"لا أرى بارقة أمل".. لماذا تتراجع الثقة بالليرة التركية رغم نمو الاقتصاد؟
يعاني المواطنون الأتراك من تراجع في قدرتهم الشرائية بفعل انحدار قيمة الليرة التركية إلى مستوى قياسي، فما أسباب خسارة العملة المحلية لـ30% من قيمتها خلال عام واحد؟
ترتفع الأسعار في تركيا منذ الصيف الماضي. قد لا تكون تركيا استثناءً، فوتيرة أسعار السلع الغذائية وسلع الاستهلاك اليومي في العالم ترتفع على وقع التوترات السياسية وجائحة كورونا والنقص في إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها. وهذا ما ينطبق على الولايات المتحدة التي زادت أسعار المستهلك فيها، خلال الأشهر القليلة الماضية، بنسب عالية تخطت الـ6% خلال تشرين الأول/أكتوبر 2021.
ورغم تضخم الأسعار عالمياً، تبدو الصورة في تركيا أكثر قتامة. فالقدرة الشرائية للسكان تتراجع على وقع انهيار الليرة، وهذا ما تظهره البيانات الرسمية المنشورة، اليوم الاثنين، إذ تراجعت ثقة المستهلكين من 7.3% إلى 71.1 نقطة، في تشرين الثاني/نوفمبر، وهو أدنى مستوى لها منذ البدء في نشر البيانات عام 2004، في انعكاس لعمليات بيع سريعة لليرة التركية بأدنى قيمة لها على الإطلاق.
رواد أسواق اسطنبول مستاؤون... "رواتبنا في مهب الريح"
في سوق إيمنونو الشهير قرب البازار الكبير في اسطنبول، تسحب نعيمة دفتر ملاحظاتها لتدون الأسعار الجديدة التي تتغير من يوم لآخر في ظل التراجع المستمر لسعر صرف الليرة التركية، وتقول هذه المتقاعدة: "أكتب الأسعار وأحسب كل شيء".
تشتكي نعيمة أنّه لم يعد بإمكانها شراء ما تريد، فعندما تذهب إلى السوق "تتغير الأسعار من يوم إلى آخر"، وذلك ما ينهي فترة رخائها السابقة، حيث كان بإمكانها بسهولة قضاء إجازة مع عائلتها، لكن "كل ذلك انتهى، الآن نكاد لا نلبي احتياجاتنا".
أما عبد الله جيسي وزوجته وهما متقاعدان، فقد قاما برحلة طويلة بالسيارة إلى بازار إيمنونو على أمل التوفير، لكنّه مع ذلك يشير إلى حقيبة التسوق التي تمسك بها زوجته ويقول: "لم نشترِ شيئاً تقريباً وأنفقنا 120 ليرة (9,5 يورو)".
ويعرب عن أسفه بينما يشير إلى البقالة: "نحتاج إلى الكثير من الأشياء الأخرى من هنا... لديهم سلامي وسجق، أحبها لكني لم أعد قادراً على تحمل تكاليفها... رواتبنا صارت في مهب الريح".
فيريا التي جاءت لشراء معطف لزوجها بسعر مناسب على ما تأمل، تتساءل كذلك باستهجان: "معاشي التقاعدي يبلغ 2600 ليرة (200 يورو). كيف تتوقعون مني أن أدفع 1600 ليرة (120 يورو) ثمن معطف؟... لا أعرف إن كنتُ سأجد شيئاً بسعر معقول هنا".
الشكاية تصدر من الجميع، فيما يبدو انتظار تحسّن الأمور سائداً كما هو حال حفظ الله كانباي الجالس على جسر غلطة الذي يمتد على منطقة القرن الذهبي، بينما يلقي صنارة الصيد أثناء انتظاره لتولي عمله كسائق حافلة صغيرة.
بالنسبة لحفظ الله، فإنّ السياسات الحالية تثري الأغنياء فقط وتفقر الفقراء. يقول لك حين تسأله عن حاله في ظل تدهور قيمة الليرة: "لا تسألني إذا كان ما زال لدي أمل، لقد فقدته، لا أرى أي بارقة"، فهو عليه الآن أن يحسب كل شيء، "هذا هو وضعنا الآن".
لماذا تتدهور الليرة التركية؟
تجاوز سعر الصرف عتبة 11 ليرة للدولار الواحد لأول مرة في تاريخ العملة الوطنية، يوم الخميس الماضي، وبذلك شهدت الليرة التركية تراجعاً في قيمتها بمقدار الثلث مقابل الدولار منذ مطلع العام.
ويحذّر الاقتصاديون من أنّ التراجع لن يتوقف في ظل الخيارات المالية غير التقليدية للرئيس رجب طيب إردوغان، الذي يعارض أي زيادة في أسعار الفائدة رغم تسارع التضخم الذي بلغ نحو 20% على مدى عام.
ويبلغ الحد الأدنى الصافي للأجور في تركيا 2825 ليرة، أي 224 يورو حسب سعر الصرف الحالي، ما يجعل إعالة عائلة بهذا المبلغ في المدن الكبرى "مستحيلاً" تقريباً، حيث بلغ سعر رغيف الخبز 2,5 ليرة، وكيلوغرام اللحم المفروم المستهلك على نطاق واسع 90 ليرة. وتجاوز سعر 5 لترات من الزيت 100 ليرة.
أما معدل البطالة الرسمي في البلد الذي يعد 83 مليون نسمة فبلغ 11,5%، في أيلول/سبتمبر، مع الإشارة إلى أنّ العديد من الأتراك يعملون في قطاعي البناء والزراعة غير المنظمين.
لكنّ هذه الأزمة ليست حديثة، فقد تعرضت تركيا التي تعدُّ أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط وتحتل المرتبة الـ20 في العالم، لانكماشين حادين في السنوات العديدة الماضية، كما خسرت عملتها ثلثي قيمتها منذ منتصف عام 2018.
تدهور سعر الليرة لا يعني تدهور اقتصاد البلاد، فرغم تسارع التضخم وزيادة نسب البطالة، لا يزال الاقتصاد التركي يحقق نمواً بنسبة 9% هذا العام مع تعافيها من الوباء، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. لكنّ الأمر مختلف بالنسبة للأسر والمستهلكين، حيث من المرجّح أن يتّجه التضخم نحو 30% بفضل الانخفاض الحاد في قوة السكان الشرائية وتآكلها بسرعة.
يوجّه معارضو إردوغان إليه اللوم في تدهور وضع الليرة، فالرئيس التركي يعارض السياسات التي اتبعها المصرف المركزي منذ العام 2018 برفع سعر الفائدة إلى 24% أو 19%، في حين أنّها لا تتجاوز في الدول الاقتصادية الكبرى الصفر أو 1%.
حجّة إردوغان تقول إنّ منح فوائد عالية على الإيداعات يجذب رؤوس الأموال، لكنّه مع ذلك يشكّل عائقاً أمام الإنتاج والاستثمار، فبدلاً من تشغيل هذه الأموال في مشاريع إنتاجية تؤمن فرص العمل وتصنع اقتصاداً حقيقياً لا مالياً، يقوم رجال الأعمال بالاعتماد على عوائد الأموال المودعة.
خطة إردوغان لخفض أسعار الفائدة وضعته في صدام مع عدد من المسؤولين الماليين في إدارته قبل نحو العام، حين تقدّم وزير الخزانة والمالية التركي براءات ألبيرق باستقالته من منصبه، في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ليجري تعيين لطفي ألوان، وذلك بالتزامن مع إقالة محافظ البنك المركزي مراد أويصال من منصبه، وتعيين وزير المالية الأسبق ناجي آغبال خلفاً له. وهي تغييرات عدّت بأنّها محاولة من إردوغان للإمساك أكثر بمفاصل السياسات المالية في بلاده.
هناك من يرجع الانخفاض في الليرة إلى أسباب أخرى ترتبط بتراجع الثقة في حزب العدالة والتنمية الحاكم، والتوترات الإقليمية التي تلعب فيها أنقرة دوراً بارزاً (قبرص، سوريا، العراق)، ومحاولة الانقلاب الذي حدث عام 2016، وهي عوامل تساهم في تراجع ثقة المستثمرين وتتسبب في زيادة الضغط على العملة المحلية.
وتسير الأمور حالياً وفق مخطط إردوغان، حيث خفض البنك المركزي، يوم الخميس الماضي، سعر الفائدة بمقدار نقطة واحدة ليصير 15%، ما تسبب بتسجيل الليرة أدنى مستوى قياسي لها عند 11.3 ليرة للدولار، قبل أن تنتعش قليلاً لتبلغ 11.2 مقابل الدولار اليوم الإثنين.
ويأمل إردوغان وفريقه أن تكون ارتدادت سياسة تخفيض الفوائد محدودة، وأن تنجح الحكومة في تحقيق التوازن بين نمو الاقتصاد وانخفاض التضخم، لكنّ مخاطر غير متوقعة قد تساهم في المزيد من الانحدار، وأهمها خسارة الثقة بالليرة، وتوجّه المودعين في البنوك إلى تحويل أموالهم إلى عملات أجنبية لضمان قيمتها.
محافظة البنوك التركية على أسعار الفائدة العالية لا يعني أنّ المكاسب العالية المتوقعة ستجذب الأموال الأجنبية، وهذا ما يوضحه فيكتور زابو، المسؤول في "أبردين ستاندرد إنفستمنتس"، والذي يقول إنّ أسعار الفائدة البالغة 15% قد تكون "جذابة ظاهرياً" للمستثمرين الأجانب المتعطشين للعائدات، لكنّ المكاسب السنوية المتوقعة يمكن "القضاء عليها في غضون أسابيع قليلة"، بالنظر إلى وتيرة انخفاض الليرة.