أفغانستان.. تاريخ طويل من الفشل الأميركي
فتحت خسارة أميركا في أفغانستان جرح فيتنام مجدَّداً، ودفعت حلفاء لها إلى التساؤل إن كانت واشنطن لا تزال قادرة على حمايتهم.
تساعدنا الصور أحياناً على معرفة التاريخ أكثر مما تفعل الكلمات التي تُطلعنا على ماضٍ ميّت، فاقد للحركة والألوان والإيماءات والاستمرارية. ويمكن للصورة أن تصبح دالّةً على سلسلة من الأحداث والعلاقات والسياسات والأفكار والأيديولوجيات والتحوُّلات الاجتماعية، حتى لو لم يكن لكل من هذه الأمور ظهورٌ واضح في عدسة المصوّر.
نسخة جديدة عن صورة فيتنامية
بعض أبرز الصور التاريخية عن الحرب التُقِطَ في فيتنام. ففي هذا البلد، الذي شهد 3 عقود متواصلة من الحروب بسبب الاستعمارين الفرنسي والأميركي على نحو أساسي، خرجت أهم ثيمات الحرب، البصرية والثقافية والفنية، في النصف الثاني من القرن العشرين. مثلاً، الصورة التي التقطتها كاميرا مصور "أسوشيتد برس"، مالكولم براون، للراهب البوذي، ثيش كوانج دوك، المتربّع على طريقة "اللوتس" في أحد شوارع سايغون، بينما النار تشتعل في جسمه النحيل احتجاجاً على اضطهاد نظام الرئيس، نغو دينه ديم، المدعوم من واشنطن، للطائفة البوذية، صارت أيقونة للاحتجاج والاستشهاد المدفوع بالضمير الديني ضد الأنظمة المستبدة، مولّدةً "مشاعر حول العالم أكثر من أيّ صورة صحافية أخرى عبر التاريخ"، وفق تعبير الرئيس الأميركي السابق جون كنيدي.
بالقرب من سايغون أيضاً، مَن يذكر وجوه الأطفال المرعوبين من قذائف النبالم الحارقة، والتي رمتها طائرات جيش فيتنام الجنوبي المدعوم أميركياً على قريتهم، ترانع بانع، في 8 حزيران/يونيو 1972، والتي التقطها المصور نيك أوت، لتكون أحد أبرز الشواهد على فظاعة الحرب، مختصرةً كثيراً من قصص الأناس العاديين والأبرياء، الذين تعرضوا للموت الشنيع بالأسلحة الأميركية.
دعونا نبقَ في سايغون، لا لنرى المأساة فقط، بل الهزيمة أيضاً. مروحية صغيرة فوق مبنى لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، في العاصمة السابقة لجمهورية فيتنام الجنوبية، في 29 نيسان/أبريل 1975، وإلى جانبها عدد غفير من الأميركيين والفيتاميين الجنوبيين، الذين ينتظرون على سطح المبنى وعلى السلالم دورهم لاستقلال إحدى المروحيات التي أَجْلَت أكثر من 7000 شخص في عملية أُطلق عليها اسم "الرياح المتكررة"، بسبب سرعة الإجلاء الذي تمّ على وقع تداعيات صادمة: سيطرة القوات الفيتنامية الشمالية و"الفيت كونغ" على سايغون، واختراق دباباتها بوابات القصر الرئاسي.
انهيار كابول أعاد إحياء صورة هولبرت فان إس، الملتقَطة قبل نحو 45 عاماً. تناقلت عدة حسابات وقنوات صورةَ الطائرة الأميركية التي تحلّق في سماء العاصمة الأفغانية، من أجل إجلاء الموظَّفين والدبلوماسيين الأميركيين، مرفَقةً بصورة فان إس، معبّرةً في ذلك عن تلازم الحدثين. لقد تغير كثيرٌ من الأمور في أميركا منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى اليوم، لكن ليس بين هذه المتغيرات خوفُ القادة والشعب من مستنقع فيتنامي آخر.
"متلازمة فيتنام" لم تنتهِ إذاً. وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خرج في إثر سقوط كابول في يد "طالبان"، ليقول إن ما يجري في كابول الآن "مغايرٌ على نحو واضح لما كان في سايغون". يريد بلينكن أن يُبعد شبح فيتنام، الذي سبق أن دمّر إدارات سابقة، لكنه لا يقدّم حجةً تدفعنا إلى التخلي عن إجراء مثل هذه المقارنة - غير العلمية بالضرورة - بين سقوط كابول وسايغون، واستلام أعداء واشنطن في أفغانستان وفيتنام زمامَ السلطة بعد سنوات طويلة من الحروب المدمِّرة.
أظهرت الولايات المتحدة فشلاً متكرراً، خلال العقود الأخيرة، في إثبات جدوى حروبها، ودفعت كثيراً من الأميركيين إلى الشكّ في فائدة "الحروب الأبدية"، بحسب تعبير الرئيس جو بايدن، على الرغم من الحاجة الأميركية إلى هذه الحروب من أجل تعزيز سيطرتها على العالم.
لم يُفلح القادة الأميركيون في إعادة ترميم ما سببته هزيمة فيتنام بصورة كاملة، وخيّبت وعود الرؤساء الأميركيين بتحقيق الانتصار والسلام في الدول المحتلة آمالَ شعبهم وحلفائهم. الرئيس السابق ريتشارد نيكسون وعد بـ"سلام مشرّف" في فيتنام، وتعهّد أنه لن يكون أوّل رئيس أميركي يخسر الحرب. لكن، بعد وعده بـ6 سنوات، خرجت بلاده مذلولةً ومن دون أن تتمكن من المحافظة على فيتنام الجنوبية، التي تُركت تواجه مصيرها عند سقوطها في أيدي الشيوعيين. وحين حاول الرئيس جورج بوش الأب "التخلص من متلازمة فيتنام، مرةً واحدة وإلى الأبد"، من خلال حرب الخليج الثانية، لم يتغير الكثير في العراق، بحيث حافظ نظام صدام حسين على وجوده. أمّا "الحرب على الإرهاب"، التي أطلقها ابنه في أفغانستان والعراق، فاستغرقت سنوات طويلة من دون أن تنجح في منع استنساخ تجربة "القاعدة" وفق أشكال أخرى اجتاحت العراق وسوريا، وهدّدت بلداناً عربية وغربية أخرى، خلال السنوات القليلة الماضية.
الأمر نفسه ينطبق على باراك أوباما، الذي جاء إلى البيت الأبيض بوعود الخروج من العراق، وخرج بدخول قواته بلداً جديداً، أي سوريا، وإطلاق تحالف دولي لمحاربة "داعش" في العراق.
شغلت قضية "الحرب على الإرهاب" حيّزاً واسعاً في الرأي العام الأميركي منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، وشكّلت محاربة دول "محور الشر" الذريعةَ الأبرز للتدخلات العسكرية، منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي. كان الإرهاب هو العدوَّ الجديد، لكن ليس أيّ إرهاب، وإنما ذلك "الإرهاب الذي لا يوافق عليه المسؤولون"، والذي يدفع إلى الاشمئزاز الأخلاقي، وفق تعبير المفكر الباكستاني إقبال أحمد. أمّا اليوتوبيا التي وعدت بها واشنطن، فهي إحلال السلام ونشر الديمقراطية في هذه البلدان، فضلاً عن "القضاء على هذه الحركات أو الدول، الرجعية والمارقة".
لكن، ماذا خلّف الاحتلال العسكري في هذه البلدان؟ الذاكرة قد لا تخدمنا أحياناً. لهذا، يمكننا مراقبة ما يجري الآن في أفغانستان، والتأمل أكثر في هذه "اللحظة التي كنا نعلم بأنها ستأتي".
أفغانستان.. 20 عاماً من الخسارة
شنّت أميركا حربها على أفغانستان عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 ضد مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى وزارة الدفاع في فرجينيا، الأمر الذي أوقع نحو 3000 قتيل. رفضت حركة "طالبان" آنذاك تسليم زعيم "القاعدة" المسؤول عن هذه الهجمات، أسامة بن لادن، إلى واشنطن، التي شرعت، بعد شهر من الهجمات، في حربها على أفغانستان الواقعة تحت سيطرة "طالبان"، واستهداف تنظيم "القاعدة".
الحرب الأطول في تاريخ أميركا هي الخسارة الأكبر في هذا القرن على الأقل. أنفقت الولايات المتحدة 2.26 ترليون دولار في أفغانستان، وفق مشروع "تكاليف الحرب". وتشمل هذه التكاليف 815.7 مليار دولار كتكاليف مباشِرة للقتال، و88 مليار دولار لتدريب القوات والشرطة الأفغانية وتجهيزها، لمواجهة حركة "طالبان" و"القاعدة".
شارك نحو 775 ألف أميركي في حرب أفغانستان منذ عام 2001. بين هؤلاء قُتل نحو 2500، بالإضافة إلى نحو 4000 متعاقد مدني أميركي، بينما جُرح أكثر من 20 ألف شخص، وفق إحصاءات "البنتاغون". أما السلطات الأفغانية، التي شاركت، برعاية من واشنطن، في الحرب ضد "طالبان"، فأخفت أرقام قتلاها، لكن مشروع "تكاليف الحرب" يرجّح أن يكون عددهم بين 66 ألفاً و69 ألفاً.
الخسائر المادية والبشرية قد تكون ضرورية أحياناً لتحقيق ما يجب تحقيقه، لكن ذلك لم يحدث في أفغانستان. فالخسائر لا تلقى ما يقابلها من نتائج. وكما يقول الناشط اليساري الباكستاني، طارق علي، فإن الحقيقة تشير إلى أن واشنطن فشلت خلال 20 عاماً في بناء أي شيء يحقّق مهمتها، فالمنطقة الخضراء، حيث يتمركز الأميركيون في كابول، كانت دائماً مضاءة وسط الظلام الدامس. وفي البلد الأفقر عالمياً استُهلكت المليارات في تبريد المنشآت العسكرية، وجُلبت الأطعمة والملابس من القواعد الأميركية في قطر والسعودية والكويت.
أنفقت أميركا نحو 36 مليار دولار في مشاريع إعادة الإعمار، والتعليم، وتجهيز البنية التحتية، بحسب ادّعاء "المفتش العام الخاص بإعادة إعمار أفغانستان" (SIGAR)، لكن أغلبية آثار هذا الإنفاق لم تظهر. القنوات والسدود والطرق السريعة باتت في حالة مزرية، بينما ظلت المستشفيات والمدارس خالية. الأميركيون يتهمون الحكومة الأفغانية بامتصاص أموال المساعدات والتفريط بها. لكن سواء أكان هذا هو السبب أم لا، فإن الحقيقة التي عبّر عنها الباحث في "مؤسسة القرن" الأميركية، وحيد حنا، تبقى نفسها: "استثمرنا الكثير [في أفغانستان] مع وجود القليل لإظهاره".
الإخفاق في تعزيز القدرات السياسية - الاقتصادية للحكومة الحليفة في كابول، أُضيف إليه إخفاق آخر: بناء جيش لا يقوى على القتال بعد الانسحاب. بعثرت عاصفة "طالبان" مليارات أميركا وخططها الهادفة إلى بناء جيش أفغاني قادر على المحافظة على الحكومة المركزية، أو على الأقل تأمين الحماية اللازمة لإجلاء الجنود والمتعاقدين.
تخوّف أميركا من تهديدات "طالبان" بشنّ هجمات على قواتها إن أبطأت في عملية الانسحاب، دفع إدارة بايدن إلى تسريع عملية الانسحاب، وإعلانها نهاية آب/أغسطس موعداً نهائياً للانسحاب. لا يعني ذلك أن عجلة الانسحاب هي السبب في سقوط كابول السريع في يد "طالبان". فوراء ذلك أسباب أخرى، لا تتحمل إدارة بايدن كامل مسؤوليتها عنها، كما يدّعي بعض المسؤولين الأميركيين، الذين يريدون ربط الإخفاق في أفغانستان بإدارة واحدة.
فشلُ الجيش الأفغاني في الدفاع عن نفسه يرتبط ببناء النموذج، كما يقول الجنرال دانيال بولغر، المكلّف بين عامي 2011 و2013 تدريبَ القوات الأفغانية. لقد بنى الأميركيون جيشاً أفغانياً قادراً على مواجهة جيش آخر، أكثر من قدرته على محاربة "عصابات مسلحة"، ويعتمد في قتاله على الاستطلاعات الاستخبارية، والغطاء الجوي، والتنسيق الرفيع، والإمدادت السريعة، وهو الأمر الذي جعل مهمةَ صمود الجيش الأفغاني المنتشر في مساحات شاسعة مهمةً شبه مستحيلة، بعد خسارته الدعم الأميركي. بمعنى آخر، بنت واشنطن جيشاً رديفاً، لا جيشاً مستقلاً وقادراً على الصمود والاستمرار. وهذا ما أدى إلى انهياره قبل الموعد المقرَّر للانسحاب.
يمكن الإشارة هنا أيضاً إلى الفشل الاستخباريّ الأميركي. الرئيس بايدن اعترف بأن سقوط "طالبان" حدث "أسرع من المتوقع"، وهذا ما أكده وزير خارجيته أنتوني بلينكن. صحيفة "وول ستريت جورنال" كانت نقلت عن مصادر استخبارية أميركية قولها إن "طالبان" قد تحتاج إلى ما بين 6 أشهر وسنة من أجل إعادة السيطرة على أفغانستان. أعقب ذلك إعلان مصدر أميركي، مطّلع على تقييمات المخابرات، أن الحركة قد تسيطر على كابول في غضون 90 يوماً. لكن حركة "طالبان" كانت أسرع من أكثر التقارير الأميركية تشاؤماً.
صورة باهتة عن "عودة أميركا"
سعى بايدن، بدءاً من السباق الرئاسي، إلى التأكيد أن إدارته ستعمل على ترميم العلاقات بالحلفاء، والعمل جاهداً من أجل عودة أميركا إلى عربة قيادة العالم. عمل خلال الأشهر الأولى من رئاسته على توطيد العلاقات بالدول الأوروبية، واستعادة زمام المبادرة في رعاية المنظمات الدولية. إلاّ أن "عار" أفغانستان، وفق تعبير ترامب، قد يضيّع كثيراً من جهود إدارته في هذا الطريق.
أثار فشل أميركا في أفغانستان كثيراً من التساؤلات عند حلفائها عن صواب الاعتماد على واشنطن لمعالجة قضاياهم السياسية والأمنية.
في "إسرائيل"، كان المسؤولون السابقون والصحافيون أكثر جرأة على طرح ما لا يستطيع المسؤولون الحاليون طرحه. رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، خطّأ سياسة واشنطن تجاه أفعانستان وإيران، وتفاخَرَ بقدرته على اكتشاف خطل أميركا في الاعتماد على الجيش الأفغاني منذ أمد بعيد، وذلك في إطار تأكيده ضرورة اعتماد "إسرائيل" على نفسها لضمان أمنها، لا على واشنطن.
أمّا رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية السابق، اللواء عاموس يادلين، فوصف الانسحاب الأميركي بالـ"هروب المهين"، والذي لا يساعد حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخصوصاً أن الخطوة الأميركية ستُعتبر "دليل ضعف" في الساحة الدولية.
صحيفة "غلوبل تايمز" الصينية تساءلت عن مصير دولة أخرى حليفة لواشنطن: تايوان. فهذا البلد، تقول الصحيفة، هو الأكثر اعتماداً على أميركا في آسيا. لهذا، يمكننا الاستفهام إن كان انسحاب أميركا السريع من أفغانستان، وترك كابول تسقط في يد "طالبان"، يُعَدّان إنذاراً لتايوان، بينما طرحت الأستاذة في جامعة ستوكهولم، آي جون هو، سؤلاً آخراً في الصحيفة ذاتها: "إذا كانت أميركا لم تستطع الانتصار في تنافسها مع دول صغيرة، فكيف تنجح في لعبة القوى العظمى مع الصين؟".
أمام بايدن الكثير لينجزه قبل أن يصدُق ادعاؤه بأن "أميركا عائدة"، وفي تقدّمه لاستعادة مجد بلاده، عليه التأكّد من أن أعداءه لم يملأوا الطريق الذي قطعه.