التلوث السمعي يختلف ويتدرج من مكان لمكان بحسب نوع الصوت وحدّته والفترة التي يتعرض الفرد فيها لهذا المؤثر.
أحد الأشخاص المقربين زارني في الصيدلية
وعلامات البؤس بادية على ملامحه، تبين خلال النظر في وصفته الطبية أنه سيبدأ العلاج
بالمهدئات العصبية إضافة إلى أدوية علاج لمشاكل في السمع!
وعند الإستفسار عن الأسباب قال:
لم أعد أتمكن من تحمل الضجيج في المنطقة التي أعمل بها، لا ننعم بالهدوء إلا
لدقائق معدودة، فهدير مولدات الكهرباء لا يلبث أن يخفت إلا ساعة أو ساعتين ثم تتوالى
المعاناة وتتكرر.
تعاطفت مع صديقي فأنا أعاني من نفس المشكلة..
إزدحام السير يؤرقني ويوتّرني سواءً في المنزل أو خلال ساعات العمل، فهل لدى أي مناّ
أدنى شك بأننّا نعيش في بحر من الضجيج؟
تحيط بنا الأجهزة الإلكترونية في المكاتب، نعمل برعاية أجهزة التكييف، نتنقّل في طرقات تتسم بالإزدحام الخانق، طفرة العمران
المتزايد وآلات البناء التي تعمل من حولنا.
حتى في المنزل.. نحن نحيا في محيط من الآلات
التي صارت ركناً أساسياً من أركان حياتنا العصرية، عدا عن ضوضاء الطائرات والمصانع
خاصة لمن يقطن قريباً من المطار أو المدن الصناعية.
فالتلوث الهوائي لا يقتصر على الدخان والغازات
السامة المنبعثة من فوهة المعامل، جزء من هذا التلوث فيزيائي غير مرئي يؤثر على نشاط
الفرد وإنتاجيته وعلى الجهاز العصبي لديه كما
يؤثر على السمع (بشكل مباشر أو غير مباشر).
إنه تلوث الضوضاء.. ذاك الخليط من الأصوات المزعجة التي هي من صنعنا
نحن البشر نعيش تحت رحمتها شئنا أم أبينا، والتي لا تمكّننا من أن ننعم بقليل من الراحة
أو الهدوء في معظم الوقت.
للتلوث الضوضائي أنواع عدة:
يختلف تقسيمها من شخص لآخر حيث أن الأمر شخصي. فالصوت الذي قد
يزعج فرداً ما قد لا يكون مزعجاً لفرد آخر إلا أن العلماء أكدوا على أنواع ضوضاء رئيسية
وهي:
1. ضوضاء
الطرقات:
• وسائل
النقل بأشكالها المختلفة سواء كانت سيارات أو قطارات ، حتى وسائل النقل الجوي ( الطائرات
)
• نداء
الباعة المتجولين.
• المناطق
التي تعاني من الحروب العسكرية.
2. الضوضاء
الناتجة عن الموسيقى والأغاني الصاخبة.
الموسيقى في بعض الأوقات قد تكون سببا لراحة
الأعصاب وتحسين المزاج إلا أنها إن كانت في وقت غير مناسب ( خلال وقت الدراسة أو قبيل
النوم ) فإنها تصبح مصدر إزعاج وقلق خصوصاً الصاخبة منها.
3. الضوضاء الناتجة عن التعليق على الأحداث
والمباريات.
4. ضوضاء المصانع والمعامل والمهن الحرفية.
بالتأكيد فهي تؤثر على العاملين في المصنع
وعلى الناس المحيطين به .. ويعد هذا النوع
من أخطر أنواع الضوضاء.
5. ضوضاء الورش الإنشائية والبناء.
6. ضوضاء مولدات الكهرباء باختلاف أحجامها وأنواعها.
7. الضوضاء المائية.
فصوت الأمواج قد يكون مزعجاً للبعض، كما
أن محركات السفن البحرية تصدر صوتاً مزعجاً
ليس فقط للبشر، بل إن بعض الكائنات البحرية تتأثر بها وتسمعها عن بعد كالحيتان على
سبيل المثال.
8. الضوضاء الإجتماعية:
• بعض
الأنشطة الإجتماعية كالحفلات العائلية
• الصوت
الصادر عن صراخ الجيران
• بكاء
الأطفال بشكل متواصل
• الأجهزة
الكهربائية المستخدمة في المنزل (كالتلفاز والمكنسة الكهربائية ...)
حتى أن مهندسي البناء صاروا يستعينون بإضافة
مواد عازلة للصوت عند بناء الجدران، إلا أن تكلفة هذه المواد باهظة.
وحدة قياس تلوث الضوضاء:
هي مقدار ما يستطيع أن يتحمله الإنسان من
أصوات بحيث لا تسبب له الأرق في النوم، تقاس بوحدة الديسيبل، والتي تكون بمعدل (
30 حتى 75 ديسيبل ) كحد أقصى لقدرة إحتمال الفرد من ضوضاء.
ويقول بعض المتخصصين أن النائم يتأثر بالضوضاء
عندما يصل منسوبها إلى أذنيه (20 ديسيبل) ولم يعرف إلى الآن لماذا يتأثر النائم بهذا
المنسوب المنخفض على الرغم من أنه لا يسبب إيقاظه، إلا أن استمرار النوم مع وجوده يؤدي إلى أضرار نفسية وأحياناً صحية.
الآثار السلبية للضوضاء متعددة، نذكر منها:
1- التأثير
على السمع:
تقوم الأذن بتحويل الموجات الصوتية التي
تستقبلها من المصدر إلى إشارات كهربائية ( عصبية ) وترسلها إلى المخ ليتعرف عليها ويفسرها، ونتيجة لتكرار سماع الصوت المزعج العالي فإن الأذن قد تتعرض للتلف، سيبدأ الأمر
بضعف حاسة السمع بشكل تدريجي ثم سيؤول في النهاية
لفقدان تام للسمع. وهذا الصمم يعتبر من الأمراض المهنية الخطيرة.
2-الأثر النفسي والعصبي:
صداع وآلام في الرأس ستتسبب بقلق وتوتر
عصبي، لاشك فإن لهذه الأعراض تأثيرات سلبية على التركيز وتشتت الذهن خصوصاً خلال ساعات
العمل. أغلب من يعانون من هذه العوارض سيلاحظون حاجتهم المتكررة للتغيّب عن العمل
ونفاذ الصبر، فلا قدرة لهم لتحمل الظروف القاسية، كما سيفقدون الشهية على الطعام وسيتنامى
لديهم حب العزلة والإنطواء ويعانون القلق ليلاً.
2- آثار
صحية :
ستزداد سرعة ضربات القلب، فإفراز الهرمونات
في الجسم بشكل عام قد ارتفع خصوصاً هرمون الأدرينالين، كما أن الشعور بالإرهاق سيكون
مرافقاً للفرد بشكل شبه يومي نتيجة وهن العضلات الإرادية، ستتسارع حركة العين اللا
إرادية، كما أن الأشخاص الذين يعانون الحساسية الجلدية أو أمراض الربو سيلاحظون ازدياداً
في تدهور حالتهم الصحية.
3- الحامل
والجنين:
لوحظ أن العاملات الحوامل في المصانع عانين
من توتر وقلق كذلك أمراض عصبية بعد الولادة، أما الأجنة فلوحظ أيضاً ازدياد حساسية
الجهاز العصبي لديهم.. هناك أبحاث تقول أن هذه الحساسية المرتفعة ترافق الفرد طيلة
حياته وبنسب متفاوتة من شخص لآخر .
4- سلوكيات الأفراد:
• قد
لا تشعر بارتفاع صوتك بشكل لافت عند التحدث مع أصدقائك، سيلاحظ ذلك من حولك.. نعم
فأنت لم تعد تسمع جيداً كما في السابق، حتى أنك لن تستطيع سماع شخص يحدثك على بعد
متر بشكل واضح على سبيل المثال.
• التجاذب
بين الأفراد سيتضاءل، لأن الضوضاء التي تتعدى ( 80 ديسيبيل ) ستسبب حالة نفور ورغبة
في زيادة المسافة بين الأشخاص، سيشعر الفرد براحة نفسية في ذلك.
• الميل
إلى العدوانية والقسوة في التعامل مع المحيط البشري
• الإيثار
وحب المساعدة : فهذا الحس الإنساني سيتلاشى
مع الوقت كلما ازداد معدل الضوضاء في البيئة المحيطة، لايمكن لشخص متشتّت الذهن ومتوتر
الأعصاب ان يكون مرتاحاً لتقديم مساعدة ما، فهذه الأمور ستصبح عديمة الأهمية.
• حب
النقاش والجدل العقيم حتى لو كان محور النقاش تافهاً.
• تغير
المزاج والعاطفة وحتى الضعف الجنسي.
التلوث السمعي يختلف ويتدرج من مكان لمكان
بحسب نوع الصوت وحدّته والفترة التي يتعرض الفرد فيها لهذا المؤثر ونوع العمل الذي
يعتاش منه، كلها عوامل تزيد من حساسية الفرد للتلوث المسعي.
ومن المسلّمات الصحيّة، أن تقوم الوزارات
المعنيّة في الحكومات بتوعية المواطنين لهذا النوع من التلوث وإجراء الفحوصات الطبية
الدورية للطبقة العاملة في المعامل الحكومية وإرشادهم وتوعيتهم بوسائل الوقاية اللازمة
كسدادات الأذن والخوذات التي تغطي الرأس والأذنين للحد من أثر الأصوات المرتفعه.
بالتأكيد، الأشخاص الذين يقطنون في الأرياف
يتميزون بهدوء السريرة وحسن المزاج وحس الفكاهة على عكس من يقطن في المدن خصوصاً المكتظ
منها، فالهدوء يضفي على حياتنا الجاذبية والإشراق، وينمي العاطفة ويخلق عوالم الخيال
والأحلام البراّقة، فالشعراء والأدباء وجدوا من البيئة الجميلة والأرض الفسيحة والأفق
الواسع وسكينة المكان أرضية خصبة لكتاباتهم وإحساسهم المرهف.
ربما لا يمكننا تغيير الواقع، ولا الحد
من ثورة المعامل وطفرة التكنولوجيا، قد لا نستطيع تغيير مكان سكننا ولا حتى السيطرة
على البيئة المحيطة بنا، إلا أننا نستطيع خلق فرص زمنية للهروب من ضجيج المدن الصاخب
واللجوء للأرياف أو المناطق الهادئة بشكل عام ولو لساعات معدودة لننعم ببعض من السلام، وأختم بما قاله الشاعر محمود درويش: في الهدوء نعيم وفي الصمت حياة وما بين الإثنين
تفاصيل لا أحد يدركها.