تأكل رسائل عشاقها..لو اندرياس سالومي: "ثاقبة كالعُقاب، جسورة كالأسد"
كانت تأكل رسائل عشاقها. رغب نيتشه في الزواج بها، عشقها ريلكه، وتراسلت مع فرويد بنِدّيّة.. من هي لو اندرياس سالومي؟
لو اندرياس سالومي [بطرسبرغ، 1861 – غوتنغن، 1937]: فيلسوفة ومحلّلة نفسانية وروائية ألمانية من أصول روسية. كانت ذات ذكاء وجمال مشِعَّين ومغناطسيّين: رغب نيتشه في الزواج بها، عشقها ريلكه، تراسلت مع فرويد بنِدّيّة؛ كانوا الثلاثي الأبرز ضمن مجموعة من المفكِّرين والشعراء العُشَّاق. كانت ملهِمتَهم جميعاً، بقوة شخصيتها وتكوينها المتين وقدراتها التحليلية في معارف شتى، ومع احتكاكها بالحركات الطليعية لبداية القرن الـ 20.
ولربما كانت رائدة نضال الحركات النسوية، ولكن من دون صَخَب ولا تحيز جَنْدَرِيّ. كانت كتاباتها من بين ما أحرقه النازيون عند تسلمهم زمام الحكم في ألمانيا. إن شئنا اختصار حياتها في عبارة، فلن نجد أبلغ من: الحُرِّيَّةِ الحُرَّة والتَّحرُّرِ من أَسْرِ كلِّ شيء. وهو ما تصرح به في مذكراتها: "ليس بوسعي مطابقة حياتي مع نماذج معينة، كما ليس بوسعي أن أُشَكِّل نموذجاً لأيّ كان؛ ولكن، من الأكيد أنني سأوجِّه حياتي وفق ما أنا عليه، وليكن ما سيكون".
دُو: تشريح الألم، مع نيتشه
تَعِبةً من متابعتها لدراستها بزيوريخ، تقوم برحلة إلى روما، حيث التقت الفيلسوف پول رِي Paul Rée، ثم صديقه فرايدريش نيتشه. لتنشأ بين هذه الترويكا المتفَلسِفة نقاشات فكرية ومراسلات تنمُّ عن زخم تكوين الثلاثة وسماتهم الشخصية الفريدة، في لقاء ثلاثي نَدُرَ أن يتكرّر.
وقد خَلَّد هذه العلاقة توثيق لها، يعود لسنة 1882، في فوتوغراف طريف، تَظهر فيه "لو" جالسة في عربة، يجرُّها الرجلان، وهي ممسِكةٌ بلِجامِهِما، ملوِّحةً بالسوط عندَ ظَهرَيْهِما.
رغب نيتشه في الزواج بها، عشقها ريلكه، تراسلتْ مع فرُويْد بِنِدِّيَّةٍ
ورغم أن "لو" رفضت عرضيهما معاً بالزواج منها، إلا أن التأثيرات المشتركة والمتبادلة في أعمالهم تبقى شاهداً على عمق العلاقة وعدم تأثرها بالأهواء الشخصية. فرائعة نيتشه "هكذا تكلم زرادشت"، مثلاً، تشمل مقاطع ملتهبة من تأثيرات سطوة شخص وشخصية "لُو" عليه.
وتبقى ذروة هذا الارتباط شبه المرضي من طرف نيتشه أن كتب لها في رسالة تعود لسنة 1882: "لُو، أيُّها القلبُ العزيز، أُحِسُّ فيكِ بكلِّ إقلاعاتِ الرُّوحِ الأسمى". كما أن شهادة تقييمه الإجمالي لها عبارة بليغة: "لُو؛ ثاقبةٌ كالعُقاب، جَسورةٌ كالأسد". سيطول احتضار نيتشه وفي قلبه الكثير من اللوعة على زواج لم يتمّ له مع "لو".
"سأوجِّه حياتي وفق ما أنا عليه، وليكن ما سيكون"
بعد تجربة الأواصر الفكرية القوية والرغبات المكبوحة مع نيتشه وَرِي، ستدخل "لُو"، روحاً وجسداً، في تجربة مع الشاعر النمساوي راينر ماريا ريلكه.
رِي: تذليل الألم، مع ريلكه
ستستثمر "لُو" في علاقتها بريلكه كل معرفتها الفنية والأدبية لتوجيهه وصقل مَلَكَاته الشعرية والنقدية، فهي من وجَّهَه إلى زيارة المدن الإيطالية الرئيسة، ليتعلم كيف يرى، بكل ما في الفعل والنشاط والكلمة من ظِلال الرؤية والرؤيا والنفاذ إلى عمق الأشياء، سواء كانت أعمالاً فنية أو نصوصاً أو عمراناً أو أمزِجة.
وستنتج عن هذا التحفيز واحدة من أجمل اليوميات في القرن العشرين، من ناحية صياغتها في نثر فني بديع، كما من ناحية مقاربتها الجمالية لهندسة، وتشكيل ونحت عصرَي النهضة الإيطالي والقرن الــ 18 الجرماني: "يوميات شاعر شاب"، التي يبقى أنضَجَ ما فيها القسم الخاص بمدينة فلورنسا. المدينة التي أكَّدَتْ "لُو" على الشاعر بحرثها بعينه الباطنية شبراً شبراً، بحثاً عن مواطن جمالها وتدريباً لحواسه على التقاط اللُّمَع الأولى لقصائده ونصوصه النثرية.
"لُو؛ ثاقبة كالعُقاب، جسورة كالأسد" (نيتشه)
ولكن الأثر الأعمق لهذا التأثير والتأثر يبقى المراسلات المتبادلة بينهما. ويمكن إجمالها - علماً أن راينر وَلُو أحرقا، بالتوافق، مجموعة من رسائلهما —إحصائياً في: 134 رسالة أَطْوَل، من ريلكه، من دون احتساب القصائد الغزلية: هو حديث اللوعة المتواصلة المِهْذَارة؛ 65 رسالة، أَقْصَر، من لُو، فحسب، هي آهات الرغبة المتقطعة؛ فَالحُبُّ أن تُضَاعِفَ عِباراتِك/ عَبَراتِك/ عَبَّاراتِك.
تكتب "لُو"، تعبيراً عن قوة هذا الارتباط، في إحدى رسائلها إلى ريلكه: "إنْ كنتُ، خلالَ سنواتٍ، امرأتَكَ، فلأنكَ كنتَ، بالنسبة إليَّ، أَوَّلَ واقِعٍ محسوسٍ، أوَّلَ كائنٍ بشريٍّ لم يكن لديه فصلٌ بين الجسدِ والشَّخصِ، ببداهةٍ كالحياةِ. لا يتعلَّقُ الأمرُ هنا بنصفَيْنِ كانا يبحثانِ فينا عن بعضِهِما: تَعَرَّفَ الكُلُّ المفاجَأُ عن نفسه في رعشةٍ اتَّسَمَتْ بِكُلِّيَّةٍ عجيبةٍ".
تواشُج ستنشأ عنه، وتحتَ توجيهات "لُو" كقارئة نبيهة، إحدى أجمل مطولات الشعر الغربي: "مَرَاثِي دْوِينُو".
كمحللة نفسية، ستنصح "لُو" ريلكه، خلال موجات اكتئابه، بعدم عرض نفسه على طبيب نفساني، وإنما بالبحث عن الشفاء بما يكتبه كانشغالات فكرية وجمالية، فاتحة بذلك الباب لإحدى أهم نظريات الاستشفاء التحليلنفساني بالفن [موسيقى، كتابة، رقص..]. وكتعبير شعري، تبقى هذه الغزليَّة - الرِّسالة غير المؤرخة من ريلكه إلى "لُو من أجمل البراهين وأبلغها على ما كان يجمعهما من حُبّ:
أَطْفِئِي عَيْنَيَّ: سَأًرَاكِ ثَانِيَّةً
صُمٍّي أُدُنَيَّ: سَأَسْمَعُكِ ثَانِيَةً
بِدُونِ قَدَمَيْنِ، سَأَسْعَى مَاشِيًا نَحْوَكِ
بِدُونِ فَمٍ، سَأَذْكُرُكِ ثَانِيَّةً
اِقْطَعِي ذِرَاعَيَّ: سَأَضُمُّكِ
بِقَلْبِي كَمَا بِيَدَيَّ
اِنْتَزِعِي قَلْبِي وَلَسَوْفَ يَخْفِقُ دِمَاغِي
وَحَتَّى إِنْ، أَيْضًا، أَضْرَمْتِ النَّارَ فِي قَلْبٍي
سَأَجْعَلُ لَكِ مُقَامًا فِي دَمِي
لم يكن الشعر والشعراء فحسب ما يستهوي لو آندرياس سالومي، وإنما أيضاً ما سيصير تخصّصها ومهنتها الرئيسين: التحليل النفسي. وككل نفس طموحة إلى الأرْفَعِ، راسلتْ، في البداية، أب التحليل النفسي، النمساوي سيغموند فرويد، قصد الانضمام لحلقات دروسه.
مِي: تفسير الألم، مع فرويد
ستصير "لُو"، سريعاً، ولألمعيتِها، تلميذة نجيبة لفرويد، إن لم تكن الأنجَبَ، ثم صديقة له، إذ سماها بحنوٍّ: "الفَهيمةَ" ولَقَّبَهَا بِـ "شاعرةِ التحليل النفسي".
كتبت في يومياتها سنة 1926، كما لو أنها كانت عارفة منذ البداية بمصائرِها الفكرية: "إنْ نظرتُ إلى الوراءِ، ينتابني الإحساسُ أنَّ حياتي كانت بانتظارِ التحليل النفسي منذُ غادرتُ طفولَتي".
سترشده بدراساتها، على قلّتها، إلى بعض بواطن جنسانيّة النساء، فاتحة له آفاقاً خصبة لدراسة حالات عيادية [إكلينيكية] لنساء شهيرات باضطراباتهن النفسية؛ ولكن تأثيرها الْأَرْأَس على رائد التحليل النفسي يتبدّى أوضح في دراسة الشعور الديني وتعقيده الغرائزي من خلال كتابه "موسى الإنسان ودين التّوحيد".
ستتوطّد التلمذة والتأثير في شكل مراسلات منتظمة، بين 1912 و1936، أكبر عربون فيها على ثقة فرويد بـــ "لو"، وتَيَقُّنِه من قدراتها كمحللة نفسية، أن دفعها إلى الأخذ بيد ابنته "آنَّا" في اكتشاف ذاتها وبواطن أنوثتها، رغم ما بين الاثنين من اختلاف في تناول الظواهر والحالات النفسية.
سماها فرويد بحنوٍّ: "الفَهيمةَ" ولقّبها بـــ "شاعرة التحليل النفسي"
سنتان قبل وفاتها، تكتب "لو" إلى فرويد، عرفاناً منها بأثَره على مهنتها وملكاتها كطبيبة نفسانية، رسالة مؤرخة في أيار/مايو 1935: "آهِ لو يتيسَّرُ لي أن أرى وجهاً لوجه، ولو لعشر دقائقَ فقط، أن أرى وجه هذا الأب الذي هيمَنَ على حياتي".
وقبلئذ، في تموز/يوليو 1931، يكتب لها فرويد، بنزاهته الفكرية المعهودة، مُطْرِياً على واحد من أواخرِ كتبها: "رسالةٌ مفتوحةٌ إلى فرويد"، يقول: "إنَّه من أجمل النصوص التي قرأتُها لكِ: أنتِ، هنا، تقدِّمين شهادةً عفويةً حول تفوُّقِكِ علينا، تفوُّقٍ يتطابقُ مع الذُّرى التي نزلت منها نحونا".
فَا. نَشَازٌ موسيقي: كانت تمضغ رسائل عشاقها بعد قراءتها
يمكن اختزال كلّ كاتب في سمة أو تفصيلة من حياته الشخصية، تفصيلة كثيراً ما تطفو على سطح كتاباته ومن بواطن لاوعيه.
في تعريفه للتَّفْصِيلَاتِ السِّيْرِيَّة [biographèmes]، يقول رولان بارت، في كتابه "سَادْ، فُورْيِي، لُويُولَا":"لَوْ كُنْتُ كَاتِبًا وَمَيِّتًا، كَمْ سَأُحِبُّ أَنْ تُخْتَزَلَ حَيَاتِي، بِعِنَايَةِ كَاتِبِ سِيرَةٍ وَدُودٍ وَمَرِحٍ، فِي بِضْعِ أَذْوَاقٍ، بِضْعِ نُزُوعَاتٍ، لِنَقُلْ بِضْعِ "تَّفْصِيلَاتٍ سِيْرِيَّةٍ"، وَالَّتِي سَيَكُونُ لِفَرَادَتِهَا وَحَرَكِيَّتِهَا أَنْ تُسَافِرَ خَارِجَ كُلِّ قَدَرٍ وَأَنْ تَأْتِيَ لِتُلَامِسَ، عَلَى طَرِيقَةِ ذَرَّاتِ أَبِيقُورْ، جَسَدًا مُسْتَقْبَلِيًّا مَا، مَنْذُورًا لِنَفْسِ الْبَعْثَرَةِ؛ حَيَاةٌ مَثْقُوبَةٌ، فِي مُجْمَلِهَا، مِثْلَمَا أَدْرَكَ پْرُوسْتْ كَيْفَ يَكْتُبُ حَيَاتَهُ فِي مُؤَلَّفَاتِهِ".
سيرًا على منوال هذا التحليل، تورد كُتُبُ سيرة لُو تفصيلا طريفا مَيَّزَ حياتَها الحميمية، وصاحَبَها مع كُلِّ عُشَّاقِها تقريبا: مضغُها لرسائلِهِمْ إليها بعد أنْ تفرغَ من قراءتها.
ستنصح لُو ريلكه، خلال موجات اكتئابه، بعدم عرض نفسه على طبيب نفساني، وإنما بالبحث عن الشفاء بما يكتبه
يصفُ ميشيل مِيٍّرْ، كاتبُ سيرتِها، تحت عنوان ”لو آندرياس ڨون سالومي، المرأة الأوقيانوس“، هذا المشهد الغريب والمتكرر، كما يلي: "وجدت في حقيبتها اليدوية رسالة كان قد كتبها إليها حديثاً. ولإطفاء الرغبة التي تملكَتْها ساعتئذ، أَكَلَتْ، بكل ما في الكلمة من حَرفية، الرسالةَ. بالنسبة لها، لم تكن ثمة أية إثارة في فعل كهذا. أكل رسالة عشيق أكثر ما في العالم فطرة".
قد يبدو هذا التفصيل غريباً، خارج السياق، ولكنّ حمولته بليغة: نحن هنا أمام امرأة كانت تجلس ساعات طِوال إلى مكتبها لتدبيج رسائلَ يتواشَج فيها الوجداني والفكري، الشخصي والمهني، الحميمي والعام، الموضوعي والذاتي. امرأة كان التراسل في حياتها نشاطاً جوهرياً، في ثنائيات لا يستطيع جمعها، في جدل خلَّاق، إلا شخصية استثنائية كَلُو آندرياس سالومي، امرأة لن تتكرر، عاشت حياتها بين عاشق وحزمة ورق بَثَّتْ فيه مشاعرَها وتَفَكُّراتِها.
المصادر والمراجع
Andréas Salomé [Lou] et Rilke, Correspondance, Gallimard, 1985.
Barthes [Roland]: Sade, Fourier, Loyola, Seuil, 1971.
Meyer [Michel]: Lou Andreas von Salomé, la femme océan, Les éditions du rocher, 2010.
ملحوظة: كل النصوص من ترجمتنا. [رشيد وحتي]