"شوارع القدس العتيقة".. في غزَّة
يمنحك "العمّ أبو زهير" فرصة الشعور بأنك تسير في "شوارع القدس العتيقة". صاحب المخبوزات الغزاوية الشهيرة يجاور المسجد العمري في قلب البلدة القديمة في غزَّة. ما قصته؟
أخيراً، بات بمقدور أهل غزَّة السير بحرية في "شوارع القدس العتيقة"؛ والجلوس بجوار أسوارها العالية القديمة ذات اللون الطوبي. تظلّلهم مئذنة المسجد العمري الكبير وأجنحة الحمام التي تطير وتحطّ فوق قبابه، حيث لا تكفّ المآذن عن التسبيح وتلاوة القرآن، فتشعر وكأنك في بقعة مباركة.
هكذا تسير في شوارع ضيِّقة نسبياً، فتمرّ بالمحال التجاربة لبيع الأنتيكا والذهب والفضّة، والمفارش التراثية المطرَّزة. لن تشعر بنفسك إلا حين تُوقظك رائحة المخبوزات التي نضجت للتوّ، فتُعلن حواسك عن حاجتك للتوقّف وتذوّقها، تماماً كالسحر الذي يَمسّك حين تشاهد الكعك المقدسي الممتلئ وجهه بالسمسم.
هذه الفرصة يمنحك إياها إسماعيل قاسم أو "العمّ أبو زهير" - كما يُناديه الزبائن- من خلال طاولة خشبية تصطفّ ضمن رتل من الطاولات التي تجاور المسجد العمري في قلب البلدة القديمة في مدينة غزَّة، ومع ذلك فأنت لست بحاجة للاستفسار عن مكانه؛ يكفي أن تمرّ النار فوق الزيت والزعتر، حتى تلسعك الرائحة وتقودك إلى هناك، فتجد بانتظارك أقراص البيتزا ومناقيش الدقّة والبيض وأخرى باللحم، إضافة إلى الشاي الذي يقدّمه بأباريق تراثية عتيقة.
أما القهوة فتحصل عليها بالركوة النحاسية، لتسكبها بنفسك في فناجين صنعت من الفخّار. أشياء تشبه مقتنيات أجدادك، فتتعاظم لديك الذكريات وقد امتزجت برائحة الهِيْل!
بعد ترحيبه بنا، كما يفعل مع جميع زبائنه، حيث يعتبر أن سبب تردّد الناس عليه من جنوب غزَّة وشمالها، هو ابتسامته وحُسْن استقباله، يقول أبو زهير في حديث مع "الميادين الثقافية"، إنه يمنح الزوَّار حريّتهم في التنقّل والتقاط الصوَر، فيشعرون بالراحة والبساطة، وغالباً مَن يزورون المطعم لأول مرة، "يَعدونني بزيارة أخرى ويفعلون".
الطاولات ممتلئة عن آخرها منذ ساعات الصباح الأولى بانتظار الوجبة الشهيّة، والتي ستتفاجأ لاحقاً بأنها لن تُكلّفك الكثير!، فالقطعة الأعلى سعراً لا تتجاوز 2 شيكل(0,7 دولار).
يعود المطعم لوالد أبو زهير الذي أنشأه قبل 30 عاماً وكان يقتصر على تقديم المشروبات الساخنة، لكنه بات يصنع المخبوزات منذ 12 عاماً فقط. لم يكن المطعم معروفاً من قبل، حيث اقتصر على أهل السوق والمارّة، إلى أن قادت الصدفة أو الرائحة الشهيّة 3 شقيقات إليه، وهنَّ من الشخصيات اللواتي يحظين بمتابعة واسعة على السوشيال ميديا.
إقرأ أيضاً: الكرك: مشروب شرق أوسطي غني بالفوائد.. كيف نعدّه بدقائق؟
يقول: "كان انطباعهن عن الطعام جيّداً، واقترحن عليَّ أن أُنشىء حساباً على موقع "أنستغرام" كي أُعرِّف الناس بالمطعم". لم يكن أبو زهير متحمّساً للفكرة، فهو لم يسبق أن تعامل مع الأمر، لكنهن ساعدنه في إنشاء الحساب ونشرت كل واحدة منهن على حسابها صوَراً للمخبوزات والمكان الأثري الذي يعتزّ به الغزِّيون؛ فهو يجاور المسجد الأكبر والأقدم في مدينة غزَّة، حيث تبلغ مساحته 1800 متر مربّع، ولذلك سُمّي بــ "الكبير".
فقد شُيِّد المسجد العمري قبل أكثر من 3 آلاف سنة، وسمّي بالعمري نسبة إلى عمر بن الخطّاب. كان معبداً وثنياً حوّله البيزنطيون إلى كنيسة، ثم كاتدرائية في العصر الصليبي، وبعد الفتح الإسلامي حوَّله المسلمون إلى مسجد، دُمِّر أكثر من مرة حتى أعاد العثمانيون بناءه واستقرّ إلى مسجد للعبادة والصلاة، لكنه ظلّ محتفظاً بواجهته المقوَّسة والتي تُعدّ قطعة من العمارة الصليبية.
انتشرت صوَر المطعم على "أنستغرام"؛ وبدأت أقدام جديدة بالتوافد إليه. الجميع معجب بالمكان ومولَع بالتصوير. أحدهم علّق قائلاً: "حقاً لقد شعرتُ أنني في مدينة القدس"، ما دفع آخرين إلى أكثر من مجرّد الإعجاب بالصورة. فقد جاؤوا بالفعل إلى خوض هذه التجربة.
"الأجواء هنا تشبه أحياء القدس والكعك الذي يُقدّم فيها"، يقول أبو زهير فيما يتابع خلط الطحين بالماء والخميرة لتحضير العجينة، "لهذا المكان منزلة خاصة في قلبي، كبرت أنا وأخوتي هنا بجانب المسجد، وقد انضمّ أبنائي إلى العمل معي".
وعلى الرغم من أنه لم يحظ بزيارة القدس من قبل، إلا أن أبو زهير يعتقد واثقاً أن ثمّة تشابُهاً بين المكانين، وهذا ما يخبره به الزوّار.
الرجل الأربعيني يبقى مشغولاً جداً، وبالكاد تستطيع الوقوف والتحدّث معه، فالأولوية لديه لزبائنه، لكن إذا ما نفدت العجينة يهرول إلى الداخل لصنعها من جديد. تكاد تكون هذه الفرصة الوحيدة لمتابعة الحديث معه.
"بيني وبين العجينة علاقة صداقة طويلة، لا أسمح لأحد غيري أن يتولّى المهمة، إنها نعمة وخير يعمّ على أسرتنا"، وكما أفاد "أبو زهير" فإنه يبدأ بمصافحة العجينة قبل آذان الفجر، ويتوقّف عن العمل عند مغيب الشمس.
عند أبو زهير سيجذبك الطريق إلى الحافّة الجنوبية للمسجد، حيث ممر ضيّق طويل مسقوف بالقباب، كما يلفتك توهّج الأصفر على امتداد نظرك. إنه"سوق الذهب" أو "القيسارية"، الذي يعود بتاريخ بنائه إلى فترة حُكم المماليك، وهو مركز لشراء الذهب وصرف العملات الأجنبية، غالباً ما يكون زوّاره من الشباب والشابّات المخطوبين حديثاً، لشراء الذهب بحسب العادات والتقاليد.
عند نهاية القيسارية ستجد نساء كبيرات في السن،افترشن الأرض يبعن النعناع والكزبرة، زهور البابونج، الجزر الأسود، وجميع خيرات الأرض الطازجة. قسمات وجوههن تجعلك تتمنّى لو تجد متّسعاً من وقتك للاستماع إلى حكاياتهن، أو شرب المزيد من الشاي مع مجموعة من الرجال المسنّين، الذين يجلسون على حافّة مقهى قريب، يتسامرون ويسألون عن أسعار العملات، يمضون الوقت بانتظار موعد الصلاة.
أما أنت فتمضي باتجاه الغرب، حيث "سوق الزاوية" الواقع بين شارعي عمر المختار والوحدة.إنه سوق قديم أُنشىء في عصر المماليك أيضاً. كان يقصده التجّار من كل مكان قديماً، حتى أن التجّار الهنود أنشأوا فيه زاوية خاصة بهم للعبادة، فسمّي بـ "الزاوية" حتى يومنا هذا.
والسوق عبارة عن دكاكين تصطفّ إلى جانب بعضها البعض. كل دكّان يمدّ بضاعته إلى الطريق على شكل لسان تجد فيه التوابل والبهارات، والفواكه الطازجة والمجفَّفة، والدواجن، والمنسوجات، لكنه يختصّ أكثر بالعطارة والعطّارين من أصحاب الخبرة الذين تربّوا وكبروا في السوق.أصحاب الدكاكين أنفسهم يقولون إنه "يشبه أسواق مدينة القدس" التي كان يُسمَح لهم بزيارتها.
هذه اللوحة سبق وأن شاهدنا نسخة عنها في القدس، لكن عبر وسيط كالتلفاز والأنترنت. عرفناها في حكايا الأجداد حين كانوا يتنقّلون في البلاد من دون قيود! لذلك فإن زيارتها ولو رمزياً، يعني الكثير لأهالي قطاع غزَّة. ذلك أن الاحتلال يمنعهم من زيارة الضفّة الغربية ومدنها بما فيها العاصمة القدس، إلا بتصاريح تعطيها وفق قيود مشدَّدة.
"إسرائيل" لا تسمح إلا لفئة قليلة باجتياز معبر بيت حانون "إيريز" -معبر يقع أقصى شمال القطاع، ويصل بين غزَّة والضفّة وتسيطر عليه "إسرائيل"- حالات طبية، تجّار، طلاب حاصلون على منح تعليمية في العالم الخارجي ويتطلّب سفرهم المرور بمطار "بن غوريون"، وبالرغم من ذلك إلى أن عدداً قليلاً مَن تسمح لهم بالمرور؛ بذريعة أنهم "يشكّلون خطراً على أمنها".
بعد هذا القدر من التجوال في البلدة القديمة نعتقدُ أنك بحاجة إلى استراحة واستجمام، مازلت إذاً في سوق الزاوية، انعطف يساراً واقطع شارع عمر المختار.أُسلك شوارع الحارات الضيّقة، حيث يمكنك الاستعانة بالأطفال الذين يلاحقون الكرة طوال الوقت، حتى تصل إلى "حمّام السمرة" وهو الحمّام الوحيد المتبقي في المدينة. أنشأه العثمانيون ويعتبر مركزاً علاجياً، ينتقّل بك تدريجاً من الغرفة الساخنة إلى الغرفة الدافئة إلى الغرفة الباردة، وقد سُقِف بقبّة ذات فتحات مستديرة معشّقة بالزجاج الملوّن، يسمحُ لأشعة الشمس من النفاذ لإضاءة القاعة بضوء طبيعي يضفي على المكان جمالاً فوق الجمال، ويقدّم خدمات المسّاج والتدليك.
أما إذا توجّهت إلى الشمال من"المسجد العمري"فستشاهد مسجداً تاريخياً صغيراً يسمّى"كاتب ولاية"، أنشأه المماليك عام 1432م، على الجدار الشرقي للمسجد ترتفع المئذنة ويقابلها برج الجرس في كنيسة "القدّيس بورفيريوس" أقدم كنيسة في مدينة غزَّة، سُمّيت نسبة إلى القدّيس برفيريوس الذي دُفِن فيها.
توقّف عن التقدّم ودعنا نعود إلى الشرق من البلدة القديمة؛ حيث سيكون بانتظارك آخر القصور المتبقية في غزَّة.إنه "قصر الباشا" في حيّ الدرج، والذي يعود إنشاؤه إلى العصر المملوكي في زمن الظاهر بيبرس، ويُستَدلّ على ذلك بشعار الظاهر بيبرس -عبارة عن أسدين متقابلين- الموجود على مدخله الرئيسي. يكتسب القصر أهميّته من طابع العمارة الفريد الذي يحمله، حيث الحجارة التي بُنيَ بها والأقواس والعقود، الأقبية المتقاطعة وحديقة أنيقة تحوّطه، كان مقراً لنائب المدينة في العصرين المملوكي والعثماني. أقام فيه نابليون بونابرت، وحالياً هو عبارة عن متحف يضمّ مئات القطع الأثرية من زجاج وفخّار، أعمدة كورالثية، زينة نساء، وتعود القطع إلى عدد من العصور التي تعاقبت عليه.
أما خارج أسوار القصر، باتجاه الشرق، فيقع "سبيل الرفاعية" الذي تجري مياهه في غزَّة حتى الآن. أُنشىء في عهد العثمانيين على يد بهرام بيك بن مصطفى باشا، ويطلق عليه حاليًا إسم "سبيل الرفاعية" نسبة إلى رفعت بيك الجركسي، الذي قام بتجديده وترميمه.
الحياة في محيط القصر بسيطة وتنتمي إلى العامة، حيث المدارس التي تتوزّع بالقرب منه، تقابله مكتبتان لبيع الكتب، وعربة الترمس التي يُخيّل إليك أنها شاهدٌ بَقِي من أحد العصور الماضية. أما إذا دعاك فضولك إلى التوغّل في حارات البلدة القديمة فاتبعه وأشكره أيضاً، لأنك ستتفاجأ بطراز عمارة إسلامي عثماني فريد، حيث الممر المسقوف بين منزلين أو جدارين، وتعلوه غرفة واقعة بين بناءين، زجاج نافذتها ملوّن. عندها اعلم أنك قد وصلت إلى "سباط العَلَمي" - نسبة إلى أصحابه عائلة العَلَمي- آخر الأسبطة التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا، إضافة إلى "سباط كساب".
بيوت الحارات هناك صغيرة ومتجاورة، نوافذها مزيّنة بالأخضر، مُشرّعة في وجه الضوء والهواء، حين تَمُر تتزاحم على أنفك روائح الطعام، تحديداً قدحة الثوم الزكية. تمضي فتلفتُ انتباهك أبوابها. الأبواب وحدها كفيلة بأن تروي لك الحكاية. حتى تلك المُغلقة بالأقفال تروي قصة مَن رحلوا عن الحياة أو سافروا خارج البلاد ولم يتخلّوا عن ميراثهم في قلب البلدة القديمة في غزَّة.