ريلكه ورودان، ديلاكروا وبودلير: الفن أسلوباً للحياة والشعر
هل يجتمع الفنّ بالأدب دائماً؟ كيف تجلت الصداقة التي جمعت بودلير بديلاكروا وريلكه برودان؟
كانت علاقة الشاعر الألماني راينر ريلكه بالنحات الفرنسي أوغست رودان استثنائية في عالم الشعر والفن. فقد زار الشاعر الشاب ريلكه باريس عام 1902 وهو في السادسة والعشرين من عمره، بينما كان رودان في الواحدة والستين، وذلك ليقوم ببحث فني حول رودان وأعماله.
لكن ريلكه كان يبحث آنذاك عن معلم ونموذج ليصبح شاعراً بشكل أفضل. حوارات كثيرة وعميقة نمت بين الرسام والشاعر، ووطدت العلاقة بينهما لتصل إلى أسئلة عن الفن والحياة والعلاقة بينهما، وما يثير الفضول، تلك العلاقة بين الفن والشعر وما يتوصل إليه ريلكه في أن حياة الفنان وعلاقته بعمله وحياته واحدة لتصبح حياته مجرد لوحة تستحق التأمل.
بعد 10 أيام من وصوله إلى استديو رودان، كتب ريلكه رسالة مؤثرة يصف فيها لرودان مدى تأثير هذا الحوار عليه، ويقول له الحقيقة، إنه لم يأت لينجز دراسة عنه بل ليسأله كيف يجب أن يعيش؟
لم يعرف ما إذا كان رودان أجاب على رسالة ريلكه، لكنه وجّه له دعوة لقضاء 4 أشهر في الاستديو. خلال هذا الوقت اكتشف ريلكه كيف يصبح شاعراً أفضل، وتسربت تلك الأفكار والأسئلة التي تعلمها خلال إقامته مع رودان إلى قصائده ورسائله إلى الشاعر الشاب "كابوس"، فاتضح أنها تحمل هواجسه عن نفسه أيضاً.
في العام 1905 عمل ريلكه كمساعد وسكرتير في استديو رودان، لكن لم تستمر العلاقة الجميلة بينهما، فقد تدخل ريلكه وأرسل رسالة إلى أحد أصدقاء رودان، ما أثار غضب الفنان وساوره الشك، فترك ريلكه العمل، ولكنهما التقيا مجدداً عام 1908 حيث عاد الهدوء إلى علاقتهما.
شاهد ريلكه كيف ينحت رودان الأشكال بسهولة مثل طفل يصنع رجل الثلج بيديه. كان يعمل بسرعة وكأنه "يضغط الساعات إلى دقائق"، كما كتب ريلكه إلى زوجته كلارا في رسالة من باريس. أخبره مرة وهما يتمشيان: "عليك أن تعمل، ولهذا الشيء أفنيت شبابي، ولكنه لم يكن كافياً أن أعمل، (الكلمة التي يفضلها رودان على الفن، هي كلمة العمل) عليك أن تعيش عملك".أثناء هذا الحوار أهدى ريلكه هدية لمعلمه رودان وهي مجموعة من قصائده ليشعر أنها في حضرته.
كان واضحاً لريلكه مدى اهتمام رودان بالأيدي وتقديره لها فوق كل أجزاء الجسد. وصف ريلكه ذلك في قصائده وكانت الأيدي وكأنها امتدادات نحو العالم. فهم الشاعر الألماني أن رودان يحلم بيديه أكثر من رأسه وذكر ذلك في كتابه "الساعات" قائلاً: "لقد قرأت ذلك في كلمتك/وتعلمتها من تاريخ قاماتك الدافئة/وأيديك الواعية التي تتكور لتحيط بالأشياء التي ستأتي".
في رسائله إلى شاعر شاب كتب ريلكه لصديقه "كابوس" عن أصل العمل الفني أو الشعري قائلاً: "العمل الفني سيكون جيداً إذا كان نابعاً من الضرورة، لهذا السبب، النصيحة الوحيدة التي أنصحك بها هي أن تذهب إلى نفسك، وأن تفحص الأعماق التي تنبع منها حياتك. في ذلك الينبوع، ستجد الجواب على هذا السؤال ؛ هل عليّ أن أكتب؟ وأقبل الإجابة مهما تكن، من دون الحاجة في أن تشرحها". ويقول أيضاً لكابوس عن العزلة التي كانت هاجسه الدائم: "أحبب عزلتك، وتحمل الألم التي تسببه لك، واللحن الذي يخرج منها، فالأشخاص من حولك كما تخبرني هم بعيدون عنك، وهذا يشير إلى أن الفضاء حولك بدأ يتسع أكثر وأكثر".
أما علاقة الفنان الفرنسي أوجين ديلاكروا بالشاعر الفرنسي شارل بودلير فكانت ملتبسة نوعاً ما ومختلفة، لكنها كانت علاقة إبداعية لم يعرف القرن التاسع عشر لها مثيلاً بين نجمين ساطعين بتفرد عبقريتهما وأهميتهما في الحركة الفنية الفرنسية. فكلاهما أمضى حياته بحثاً عن حلول لمشاكل العصر الفنية وعن أرضية فنية ترسو عليها مبادئ العصر الجديد.
شعر بودلير منذ اللحظة الأولى لتعرفه على ديلاكروا في العام 1845 بتشابه أمزجتهما وبوحدة الفهم لقضايا الفن، وهدف الفن، وقد قربهما الإحساس بضرورة التحرر من قوالب الفكر الأكاديمي الرسمي.
يقول بودلير عن لقائه الأول بديلاكروا:"وجدت بيننا جوامع كثيرة وتقارباً في فهم العديد من المسائل الأساسية والبسيطة مثل مفهوم الطبيعة مثلاً".
لم يخل صالون نقدي لبودلير من منح المساحة الأكثر رحابة لشرح وتفسير إبداع ديلاكروا، فقد خصص في صالون عام 1846 جزءاً منفرداً له، بل جعله نموذجاً للإبداع الرومانسي والمقياس الذي يجب أن يقتدي به فنانو عصره.
كان بودلير ناقداً فنياً، فقد كرس دراسة مطولة في مجلة "أوبينيون ناسيونال" حول إبداع وحياة ديلاكروا.
وفي العام 1864 قرأ دراسة حول أفكار وحياة وإبداع ديلاكروا في بروكسل. هذا فضلاً عن القصائد التي استلهمها من أعمال وشخصية ديلاكروا فقد كتب حوالى 7 قصائد يقول فيها فن ديلاكروا شعراً.
وهكذا أصبحت العلاقة بين الفنان والشاعر دافعاً قوياً يحث بودلير على تطوير ملكته النقدية والشعرية، ودفعته إلى التفكير بسؤال؛ ماذا يعني أن تكون رومانسياً؟ لكن رغم التناغم الروحي بين شخصيتهما الفنية إلا أن العلاقة لم تكن منفتحة بينهما تماماً.
كان بودلير يعشق ديلاكروا لكنه كان منطوياً على ذاته، يحترم نفسه ويأبى أن يفرض صداقته على ديلاكروا الذي كان بارداً تجاهه. لم يكتب الأخير في مذكراته ويومياته إلا الجزء البسيط عن علاقته ببودلير، فضلاً عن تبادله 7 رسائل معه فقط. فهل كانت هذه العلاقة مثمرة لكل من العبقريين أم لبودلير فقط؟
في الحقيقة، كان بودلير مؤرخ ديلاكروا. فقد استطاع أن يقدم مفاهيمه الجمالية بشكل أعمق وأوضح مما قدمها الفنان نفسه في أعماله، وهذا جعل ديلاكروا يفكر أكثر في طريقته الفنية.
فضلاً عن ذلك فإن بودلير تجرأ أن يقف بوجه الرأي العام السائد في الأكاديمية الفنية التي رمت ديلاكروا بالحرم لخروجه عن المألوف في لوحات "دانتي" و"فيرجيل" و"مذبحة هيوس" و"موت سارد أنابال".
كان ديلاكروا بحاجة ماسة إلى الدفاع عن نفسه، وقد قدم له بودلير ذلك على طبق من ذهب، لأن الأول كان يعاني أيضاً من الكتابة رغم أنه كتب يومياته التي تعتبر من روائع الأدب العالمي.
ويطرح بعض المؤرخين والمهتمين بعلاقة بودلير وديلاكروا أسئلة كثيرة حول تلك العلاقة منها: هل أحس ديلاكروا أن بودلير يصيغ أفكاره الشخصية ويدفعها إلى القارئ باسمه ولذلك فترت علاقته به؟
هناك احتمالات كثيرة وغير واضحة لهذه التساؤلات منها أن يكون هناك اختلاف في نمط الشخصية بين الفنان والشاعر ما منع من إقامة صداقة حقيقية بينهما، أو أن فارق العمر واختلاف التجربة والمرحلة بين رؤية بودلير للفن جعلت ديلاكروا ينظر إلى صديقه من علو.
بكل الأحوال كان بودلير كما كان ريلكه يبحث عن نموذج، وكان ديلاكروا كرودان، لكن الفرق أن ريلكه تعلّم من رودان كيف يحيا كفنان، فيما علّم ديلاكروا بودلير كيف يكون الفنّ وجهة نظر جمالية للعالم.