نوبات القلق والتوتر... أمراض مُخبّأة

لانطباعات الأولى التي تتكوّن حول العلل غير الجسدية بمعظمها سلبية. فالكثيرون يربطون الاضطراب النفسي بما كان يُصنّف قديماً ب"الجنون" أو "البساطة"، الأمر الذي قد يدفع بالمرضى إلى إخفاء اضطراباتهم ما يؤدّي لاحقاً إلى تفاقمها.

  • نوبات القلق والتوتر... أمراض مُخبّأة
    المجهود الذي قد يبذله الشاب اليوم قد لا يكون كافياً للوصول إلى ما كان قد وصل إليه الشاب بالمجهود نفسه منذ 50 سنة

كنت قد بادرت لقراءة رواية “The Marriage Plo” للكاتب الأميركي - اليوناني الأصل Jeffrey Eugenides لمجرّد أن البطلة طالبة جامعية تختصّ بالأدب الإنكليزي. إلا أنني عند النهاية فوجئت بأن ما خطف اهتمامي كليّاً هو الشخصية الأساسية التي تعاني من "اضطراب ثنائي - القطب" والذي من عوارضه تبرز تقلّبات المزاج الحادة والإكتئاب. ومع أنني كنت مُلمّة إلى درجة ٍما بحقيقة الاضطرابات النفسية من مقالات هنا وهناك، إلا أن الرواية دفعتني إلى التفكّر مليّاً بواقع أليم وخطير يواجه العالم ألا وهو الأمراض الخفيّة. وبما أن المجتمعات المُتزعزعة أمنيّاً وسياسيّاً تشكل بيئة خصبة للحالات النفسية المُضطربة، يجدر بنا بدايةً - وانطلاقًا من هذه الحقيقة- بذل ولو أدنى مجهود لطرح موضوع  الصحة النفسيّة بجدية أكبر على طاولة عالمنا العربي.

يسارع الإنسان العادي اليوم إلى إطلاق صفة "بدعة" على ما يفشل في فهمه أو على كل ما هو خارج عن المألوف. وقد يرى البعض أن هذا التّوصيف موجّه حصراً إلى المواطن العربي، أو مَن قد يصنّفوا ب"ذوي العقليّة الشّرقية" بدليل أن "الشّرقي" - وهنا أشدّد على علامات الإقتباس- يخشى الإنفتاح على ما هو جديد، خيراً كان أو شرّاً، وذلك خوفاً من تغيير واقعه، وإن كان مريراً، إلى مستقبل يجهله. إلا أنّ التّوصيف أعلاه في سياق الحديث هنا ينطبق على "الغربي" بقدر ما ينطبق على "الشّرقي". فالخوف من المجهول هو عامل مشترك بين البشر أجمع، بغضّ النظر عن العِرق واللّغة والثّقافة وكل ما تمكّن البشر من توظيفه في التفريق بينهم.

لم تكن "الصحة النفسيّة" (mental heath) قديماً محل اهتمام العلماء. ويجوز القول بأن الوضع يتعدّى ما إذا كانت محل اهتمام أو لا، حيث أنّ قبل 100 عام لم تكن أمراً معترفاً به وكان يعاقب مرضى "الاضطرابات النفسيّة" (mental disorders) بشتّى الوسائل من إنكار لمُعاناتهم إلى نبذهم اجتماعياً. وفي يومنا هذا لا يبرز اختلاف كبير. فبالرغم من التقدّم الملحوظ في الطبّ النفسي العيادي وبالرغم أيضاً من شمل منظمة الصحة العالمية للصحة النفسية ضمن تعريفها للصحّة، ما زالت المجتمعات تعاني من الجهل بأنواع وأسباب الاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى درجاتها وعوارضها.

إقرأ أيضاً: فوبيا الثقوب: اضطراب نفسي أم مجرد شعور وهمي؟

ويرى البعض بأن جيل الشباب اليوم، وتحديداً شباب الألفية (Millennials) (بين الأعمار 18 و35)، هم من يشكّلون الشريحة الأكبر من ضحايا الاضطرابات النفسيّة، بحيث يعاني الكثير منهم من التوتّر (stress) واضطرابات القلق (anxiety disorders). ويعود ذلك جزئيّاً إلى الضغوطات الاجتماعية والتوقّعات التي تُثقل عاتقهم ليس من قِبَل عائلاتهم وأترابهم فقط، بل من قِبَل أنفسهم أيضاً. ففي دراسة نُشِرت في مجلة "American Psychological Association"، يرى باحثون بريطانيون بأن فئة الشباب اليوم لا تسعى إلى المثالية فقط بل وتطالب الآخر بها.

أضف إلى ذلك أنّ الحياة اختلفت ومعها اختلف واقع الأمور. فالمجهود الذي قد يبذله الشاب اليوم قد لا يكون كافياً للوصول إلى ما كان قد وصل إليه الشاب بالمجهود نفسه منذ 50 سنة. ومن تبعات المقارنة غير العادلة مع الأجيال السابقة، تنبع مشاعر النقص والعجز واليأس، ما قد يُعزى إليه تصاعد حالات التوتّر والقلق. وما يزيد الطين بلّة هو حال النكران من البيئة المحيطة للشاب حيث لا يُعترف بهكذا حالات على أنها علل كتلك الجسدية رغم الخدر والإحباط الذي يصيب المريض.

الانطباعات الأولى التي تتكوّن حول العلل غير الجسدية بمعظمها سلبية. فالكثيرون يربطون الاضطراب النفسي بما كان يُصنّف قديماً ب"الجنون" أو "البساطة"، الأمر الذي قد يدفع بالمرضى إلى إخفاء اضطراباتهم ما يؤدّي لاحقاً إلى تفاقمها. وتجهل فئة كبيرة ممَن لديهم هذه الانطباعات السلبية أنّ منهم مَن قد ينطبق عليه التشخيص العيادي للمُضطرب نفسيّاً ولو إلى أبسط الدرجات. ويجهل منهم أيضاً أن ضمنهم مَن قد يجد نفسه يوماً ضحية نوبة قلق مثلًا، والتي تشبه بعوارضها - في بعض درجاتها - الأزمة القلبية من تسارُع في نبضات القلب وتنميل في الذراع، ولن يجرؤ على الحديث عنها خوفاً من ردّة فعل محيطه.

الاضطرابات النفسية من نوبات قلق وتوتّر ليست دليلًا على ضعف الشخصية، وإن كانت دليلاً على أمر ما فهي دليل على مجتمعات عاجزة، عربية كانت أو أجنبية، شرقية أو غربية. والخوف من إدراك وجودها والاعتراف بها ومواجهتها هو تحدّ يهدّد إنتاجية جيل اليوم والأجيال الصاعدة، وبتجاهلها يُمسي المجتمع كالجسد السقيم الذي يشعر بألمٍ ويرفض تشخيصه لمجرّد ألا جرح ينزف.