"جوبا أفضل منهم جميعاً".. محمد شكري يبكي كلبه
على عكس أورويل وشوبنهاور ونيرودا وغيرهم من الأدباء، اختار محمد شكري أن يكون رفيقه من الكلاب الضّالة. فأي علاقة ربطته بكلبه "جوبا"؟ وماذا فعل حين مات؟
اشتهر عدد كبير من الأدباء والمفكّرين والفنانين في العالم باتخاذ الكلاب أصدقاء أوفياء لهم. فقد كانوا يشترونها بمئات الدولارات بل أحياناً يدفعون مقابلها الآلاف منها؛ وكانوا يعتنون بها عناية كبيرة، وينادونها بأسمائها اللطيفة التي اختاروها لها واثقين في حُبِّها وأمانتها وإخلاصها.
وعبّر هؤلاء عن ذلك في عدد من كتاباتهم مثل روايات "الرجل الذي كان يحب الكلاب" للكوبي ليوناردو بادورا، و"السيّدة صاحبة الكلب" للروسي أنطون تشيخوف، و"سنوات الكلاب" للألماني غونتر غراس وغيرها.
لقد وجد هؤلاء الكُتّاب الكلبَ صديقاً مثالياً وكأنه ما خُلق إلا ليكون صديقاً للإنسان، وأغراهم طبعه باتخاذه مادة أدبية بعد أن اتخذوه صاحباً.
قال الأديب والشاعر الفرنسي بول كلوديل: "ياله من مصير مُحزن أن يكون كلبٌ بلا صاحب!"، فيما قال فيكتور هوجو إن "الكلب فضيلة لم يستطع أن يصير رجلاً فصار كلباً".
أما الفيلسوف الألماني أرثر شوبنهاور فاعتبر أن: "الكلب شديد الذكاء، وصديق الإنسان الحقيقي والأشدّ إخلاصاَ"، وكان عندما يوبّخ كلبه يقول له "أيها الإنسان...!!"؛ لذلك حزن عدد من الكتاب على كلابهم بعد نفوقها، مثل عباس محمود العقاد الذي بكى كلبه (بيجو) بحرقة ورثاه في إحدى قصائده، بعد أن "أصبح شخصية من شخصيات البيت المعدودة"، وكذلك فعل عدد كبير من الكتاب مثل بابلو نيرودا وجورج أورويل ومارك توين وسارتر وغيرهم ممن اتخذوا الكلاب أصدقاء أوفياء لهم وتوطدت علاقاتهم بها.
أما الكاتب المغربي محمد شكري (1935 - 2003)، أديبُ الفقر والتشرد والبؤس والحرمان والتهميش، وصاحب رواية "الخبز الحافي" التي اكتسحت سوق الكتب العالمية محققة أرقاماً قياسية في عدد المبيعات بعد ترجمتها إلى 39 لغة، والتي تصوّر حال البؤس والتهميش التي عاشتها فئات عريضة من المنبوذين والفقراء والأشقياء المغاربة الذين عاشوا قبيل منتصف القرن الماضي، فلم يشترِ كلبه كباقي الأدباء والكتاب، وإنما عثر عليه ضالاً ومشرّداً في شاطئ مدينة طنجة (شمال المغرب)، وأحاط عنقه بحزام ليأتي به إلى شقته المتواضعة، ويعتني به مقتسماً معه طعامه وكلَّ ما يمتلك لعله يؤنسه في وحدته.
أطلق محمد شكري على صديقه الجديد إسم (جوبا) وهو إسم يعود في الأصل إلى أحد ملوك الأمازيغ في مملكة نوميديا في الجزائر الذي ولد حوالى 52 ق.م، وارتبط اسمه بازدهار العلوم والفنون الجميلة والعمران، ووصف عصره بالذهبي.
كان شكري كثير التعلق بكلبه، وكان أحياناً يحدّثه كما لو كان يتحدّث إلى أحد أصدقائه مثيراً معه مواضيع مختلفة، وقد ينهره إذا بدر منه تصرف مزعج؛ فقد ظهر في تسجيل تلفزيوني يلومه عندما كان يتربّص بطائر الكناري الخائف من وجه "جوبا" الذي كان يقترب منه شيئاً فشيئاً راغباً في التهامه: "ابتعدْ عنه! ماذا فعل لك؟ لماذا تضايقه؟ اتركْهُ وشأنه! اتركه وشأنه!..."، كان شكري يتلفظ بهذا الكلام محاولاً إبعاد الكلب عن القفص.
روت فتحية الخياطي، المدبرة المنزلية لشكري، أن الأخير كان يفضل كلبه "جوبا" على كثير من الناس فمرة رجع غاضباً إلى المنزل، بعد نقاش حاد مع أحد الأدباء، وشرع في الصراخ قائلاً: "إن جوبا هذا أفضلُ بكثير من ذاك الغبي الذي يظن نفسه فيلسوفاً؛ جوبا هذا أفضل منهم جميعاً... جميعاً...جميعاً". لكنه غضب غضباً شديداً من كلبه عندما اعترضه ليلاً بعض المتسكعين الذين اشتبك معهم بالأيدي فوجد نفسه وحيداً بينهم بعد أن تركه "جوبا" وهرب في الوقت الذي كان ينتظر تدخلاً منه.
في اليوم الموالي عاد "جوبا" لكن شكري نهره فذهب ولم يعد إلا بعد أشهر، وأخذ يخدش باب الشقة الخارجي بأظافره غير متوقف عن النباح فقام شكري تاركاً ما كان منشغلاً بكتابته ففتح الباب ليجد كلبه قد اصطحب كلبة معه، وأدخلهما معاً، ثم عاد إلى ما كان منشغلاً به، لكن "جوبا" لحق به إلى غرفته وأخذ يتمسح به إلى أن سامحه.
عندما مرض "جوبا" كان شكري يتحاشى النظر إليه، فقد تألم كثيراً لحاله التي كانت تتدهور يوماً عن يوم، وكان وَبَرُهُ يتساقط باستمرار. لقد شاخ "جوبا" وهو يواجه مصيره المحتوم ككل الكلاب التي لا يتجاوز عمرها 13 عاماً على الأكثر.
عندما مات "جوبا" كان محمد شكري في القاهرة، اتصلت به فتحية عبر الهاتف وأخبرته بذلك، فقال بعد صمت طويل وبصوت حزين إنه سيطلب من صديقه محمد البوكيلي (مدير إذاعة طنجة سابقاً) التكلف بدفن "جوبا".
بعد عودة شكري من القاهرة جلس القرفصاء صامتاً أمام بيت "جوبا" الخشبي، وكان أول ما قالَ لفتحية: "أين قبر جوبا؟" فدلته عليه وذهب إليه مسرعاً وجلس قربه طويلاً غير عابئ بمن حوله ممن كانوا ينظرون إليه، ولعلهم كانوا يستغربون حزنه وتأثره وبكاءه وشروده.
تقول فتحية الخياطي: "إن شكري كان يحب كل حيواناته (القطط والعصافير...) لكن ليس بنفس درجة حبه لجوبا، فقد بكى بكاء حاراً ليلة عودته من زيارة قبره، ولم يسبق لي أن رأيته بكى أحداً بتلك الحرقة التي جعلته يعتزل الناس لأيام يدخن السجائر ويشرب النبيذ بشراهة، لقد أحسست وكأن شكري توقف هو الآخر عن الحياة".
شكري الذي "عاش التشرّد وأكل من القمامة ورفض الكتابة عن الفراشات..." اختار أن يكون رفيقه من الكلاب الضالة التي قُدِّر لها أن تعيش دائمة الهروب من قهر الإنسان، ودائمة البحث عن قوتها في القمامة، لذلك تعمّد شكري اصطيادَ كلبه وتطويقَ عنقه بحزام وجرَّه إلى شقته ليبيّن له أن هناك صنفاً آخر من الناس الذين يشفقون على أمثاله ويطعمونهم رغم قلّة ذات اليد.