الحرب الصامتة بين حزب الله و"إسرائيل".. معركة تطوير الاستراتيجيات
عمل الإسرائيلي، عقب فشل حربه في لبنان، على محاولة معالجة المشاكل التي ظهرت، عبر استراتيجية جديدة، اعتمدت على 3 عناصر أساسية، وهي المناورات العسكرية، وتعزيز الجبهة الداخلية، وإدخال التكنولوجيا بفعالية إلى عمليات جيش الاحتلال.
"اليهودي الذي لا يؤمن بالمعجزات ليس يهودياً واقعياً" - ديفيد بن غوريون، أحد أبرز قادة الصهيونية تاريخياً، وأحد مؤسسي كيان الاحتلال الإسرائيلي ورئيس حكومته الأولى.
خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار/مايو 2021، والذي ردّت عليه المقاومة الفلسطينية بإعلان عملية "سيف القدس"، اعترض الدفاع الجوي لجيش الاحتلال، بحسب المراجع الإسرائيلية، نحو 90% من جميع صواريخ المقاومة الفلسطينية، ولكنّ هذه النسبة المعلنة لم تمنع المقاومة في غزة من أن تعلن انتصارها، بعد أن أسقطت صواريخها 11 قتيلاً من المستوطنين الإسرائيليين، وأثبتت فعاليتها في دعم الخيارات الاستراتيجية للمقاومة.
يعكس هذا الأمر قضية أساسية، هي التفاوت الكبير بين الخطط التي تضعها القيادة العسكرية لقوة ما على طاولة العمليات، مع الأرقام التي تصلها بواسطة التجارب والمناورات والدراسات، وبين الواقع الميداني بعد اللحظة التي تنطلق فيها الشرارة الأولى للحرب، وهو ما يصطلح على تسميته في الاستراتيجيا، بالكارثة التامة.
ولعلّ أبرز مثال على هذه الكارثة التي يمكن أن تحلّ بقوة ما، كانت حرب تموز/يوليو 2006 بين "إسرائيل" وحزب الله، والتي لم تنتهِ مفاعيلها حتى ساعة كتابة هذه السطور، ولم تنحصر تبعات نتائجها ضمن حدود منطقة بلاد الشام، بل تعدّتها إلى مختلف جيوش العالم والمدراس العسكرية.
يقدّم العميد الإسرائيلي، رئيس لواء الشرق الأوسط في الشعبة السياسية - الأمنية الإسرائيلية، ورئيس معهد التنظير العسكري سابقاً، شمعون نافيه، ملاحظة دقيقة جداً في ربط الفشل الإسرائيلي الذريع في حرب لبنان الثانية، مع سياق الصراع الإسرائيلي مع الفلسطينيين: "النقطة المهمة هي أن الجيش الإسرائيلي وقع في حبّ ما كان يفعله بالفلسطينيين، إلى درجة الإدمان، فعندما تخوض حرباً ضد منافس أدنى منك بكل الوسائل، فقد تفقد رجلاً هنا أو مقاتلاً هناك، لكنك ستتمتع دائماً بالسيطرة الكاملة على ميدان المعركة".
تعكس مقاربة العميد نافيه هنا مسألة عميقة جداً في وعي جيش الاحتلال الإسرائيلي، يمكن أن تشكّل منطلقاً مهماً في فهم المسار التطويري الذي سلكه الكيان في مساعيه للاعتبار من دروس حرب تموز 2006. فالإسرائيلي وجد نفسه للمرة الأولى خلالها، أمام "حرب حقيقية"، وشعرت قيادته العليا والميدانية، على مدى 33 يوماً، أنها "فاقدة للسيطرة".
ما هو المسار الذي اعتمده الإسرائيلي لتطوير قدرات جيشه؟
عمل الإسرائيلي، عقب فشل حربه في لبنان، وبعد توصيات من لجنة التحقيق الحكومية برئاسة إلياهو فينوغراد على معالجة خلل منظومة القيادة والتنسيق، على تطوير قدراته ومحاولة معالجة المشاكل التي ظهرت في تموز 2006 عبر استراتيجية جديدة، اعتمدت على 3 عناصر أساسية، وهي المناورات العسكرية، وتعزيز الجبهة الداخلية، وإدخال التكنولوجيا بفعالية إلى عمليات جيش الاحتلال.
المناورات العسكرية الإسرائيلية 2007 - 2023
يصعب إحصاء عدد المناورات العسكرية الإسرائيلية التي نفّذت خلال الـ17 عاماً الماضية، خاصة أنّ قسماً مهماً منها بقي سرياً، ولكن يمكن التقدير بأنّ عددها يصل إلى المئات، وكان أبرزها سلسلة مناورات "نقطة التحوّل".
وقد تنوّعت المناورات والتدريبات الإسرائيلية، بحسب الوظائف التي حاول الاحتلال التركيز عليها.
فأجرى الاحتلال مناورات برية هدفت إلى تدريب قواته على العمل في أراضٍ مشابهة طبوغرافياً لأراضي جنوبي لبنان، وركّز على مناطق في شمالي فلسطين المحتلة بشكل كبير، ثمّ لاحقاً اعتمد أراضي في قبرص مشابهة في طبيعتها للأراضي اللبنانية.
كما قام بمناورات تضمّنت تنسيقاً سريعاً بين الأسلحة في ميدان المعركة، ولا سيما بين سلاح الجو والمشاة والمدفعية والرصد، عبر غرفة عمليات ميدانية مشتركة، أراد الاحتلال عبرها تجاوز عقدة الحاجة إلى إجراءات معقّدة للتنسيق على مستويات عالية بين قادة الأسلحة الأساسية.
وبرزت كذلك المناورات المشتركة التي أجراها الاحتلال مع الجيش الأميركي، والتي تركّزت بمعظمها في إطار المناورات الجوية، واستخدام القنابل الذكية في الحرب، وتفادي قدرات الدفاع الجوي.
وخلال الأسابيع الأخيرة فقط، أعلن الاحتلال عن أكثر من 5 مناورات وتدريبات عسكرية، بعضها مشترك مع دول أخرى كما في مناورات "الأسد الأفريقي" والمناورات مع سلاح الجو الأميركي، ومناورات أخرى مستقلة وأكثر تخصصاً كالمناورة في الجولان منذ أيام، ومناورات "الضربة الساحقة" و"الشمس الزرقاء"، وهي تحاكي حروباً متعددة الجبهات، وحرباً مع لبنان أو سوريا.
"الوقت يداوي الآلام القديمة، بينما يخلق آلاماً جديدة."- مثل شعبي إسرائيلي
في المقلب الآخر.. حزب الله يراكم التدريب والتجربة
في الجهة المقابلة من الجبهة مع الاحتلال، راكم حزب الله التجربة العسكرية على عدة مستويات، ففي وقت لم يتوقّف فيه التدريب العسكري وازداد كماً ونوعاً بحسب ما يؤكد الإسرائيلي، مثّلت الخبرة القتالية التي اكتسبها مقاتلو حزب الله الأصغر سناً في سوريا "كنزاً عسكرياً" حقيقياً للحزب.
وقد راقب قادة الاحتلال بقلق بالغٍ التشكيلات العسكرية لحزب الله وهي تخوض تجارب قتالية جديدة وتطوّر مدارس قتالية خاصة، فيما راكم مقاتلوها الذين لم يشهدوا القتال الطويل مع الاحتلال قبل التحرير خبرة قتالية ميدانية لم يكن من الممكن تحصيلها في أي برنامج تدريبي، متجاوزين بذلك "أزمة الجيل الجديد" الذي كان يراهن عليها الاحتلال.
وفي الواقع، فإنّ ما يتسرّب من كلام قادة جيش الاحتلال من وقت لآخر بشأن مستوى القدرات البشرية في حزب الله يشي بأنّ الهاجس كبير جداً، فهناك اليوم من يخشى أن يكون المقاتل العشريني في المقاومة أكثر خبرة ميدانياً وأفضل استعداداً من الجندي الإسرائيلي العشريني، الذي لم يشهد أي حرب أو عملية عسكرية برية، ولم يدخل في تجارب يعوّل عليها في بناء الخطط الكاسرة للمعادلات والتوازنات.
تعزيز الجبهة الداخلية
اهتمّ الإسرائيلي بشكل كبير بمحاولة بناء جبهته الداخلية وتعزيزها، بعد أن أثبتت حرب لبنان الثانية أن حزب الله نجح في الاستفادة من الضغط الإسرائيلي الداخلي لفرض شروطه في الميدان وعلى طاولة المفاوضات.
وقد شكّل هاجس الجبهة الداخلية الإسرائيلية عنواناً عريضاً في استراتيجية الاحتلال لتطوير قدراته على المواجهة، وهو ملفّ استحدثه بالكامل بعد حرب 2006، وبرّزه ضمن القضايا الرئيسية التي يجب العمل عليها لمعالجة أسباب الفشل في 2006.
فالاحتلال ،الذي لطالما اعتبر أنّ عزل المجتمع الإسرائيلي والمستوطنين عن الحروب هو الإجراء الأسلم، لتجنيب ساحته الداخلية الآثار الخطيرة لمعاركه الخارجية، وصل إلى قناعة بعد تموز 2006 مفادها أنّ المستوطنين في الداخل هم في مقدمة أي صراع، وأنّ الجبهة المفتوحة خارج الكيان ستقابلها حتماً جبهة في داخله.
وحاول الإسرائيلي، عبر تعزيز الملاجئ ونظام الإنذار، واستجابة المستوطنين لطلبات النزول إلى الملاجئ، وتطوير أنظمة الاستجابة للحرائق والانفجارات التي ستحصل، تجاوز هذه العقدة الصعبة.
رياح الداخل الإسرائيلي تعاكس سفن القيادة العسكرية
بقدر ما تعدّ الملاجئ ملاذاً للمستوطنين من صواريخ المقاومة، فإنّ أمرين يقيّدان فعاليتها: استنزافها لأعصاب الجبهة الداخلية التي تشعر عند كلّ قذيفة تخترق أجواء فلسطين المحتلة بأنها في قلب المعركة، والإيحاء للقيادة العسكرية بأنّ "لديهاً وقتاً"، وهو ما أثبتت التجارب مع المقاومة في فلسطين ولبنان عكسه، بأنّ الوقت كان دائماً يلعب ضدّ مصالح الاحتلال، ويشكل عاملاً حاسماً في الضغط باتجاه إنهاء العمليات العسكرية.
كذلك، توجد عناصر جديدة دخلت معادلة الصواريخ، وهي الدقة في الإصابة والرأس الحربي الضخم، يضاف إليها ما أكّدته قيادة حزب الله في أكثر من مرة، بأنّ من يفتح الحرب المقبلة لن يكون هو من سينهيها.
وفي الواقع، فحتى الآن كان الاحتلال يبني إلى حدّ كبير على أنّ اللحظة التي يتخذ فيها قرار إيقاف الأعمال الحربية، سيعني انتهاء المعارك إلى حدّ كبير وكذلك انتهاء القصف، سواء مع لبنان في 2006 أو من بعدها مع غزة في الاعتداءات التي تلت.
ولكنّ عدم امتلاك القرار في إعلان وقف إطلاق النار بشكل فعّال، يعني أنّ الاحتلال لا يمكنه أن يضغط على جبهته الداخلية حتى "النفس الأخير" ثمّ يعلن إيقاف العمليات، كما جرت عادته. ففي حال اتخذ القرار ولم تقابله قيادة المقاومة بالمثل واستمرت في إمطار الكيان بالصواريخ، سيفتح ذلك أبواب الاحتمالات على مصارعيها على مستوى انهيار جماعي للمستوطنين، تعلم القيادة الإسرائيلية أنّ فيه نهايتها.
ويضاف إلى ذلك كله، الأزمة الداخلية الأخيرة، التي قسمت المجتمع الإسرائيلي عمودياً وأفقياً، وجعلت الحديث عن جبهة داخلية متماسكة في الحروب أقرب إلى أمنيات لا يقين فيها من كونه مبنياً على دراسات ومناورات كان يريد الإسرائيلي من خلالها معالجة إحدى أبرز مشاكله في الحروب.
تعزيز القدرات العسكرية الإسرائيلية
كان ملفتاً أنّ الاحتلال استثمر خلال العقدين الأخيرين في تطوير القدرات الدفاعية أكثر من قدراته الهجومية، وكان أبرز ما أنتجته شركات الأسلحة الإسرائيلية هي منظومات الدفاع الجوي متعدد الطبقات الموجود اليوم، وأكثرها استعمالاً اليوم هي منظومة القبة الحديدية الصاروخية.
ففي حرب تموز 2006، لم تكن القبة الحديدية موجودة ضمن المعركة ومعادلاتها، وكانت صواريخ المقاومة تتحرك بحرية في سماء فلسطين المحتلة، ولا يفصلها عن هدفها سوى المسافة التي تحتاج أن تقطعها.
ومع تطور هذه المنظومة وإدخالها في المعادلة، في مسعى إسرائيلي لتحييد الأراضي المحتلة عن آثار الحروب وإبطال مفعول صواريخ المقاومة، تمكّنت من تقليص عدد القتلى والجرحى إلى حد ما، لكنها لم تمنعها بشكل كامل، مع كون المواجه هي فصائل المقاومة الفلسطينية، بينما يمتلك حزب الله ترسانة صاروخية يقول جيش الاحتلال إنها قد تكون الأكبر من حيث قدراتها النارية من معظم الجيوش الأوروبية.
لكن القبة الصاروخية لن تكون هي الأساس في الحرب ضد حزب الله، فهي مخصصة لمعالجة القذائف والصواريخ الصغيرة نسبياً، بينما ما يتهدّد "إسرائيل" اليوم هي صواريخ بعيدة المدى ومتوسطة المدى، تحتاج في محاولة التصدي لها إلى منظومات أكبر مثل باراك والسهم ومقلاع داوود، وهي منظومات لا تمتلك "إسرائيل" كميات ضخمة من مؤنتها، فضلاً عن كلفتها الضخمة.
كما عزّز الإسرائيلي كذلك من إمكاناته البحرية عبر نشر القبة الحديدية في البحر وإجراء تجارب على تصدّيها للصواريخ مؤخّراً.
وقد حاول الخبراء الإسرائيليون تطوير دروع تفاعلية للميركافا تقيها صواريخ الكورنيت، لكن حتى الساعة تبقى جميع مدرعات ودبابات الاحتلال غير قادرة على مواجهة القوات المتخصصة بأسلحة ضد الدروع لدى حزب الله، والتي تطوّرت تكتيكاتها وخبراتها القتالية بشكل هائل مع الحرب ضد الإرهابيين في سوريا.
حزب الله ومعركة التسلّح النوعي
راكم حزب الله قدرات عسكرية مهمة عقب 2006، كماً ونوعاً، من الصواريخ الدقيقة إلى منظومات الصواريخ القريبة والبعيدة والمدفعية الثقيلة والخفيفة، التي عوّضت غياب التغطية الجوية لدى مقاتليه في الميدان.
كما طوّر حزب الله ترسانته العسكرية البحرية بشكل هائل، بعد نجاح استهداف البارجة "ساعر 5" عام 2006، وتمكّن كذلك، باعتراف جنرالات إسرائيليين، من بناء قدرات دفاع جوي تهدّد بشكل كبير حرية عمل سلاح الجو الإسرائيلي في أي حرب مقبلة، ما يعني سلب الاحتلال نقطة تفوّقه الكبرى والتي لطالما اعتمد عليها في جميع حروبه.
وقد شكّلت حرب تموز الاختبار الواقعي الأهم الذي تعرّف من خلاله حزب الله إلى حاجاته العسكرية الواقعية والجديدة، بعد أن تطوّر من حركة مؤلفة من بضع مئات من المقاتلين في 1982، إلى بضع آلاف بعد تحرير عام 2000 ثم إلى ما يقارب 100 ألف مقاتل بحسب تصريح أمينه العام السيد حسن نصر الله، مع انتهاء العقد الثاني بعد التحرير.
فركّزت المقاومة على ما تجلت أهميته في الحرب، وطورت إمكاناتها بشكل مدروس ودقيق، ما شكّل أزمة حقيقية لجيش الاحتلال وجعله يلاحق بهوس كل ما هو مرتبط بتسليح المقاومة وإمداداتها ومصانعها ومختبراتها، التي حفظت معادلة الردع المفروضة على الاحتلال وجودها وعملها على الأراضي اللبنانية من دون أن يجرؤ الاحتلال على استهدافها، فضلاً عن عدم جرأته على استهداف كوادر المقاومة في سوريا.
"عندما أقوم باطلاق قذيفة من الطائرة، أشعر باهتزاز صغير بالطائرة نتيجةً لإطلاق القذيفة، وبعد ثانية ينتهي الاهتزاز. هذا كلّ شيء، وهذا ما أشعر به" - دان حالوتس.
من الحسم الجوي الخاطف إلى "عقيدة الضاحية"
يشير دان حالوتس، في تصريحه هذا لصحافية سألته عما يشعر به الطيارون عندما يقومون بقصف أهداف معادية، إلى قضية أساسية صبغت فترته الفاشلة في رئاسة هيئة الأركان العامة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهي انفصاله عن الأرض.
كانت قيادة الاحتلال تطمح، عبر حرب لبنان الثانية، إلى القيام بعرض "show" قتالي، يتوّج مسار أسطورة التفوق العسكري الجوي للمعسكر الغربي، الذي اعتبرت مدارس "نهاية التاريخ" العسكرية الغربية أنّه بدأ في حرب لبنان الأولى في 1982 مع المعركة الجوية فوق سهل البقاع مع القوات الجوية السورية، وارتقى مع حرب الخليج الثانية عام 1990 ضد القوات العراقية، ثمّ في كوسوفو 1999، ليصل إلى ذروته مع حرب أفغانستان عام 2002، والحملة الجوية على العراق عام 2003.
وقد خطط الإسرائيليون بالفعل لتكون الحرب على لبنان، والتي كانت مقرّرة في توقيت مختلف عن تموز 2006، وقررت حكومة الاحتلال استغلال عملية الأسر الناجحة للمقاومة كذريعة لشنها في توقيت مبكر، حرباً نموذجية لكيفية سحق القوى المعادية للمعسكر الغربي، تعيد إلى المدارس العسكرية الغربية حضور "إسرائيل" كدرة تاج المعسكر الغربي ورأس حربته.
فشلت استراتيجية الضربات "النظيفة" لسلاح الجو في حسم المعركة مع حزب الله، لتفسح المجال أمام قادة الاحتلال لتطويرها تحت مسمى "عقيدة الضاحية" الإسرائيلية في القتال، والتي نسبت إلى رئيس الأركان الذي تلا حالوتس، غادي آيزنكوت، ونصت على أنّ تحقيق انتصار على قوة "غير متماثلة" يقوم على استخدام واسع وهائل للقوة لإحداث صدمة عند أعداء "إسرائيل"، مع تدمير واسع للبنية التحتية المدنية وممارسة ضغط على المجتمع المعادي الذي سيتعرّض لصدمة كبرى تجعله ينهزم عاجلاً أم آجلاً.
"ما لم يتحقّق بواسطة القوة.. يمكن تحقيقه باستخدام المزيد من القوة" - مثل متداول في أوساط الجيش الإسرائيلي
يبدو أن المقاومة استفادت من هذا المثل أكثر من الإسرائيليين.
فقد تمكّن حزب الله من إفراغ هذه الاستراتيجية من مضمونها بشكل كبير، ومن غير جولة قتالية، عبر مراكمة قدرات صاروخية ضخمة، مع كثافة نارية فعالة وسريعة، أذهلت الاحتلال ومثّلت ردعاً فعالاً لكلّ التهويلات الإسرائيلية على مدى سنوات، والتي روّجت لأنّ لحظة الصفر حين تأتي ستحوّل الضاحية الجنوبية لبيروت وجميع القرى الحاضنة للمقاومة إلى رماد.
وبحسب تصريحات متراكمة لكبار الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية، فإنّ فكرة أن تنهال مئات الصواريخ على المستوطنات والمدن الإسرائيلية "يسلب النوم من عيون" قادة الاحتلال، ويجعل تكلفة هذه الاستراتيجية القتالية باهظة الثمن على الكيان.
تشابك الأذرع ومحاولة استعادة القدرة الهجومية
بعد فشل "عقيدة الضاحية"، جاء رئيس الأركان الجديد أفيف كوخافي ليتحدث عن "تشابك الأذرع"، وإدخال التقنيات العالية "هايتك" في عمليات الجيش الإسرائيلي، مقدماً هذه المعادلة كحلّ سحريّ لأزمة جيش الاحتلال المستجدة مع الحروب البرية.
فبعدما كان جيش الاحتلال في حروبه الأولى يعتمد على القدرات البشرية والخبرة والتمرس والمعنويات لتعويض فارق العدد بينه وبين الجيوش العربية، وجد نفسه اليوم يلجأ إلى التفوق التقني لمحاولة تعويض فارق القدرات والخبرات بين جنوده ومقاتلي المقاومة.
إذ اعتقد كوخافي أن تزويد المجموعات الإسرائيلية الموكلة بالهجوم بوسائل اتصال متقدمة تسمح بمشاركة كثيفة وآنية للمعلومات الاستطلاعية، وبنقل الصورة من الأرض مباشرة إلى أعلى غرف العمليات، واستدعاء التغطية الجوية والمدفعية بشكل سريع، سينعكس تفوّقاً للجندي الإسرائيلي على عدوه "غير المتماثل".
ويمكن الاستناد إلى مجريات الحرب في أوكرانيا لاكتشاف نقاط ضعف هذه الفرضية، فبطبيعة الحال، سيشكّل إدخال التقنيات العالية إلى تسهيلات وأفضليات الجندي الإسرائيلي، ولكن السؤال المهم بالنسبة للإسرائيليين هنا ليس عن كمية التقدم وأشكاله، بل عما إذا كان كافياً لإحداث اختراق في جدار الردع، وبالتالي معرفة ما إذا كان تكبّد كل هذا العناء ضرورياً وفعّالاً أم لا.
تخوض القوات الأوكرانية اليوم هجوماً مضاداً للقوات الروسية، بدعم استطلاعي واستخباراتي هائل، وبتسليح متقدم ومفتوح، وتكتيكات قتالية منسقة مع أهم غرف عمليات الناتو؛ والأهم، تقوم هذه القوات باستخدام نمط مشابه لما كان يريده كوخافي في جيش الاحتلال.
فالجندي الأوكراني في قوات النخبة يمتلك اليوم إشرافاً آنياً على معلومات الاستطلاع، ويمكنه توجيه وتصحيح إصابات المدفعية، وينشر طائرات مسيرة فوق خطوط الجبهة بشكل دائم، ولكن وبالرغم من ذلك، لم يستطع تحقيق اختراق حقيقي أما الخنادق الروسية، عندما أصر الروس على القتال وعدم الانسحاب، صمدت وكبدت كييف ومعداتها الغربية خسائر فادحة.
وفي واقع الحال، فإن المقاتل المثقل بالتقنيات العالية، والذي تدرّب على القتال ضمن ظروف خاصة، سيصبح تابعاً لهذه التقنيات، حيث سيزداد اعتماداً عليها مع الوقت، ما يعني صعوبة دخول الحرب من دونها، أو التعامل بشكل سريع وفعال مع أي مشكلة قد تطرأ على تجهيزه.
وبعد أن نجحت جهة في محور المقاومة لم يتم الإعلان عنها، في التشويش على منظومات الإنذار وأجهزة الرصد التابعة لمنظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي، خلال العدوان الأخير على غزة، يمكن التأكيد بأن الصراخ الأكبر في "إسرائيل" جاء من جهة القوات المشكلة بالعمليات الهجومية في أي حرب مقبلة، إذ إن سيناريو تقف فيه مجموعة واحدة من وحدة إيغوز مثلاً، في منطقة داخل الأراضي اللبنانية، ويتم التشويش على اتصالاتها والتصدي لها وهي "صماء وعمياء"، قد يعني كارثة موصوفة تغير موازين الحرب.
وإضافة إلى ذلك، فإن تلويح حزب الله المتكرر بأنه قد تحصل عمليات هجومية واسعة من قبل المقاومة باتجاه منطقة الجليل المحتلة، يعني أن الاحتلال سيجد نفسه أمام سيناريو جديد لم يتصوّر منذ حرب 1973، حين وصلت الدبابات السورية إلى مشارف بحيرة طبريا، أنه سيضطر للتعامل معه مجدداً.
***
يبدو الإسرائيلي اليوم مشتتاً، بين معركة داخلية تهدّد بانقسام الجيش، ومقاومة تراكم القوة والخبرة والثبات على خيار المواجهة، وقوة هجومية لم تنجح في أي عملية عسكرية واسعة منذ أكثر من 40 سنة، فيما تبدو فرص المقاومة، مع تراكم نجاحاتها وظهور صوابية خياراتها الكبرى، أمام فرصة حقيقية لاختراق الجدار الحديدي الوهمي الذي طوّق الاحتلال نفسه به طيلة العقود الماضية.
يقول مثل شعبي إسرائيلي إن "هناك قاعدة أساسية حتى ينجح احتياطك، وهو أن لا تبالغ في الاحتياطات".