في مواجهة شيطنة المصارف

ما قامت به المصارف، طوال العقود السابقة، أنها كانت تجمع "الدولارات" من السوق، وتقوم بتقديم دين بالليرة إلى رياض، وفق سعر صرف عند 1500 ليرة للدولار، علماً بأن التقديرات الدولية آنذاك (قبل الانهيار) تشير إلى أن سعر الصرف الحقيقي يجب ان يكون 4500 ليرة!

  • في مواجهة شيطنة المصارف
    المصارف كانت تجمع "الدولارات" من السوق

"من الجيد أن المواطنين لا يفهمون كيف يعمل نظامنا المصرفي والمالي، لأنهم إن فهموا، فأنا أؤمن بأن هناك ثورة ستندلع اليوم قبل الغد".

(هنري فورد)

هناك رأي اقتصادي يقول إنّ كل الموبقات الاقتصادية، والتي تعصف بلبنان، تعود في الأصل إلى سلطة المصارف التي تحكم العلاقات الاقتصادية. في مقابل هذا الرأي، هناك رأي آخر يرى أن عصب الاقتصاد هو الخدمات المالية التي توفرها هذه المنظومة. هذا التوجه يدين بشدة "محاولات شيطنة المصارف"، على اعتبار أن دورها حيوي في رسم خريطة السيولة وتوزعها، وأنها تقدم خدمة أكثر من حيوية عبر ربط لبنان بخريطة المال العالمية.

بعيداً عن إعلانات المصارف، التي تركّز على أن دورها هو "وسيط" بين المودعين والمقترضين، وأنها تتلقى نسبة مئوية من الفوائد المترتبة على هذه العملية فقط، إلاّ أن الدور الحقيقي والأخطر للمصارف هو في كونها "مخلّقة للنقود" Money Creation. هي طبعاً لا تقوم بطباعة النقد، لكنها توفر سيولة فائضة عن كمية النقد الحقيقي (العملة الورقية).

ولتبسيط النموذج الذي تؤديه في هذا الإطار، يمكن أن نأخذ مثالاً: فلنفترض أن رياض، وهو تاجر، يحتاج إلى استدانة 9000 دولار، يتوجه إلى المصرف الذي يضع في حسابه هذا المبلغ، وقام المصرف بتوفير هذا المبلغ من مودعين آخرين، تبلغ القيمة الاجمالية لودائعهم 10000 دولار، وضع منها 1000 دولار احتياطياً إلزامياً.

ما فعله المصرف حالياً، هو عبارة عن عملية إقراض طبيعية، كان يمكن أن تتم بين الطرفين ومن دون وسيط (أي البنك). لكن ما يحدث أن التاجر عندما يتصرف بهذا المبلغ، فلْنَقُلْ إنَّه سدَّد ثمن بضائع بهذه القيمة، وقام البائع بإيداع الأموال في مصرفه، فهذا سيولّد قدرة إقراضية لدى البنك تبلغ 8000 دولار.

وحين تتكرر هذه العملية، فإن المصارف تكون ولَّدت أموالاً (الآن) غير موجودة في المستقبل. وهذه العملية بالتحديد وتكرارها باتا يحتاجان إلى "بنك". وهذا البنك لا يقوم بهذه العملية إلاّ بسبب اعتقاده أن المودعين الأوائل لن يأتوا الآن للمطالبة بأموالهم مجتمعين. وبالتالي، ألاّ يملك هذه الأموال حالياً، أمر لا يشكل له معضلة كبيرة.

في المقلب الآخر، تعرف المصارف السعر القيمي للنقود التي تمتلكها؛ بمعنى أنه إن كانت العملة المحلية عند شريحة سعرية أدنى من الحقيقة، وإن كان يتم تداولها لأعوام وفق هذه الشريحة، إلا أنها تعلم، علم اليقين، بأن جمع هذه العملة "غير آمن". وما هو آمن فعلياً، من وجهة نظرها، هو الحصول على المقابل الدولي لها؛ أي الدولار، أو اليورو، أو الين. في لبنان، تجري العادة على اصطلاح "الاقتصاد المدولر".

فعلياً ما هو "مدولر" هو هذه الخدمات المالية التي تقدمها المصارف (لأن كل بلدان العالم تستخدم، في الأصل، عملة معيارية لإجراء تبادلاتها الدولية. وأكذوبة أن "الاقتصاد مدولر" تستند إلى أن "الدولار هو العملة التي تُستخدم شعبياً، وفي الداخل، من دون أي قيود"). وما تقوم به المصارف، في هذه الحالة، أخطر من الحالة السابقة التي أشرنا فيها إلى حادثة رياض؛ التاجر الذي ذهب ليستدين.

ما قامت به المصارف، طوال العقود السابقة، أنها كانت تجمع "الدولارات" من السوق، وتقوم بتقديم دين بالليرة إلى رياض، وفق سعر صرف عند 1500 ليرة للدولار، علماً بأن التقديرات الدولية آنذاك (قبل الانهيار) تشير إلى أن سعر الصرف الحقيقي يجب ان يكون 4500 ليرة! لكن حينها، كان المصرف المركزي يعلن، بصورة دائمة، أن الثقة موجودة، وأن الليرة "قوية"، وأن الاحتياطيات لدى المركزي "كافية"، من دون تقديم أي أساس محاسبي لهذه المفاهيم. فعَلامَ بُنِيَت!!

بالطبع، يمكننا أن نعود إلى عبارة فورد في المتن... المواطنون لا يفهمون كيف يعمل النظام. في الحقيقة، أن المركزي باع "وهم الدولار بـ 1500 ليرة" طوال عقود، وماذا جنى؟ المصارف، التي تعلم بالحقيقة، اكتنزت الدولارات التي يرسلها المغتربون بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية (القيمة الشرائية آنذاك لكل دولار في السوق اللبنانية كانت أقل، ليس لأنها كذلك، بل بسبب سياسة تثبيت سعر الصرف).

كان المجتمع يدفع الثمن. الأجور التي تم تقييمها بالليرة مرتفعة، ويمكن لأي شخص إبدالها بالدولارات. لكن التفكير القصير، واستنزافها على الاستهلاك والريوع وشراء الخدمات، كانا يحرمان حتى الذين يعلمون كيف يعمل النظام، من دون أن يكونوا من أصحاب الثروات، من الاستفادة المستقبلية. لكن ما هو أخطر: كيف كان المركزي يوفّر التزاماته الدولارية؟ ببساطة، عبر مراسيم وقوانين وغيرها من الأشكال "القانونية" والهندسات، يطلب المركزي من المصارف منحه بعضاً من دولاراتها، ويطلب على أن يسددها فوراً وبالليرة، مع فائدة.

ووصلت هذه الفائدة إلى جعل الدولار عند سعر الصرف الحقيقي في بعض المرات؛ أي أن المركزي بات يشتري الدولار، ويعطي البنوك ليرة، فتقوم المصارف فوراً بإدخالها السوق وإبدالها بدولارات جديدة. ولأننا في لبنان نعتمد، بصورة رئيسية، على العملات الأجنبية من المغتربين، باتت المصارف بدورها تُغري المغتربين وذويهم (معظم الشعب اللبناني) بالحصول على فوائد "هائلة" بالليرة؛ أي أن تحصل المصارف منهم على العملات الأجنبية وتقوم بإبدالها بالليرة مع فوائد "تبدو مجزية". في الحقيقة، كانت هذه أكبر خديعة مارسها البنك المركزي بالتعاون مع المصارف طوال عقود، بحيث تم تأسيس نظام شبيه بمنظومة برنارد مادوف (المصطلح عليها نظام مادوف أو خديعة مادوف).

المغتربون، الذين يحصلون على عوائد أعلى من أي استثمار ممكن أن يؤسسوه في الخارج، باتوا يرسلون "دولاراتهم" إلى لبنان من أجل "استثمارها".. في ماذا؟ في تجميدها بالليرة لدى البنوك! أي نوع من الاستثمار هذا!

بدأ هذا النموذج في التحول. الفوائد المرتفعة على الودائع المتضخمة، بالتوازي مع اقتصاد غير منتج، يعتمد على استيراد معظم السلع، وضرب للقطاعين الصناعي والزراعي، أدى كل ذلك إلى خروج العملات الصعبة من البلاد في وتيرة أكبر من دخولها، بسبب الميزان التجاري الخاسر (للعلم، فإن الإدارة الأميركية شنت حرباً اقتصادية على الصين بسبب ميزانها التجاري الخاسر معها، بينما لبنان ذهب إلى مزيد من الاستدانة).

مجتمع يستورد ويستهلك كل شيء، ولا يُنتج أي شيء، ومصارفه تتحدث عن "أرباح" هي فعلياً ريوع إعادة تدوير هذه اللعبة، لأنها تعلم بحقيقتها. هذه الأرباح تصل إلى 2.7 مليار دولار سنوياً. فكيف لمجموعة مصارف، في رقعة جغرافية لا تُنتج أي شيء وتستورد كل شيء، أن تكسب مبلغاً كهذا. لم يتكبّد أحد عناء الإجابة عن هذا السؤال، لأن الجميع يريد أن يكسب، وأن تستمر هذه اللعبة.

كل ما ذُكِر يتناقض مع العنوان، "في مواجهة شيطنة المصارف". فعلياً، لا يمكن هنا إلا شيطنة طرف واحد، هو "المنظومة المالية وملحقاتها"، أو المجتمع الذي خُدِع طوال عقود؛ أي في مواجهة شيطنة المصارف، لا يمكن إلاّ شيطنة المجتمع. إنه غير منتج، وقائم على الاستهلاك، ولا يريد أن يعمل، ويعيش، على نحو طفيلي، على فوائد يجنيها من وضع أمواله في المصرف! في الحقيقة، إنه في مواجهة شيطنة المصارف، لا يمكننا إلاّ إلقاء اللوم على الضحية.

وما العنوان إلا جملة قالها أحد "السياسيين اللبنانيين"، وكررها بعده العشرات، من أجل تحميل الضحية تبعات الجريمة. وما هو أدهى أن أحد أركان المنظومة المالية (ووزير سابق) ثارت ثائرته على بدء اللبنانيين تداوُلَ العملات المشفَّرة، وقال إنه ليس مقبولاً أن يغتني أحد ما من دون أن يعمل، خلال أشهر فقط، بسبب شرائه عملة ما!! يا سلام! وكيف كان يعمل نظامكم في الأصل! في الحقيقة، إن ما أثار حفيظة هذا الطرف في المنظومة أن هؤلاء خرجوا فعلياً من اللعبة المالية التتي يتكسَّب منها هو.

الخلاصة أنه لا يمكن إلا شيطنة المصارف، عندما نعلم كيف تعمل، وكيف أنها، عبر أذرعها في السلطة، منعت قيام أي سياسة إنمائية وقطاعية، فقط من أجل جعل المجتمع في خدمة المصارف، وليس العكس، عملت على وَأْد أي سياسة زراعية وصناعية. وحتى إنها كانت ترفض منح القروض للقطاعات المنتجة، بذريعة أنها تحمل مخاطر مرتفعة، علماً بأن أي تنمية أو خطة اقتصادية غير ممكنة من دون الاستفادة من الخدمات المالية.

وما دامت المصارف كانت منكبة على منح القروض للراغبين في شراء سيارات والسفر من أجل السياحة وشراء أدوات منزلية وإقامة أعراس، فقط لأنهم يحصلون على "راتب شهري"، وترفض منح أي مزارع أو صناعي قرضاً من أجل تحديث معداته، بذريعة أن "المخاطر مرتفعة"، وأنه لا يمتلك دخلاً ثابتاً، فإن المنظومة هنا تلعب دور الشيطان، الذي يُغوي ويغري، ويحمّل في نهاية المطاف المسؤولية للضحية. وهي، للمفارقة، متيقنة من قدرتها على الإفلات من العقاب.

 

اخترنا لك