري وأمني لفصائل المقاومة، لا بل أصبح من ضمن قوتها الرادعة. في الأشهر الأخيرة، أعلنت فصائل مقاومة عراقية منضوية تحت "الحشد الشعبي" دخولها "معادلة الردع" بشأن القدس، والتي أعلنها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، معتبراً أن "المساس بالقدس يعني حرباً إقليمية". هذه الجزئية تحديداً تعبّر عن التحول في العراق، والذي لطالما كانت الولايات المتحدة تسعى إلى منعه.
أكثر من ذلك كانت المخاوف التي باتت جزءاً من الأمن القومي الإسرائيلي بما يتعلق بالعراق، فجولة وزير الخارجية الأميركي كولن باول في الشرق الأوسط، التي بدأها من سوريا في العام 2003 بعد شهر من الغزو، كانت "بداية تدخل أميركي عميق لبناء شرق أوسط جديد محوره إسرائيل"، كما أعلنت في حينه مستشارة الأمن القومي الأميركي كوندوليزا رايس، لكن هذا المسار وصل خلال السنوات الماضية إلى ما يخالف تلك الاستراتيجية بشكل معاكس.
برز ذلك بوضوح في تقرير معهد الأمن القومي الإسرائيلي نهاية العام المنصرم، باعتباره أن "الجبهة الداخلية (في الحرب المقبلة) ستُهاجَم بآلاف الصواريخ والمقذوفات الصاروخية، من بينها عشرات الصواريخ الدقيقة وطائرات غير مأهولة هجومية، ومن عدة ساحات بالتوازي: لبنان، سوريا، غرب العراق، وربما أيضاً غزة". وفي محاكاة للحرب، طرح معهد الأمن القومي الإسرائيلي أيضاً، مطلع العام الحالي، سيناريو يشير إلى أن "الحرب ستبدأ بإطلاق 6 صواريخ من غرب العراق باتجاه تل أبيب". وهكذا، يتحول العراق من ساحة "ضامنة" لأمن "إسرائيل"، وفق الاستراتيجية الأميركية، وكما عبّرت رايس، إلى إحدى الساحات التي تشكل خطراً وجودياً على أمن "إسرائيل" وفق اعتراف الأخيرة.
الوجود الأميركي العسكري والسياسي في العراق مهدد من قبل قوى "الحشد الشعبي"، والأمور يمكن أن تذهب أكثر من أي وقتٍ مضى نحو "تصعيد عسكري" إذا حاولت الولايات المتحدة الالتفاف على "وعود" انسحابها، في الوقت الذي تبدو الأخيرة غير قادرة على الدخول في مواجهة حاسمة.
أيضاً، أمن "إسرائيل" مهدد وجودياً من قبل العراق كساحة مواجهة، فيما تظهر المقاومة العراقية نيات علنية لمؤازرة محور المقاومة في أي معركة مقبلة مع الاحتلال. وعليه، إن القوى العراقية المتمثلة بـ"الحشد الشعبي" تساند إيران وسوريا ضمن نطاق مواجهتهما للإرهاب والتواجد الأميركي في المنطقة، وهو ما بات علنياً ودخل ضمن قواعد الاشتباك بين محور المقاومة والولايات المتحدة.
هذه الصورة ليست وليدة الصدفة، بل هي استراتيجية مضادة استغلَّت عاملين أساسيين: الأول هو عدم إدراك الولايات المتحدة الأميركية واقع القوى الشعبية والسياسية العراقية وارتياحها غير المبرر لاستخدام العراق ضد جيرانه، والآخر هو قدرة سوريا وإيران على الصمود بوجه الضغوط الأميركية ودعم المقاومة العراقية في وقتٍ لاحق. لذا، إن تحرّك القوى العراقية، بالتوازي مع رد الفعل السوري والإيراني، أوجد أرضية مواجهة للتواجد الأميركي في العراق وإفشال مخطط تحركه باتجاه طهران ودمشق بما يمثلانه.
كانت واشنطن تسعى إلى وضع العراق ضمن خريطة مواجهة سوريا وإيران، لكنَّ تنبّهَ محور المقاومة لخطر المخطط الأميركي واحتضانه القوى العراقية في مرحلة ما بعد الاحتلال، أبقى الاستراتيجية الأميركية حبيسة الساحة العراقية، ونقلها من استراتيجية تفكيك سوريا وإيران خارج العراق، إلى مسار عملي لتفكيك القواعد العسكرية داخله، بفعل تهديدات "الحشد الشعبي". وما كان يُعرف بـ"العراق في الاستراتيجية الأميركية على صعيد المنطقة"، تحوّل إلى مقاربة متداولة في أروقة القرار في واشنطن حول "جدوى بقاء الولايات المتحدة في العراق".
بالعودة إلى النقطة الأساس، هل كان نظام صدام حسين في سنواته الأخيرة أكثر خطورة على التواجد الأميركي في المنطقة وأمن "إسرائيل" من "الحشد الشعبي" بما يمثله من قوة عسكرية أمنية سياسية؟ ضمن مبدأ المقارنة بين خطر وآخر، فإن واشنطن كانت لتراجع العديد من خططها في الأشهر التي سبقت الغزو، ويمكن أن تصل إلى خيار عدم الذهاب بهذا الاتجاه، لو تيقنت حينها من النتيجة التي وصل إليها واقع العراق في استراتيجيتها الآن.
وأخيراً، في أوائل العام 2020، قامت الولايات المتحدة باغتيال قائد "قوة القدس" في حرس الثورة الإيراني قاسم سليماني، ونائب هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، باستهداف مباشر قرب مطار بغداد. كان سليماني حينها عائداً من دمشق بعد زيارته لبيروت. رحلة سليماني من بدايتها في طهران، ثم بيروت، فدمشق، وصولاً إلى بغداد، واستشهاده مع المهندس، تشي بأن الحرب الاستباقية التي حشد بوش لها بداية الألفية خيضت ضد واشنطن لا من قِبلها، فدائماً ما كان هناك من يسبقها بخطوة.
الجزء الأول: العراق في الاستراتيجية الأميركية: من تفكيك قوّة سوريا وإيران إلى "الحشد" (1/2)