"القهوة هي خبزنا".. كيف تساقطت حبات البن وصنعت أسطورةً إثيوبية؟
في رحلة البحث عن أجود أنواع القهوة، وأفضل الطرق لتحضيرها على مستوى العالم، لا بدّ من البدء من مسقط رأسها في إثيوبيا، حيث يرتبط البن بتاريخ الإثيوبيين وعاداتهم وتقاليدهم.
في رحلة البحث عن أجود أنواع القهوة، وأفضل الطرق لتحضيرها على مستوى العالم، لا بدّ من البدء من مسقط رأسها في إثيوبيا، حيث تُعدّ القهوة أكثر من مشروبٍ يُعدّل المزاج ويجلب البهجة، بل أيضاً أسلوب حياةٍ وجزءاً من قلب كل عائلة.
ربّما ليس مستغرباً أن تكتسب القهوة أو "البُنا" في اللغة الأمهرية هذه المكانة لدى الإثيوبيين، لأنّها ترتبط بتاريخهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولأنها جزء لا يتجزأ من طقوسهم في حياتهم اليومية.
لكن الغريب في كل هذه الحكاية هو كيف اكتشف الإثيوبيون القهوة لأوّل مرة.
أسطورة كالدي
تقول الأسطورة الإثيوبية إنّ أوّل اكتشاف للقهوة كان عن طريق تذوّق ماعز التوت الأحمر في مقاطعة كافا، في القرن التاسع الميلادي، ليبدأوا بعدها في القفز بحماس.
وعندما لاحظ راعيهم كالدي عليهم ذلك، تذوّق القليل من التوت بنفسه، فشعر هو أيضاً بالبهجة والنشاط.
بعدها، حكى كالدي مع رهبان في دير محلي عن اكتشافه، وسرعان ما أدركوا أن تناول التوت يمكن أن يساعدهم على البقاء مستيقظين خلال ساعات الصلاة الطويلة.
كما اكتشفوا أن تحميص الحبوب ونقعها في الماء الساخن يساعد على الحفاظ على نكهتها القوية لفترة أطول.
ومن هنا كان أوّل ظهور للقهوة.
إنتاج البن.. أرقام ووقائع
بمرور الزمن، أصبحت القهوة المشروب المفضّل لدى الإثيوبيين، وامتزجت في حياتهم العملية والثقافية والاجتماعية والدينية.
وقد ساهم ذلك بشكل كبير في أن تشتهر هذه الدولة بأنّها أكبر منتج للبن في أفريقيا، وخامس أكبر منتج في العالم، إذ وصلت إلى وجود ما بين 6 إلى 10 آلاف نوع مختلف من القهوة في إثيوبيا.
تشير الأرقام في هذا السياق، إلى أنّ أكثر من 20 مليون إثيوبي يعملون في إنتاج البن، الذي يُعدّ رافداً أساسياً لاقتصاد البلاد، إذ يمثّل أكثر من 35% من إيرادات الدولة.
وإنّ نحو 400 ألف هكتار من مساحة إثيوبيا مزروعة بالبن، حيث تنتج الدولة ما يقرب من 200 ألف طن متري من القهوة كلّ عام.
ويجري إنتاج 95% من القهوة في منطقة الغابات، فيما يُصدّر جزء كبير من البن الإثيوبي في شكل حبوب البن الخضراء، إلى بقية العالم، ما يُعطي للقهوة الإثيوبية ميزةً في السوق الدولية.
تقع مناطق زراعة البن الأساسية في جنوبيّ البلاد بحيث يمكن تقسيم أنظمة الإنتاج إلى 3 فئات رئيسية:
1- مزارع البن التي تنمو في المزارع الكبيرة.
2- قهوة الحديقة، والتي تزرع على نطاق أصغر بكثير، مثل المنزل.
3- قهوة الغابات، والتي تنمو بكثرة في البرية، وخاصة في جنوب غربيّ إثيوبيا.
وينمو البن الإثيوبي بشكل رئيسي في مناطق هرر وسيدامو ويرغاتشيف وجيمبي وليمو وجيما. في منطقة هرر، تُنتج القهوة في الغالب باستخدام طريقة المعالجة المجففة بالشمس، ممّا يُعطي طعماً شبيهاً بالنبيذ مع نكهة خفيفة من التوت. أمّا سيدامو، فتشتهر بنكهة القهوة الحارة، الفاكهية والزهرية.
ويرغاتشيف هي إحدى مناطق سيدامو الفرعية الواقعة على حدود وادي جرين ريفت، وتشتهر بنكهة الحمضيات مع نكهة خفيفة من الشوكولاتة والفلفل الأسود والزهور مثل الياسمين.
علاوة على ذلك، في مناطق ليمو وجيما وجيمبي يتم استخدام طريقة المعالجة المغسولة، والتي تظهر طعماً حاداً للنكهة الحلوة والحارة.
طرق تحضير القهوة الإثيوبية
هناك طريقتان في إثيوبيا للمعالجة التقليدية لحبوب القهوة، ألا وهي التجفيف بالشمس والمعالجة بالغسل.
تُعدّ طريقة المعالجة المجففة بالشمس طبيعية أكثر، حيث تُجفّف فاكهة القهوة في الشمس، ثم تتمّ إزالة اللب لإعطائها نكهة فاكهية مميزة.
والطريقة الثانية تُعرف بالمعالجة المغسولة أو الرطبة، لأنّ ثمار الفاكهة تُزال بعد حصادها في اليوم نفسه، ويُترك اللب حول الحبة ثم تغسل، وبعد أن يتم غسل الحبة، تترك لتجف في الشمس.
باستخدام هاتين الطريقتين، نحصل على أنواع مختلفة من النكهات، حيث يمكن أن يكون لحبوب القهوة طعم فاكهي وثقيل مثل التوت الأزرق أو الفراولة، أو طعم الأزهار مثل الليمون أو الياسمين.
حفل "بُنا"
القهوة ليست محصولاً شائعاً في إثيوبيا فحسب، ولكنّها أيضاً جزء أساسي من ثقافتهم، لدرجة أنهم أنشأوا حدثاً يومياً يُعرف بحفل "بُنا" أو حفل القهوة الإثيوبية، الذي يُعدّ من أهم المناسبات الاجتماعية في العديد من القرى، وهو علامة على الصداقة القوية التي تجمع المدعوين إلى حضور حفل القهوة، حيث يناقشون موضوعات حياتية يومية أو سياسة أو دينية.
تُقام مراسم البونا تقليدياً من قبل أنثى من أفراد الأسرة حيث ترتدي المضيفة اللون الأبيض لأداء الحفل.
وبمجرد أن تصبح المضيفة جاهزة، تختار المنطقة التي يصل إليها الهواء بالقرب من باب أو نافذة، مما يسمح أيضاً بدخول الضوء الطبيعي.
وعند اختيار المكان، تنشر المضيفة مجموعة من القصب الأخضر الطازج من نبات البردى، والمعروفة باسم "القِتمة" على الأرض مثل الحصير، إذ يُعدّ العشب الأخضر علامة فأل حسن. وفي كثير من الأحيان، تُضاف الأزهار إلى "القِتمة"، لتعزيز جمالياتها ورائحتها.
وبعد ذلك، توضع حبوب البن على طبق من الفخار لتجف في الشمس، ثم تُغسل وتُحمص في آنية مسطحة من الحديد على النار باستخدام الحطب أو الفحم، ومن ثم تُمرّر الآنية الساخنة على الضيوف لاستنشاق رائحة البن الأخّاذة، بعدها تُطحن حبوب القهوة بمدق يدوي وتوضع في إبريق القهوة الإثيوبي التقليدي أو "الجيبينة".
ومن ثم تُقدّم القهوة مع السكر أو العسل أو الملح، وأحياناً الزبدة في بعض المناطق مثل كافا وسيدامو، ويُقدّم معها بعض الخبز والفشار والحلويات مصحوبةً بالبخور.
ويجري تقديم القهوة 3 مرات خلال الحفل.. المرة الأولى للمتعة، والثانية لإثارة التأمّل، والثالثة لمباركة من يشربها. وفي نهاية الحفل، ينهض الأكبر سناً في المجموعة ويبارك المضيفة وعائلتها، ثم يبارك باقي المشاركين ويدعو لهم.
القهوة إذاً بركة الإثيوبيين، كيف لا تكون القهوة كذلك؟ وهم الذين يعتبرونها بمثابة قوتهم اليومي قائلين إنّ "القهوة هي خبزنا".