التكية المولوية.. حلم ينتظر إنجاز الترميم
اتّبع الصوفيون المولويون أثناء بناء التكية فلسفة ومبادئ مستمدة من القرآن الكريم في وصفه الجنة. تعالوا نتعرف إلى التكية المولوية في طرابلس اللبنانية.
عند الطرف الشمالي لمدينة طرابلس المملوكية، اختار الصوفيون المولويون مقرّاً لتكيّتهم. ذلك أن مختلف منشآت الحقبة العثمانية في طرابلس تقع عند أطراف المدينة المملوكية المتراصّة البنيان، والتي لم تبق فيها زاوية أو فسحة لبناء آخر.
تشتهر التكيّة التي تُعرَف بـــ "المولوية"، وتتميّز عن سواها من تكايا، بالدور المتعدّد الأبعاد، الديني والاجتماعي الذي لعبته، مثلما شكّلت محطة استراحة للوافدين إلى المدينة، أو لعابريها نظراً لما تتمتّع به من إنشاءات مريحة في موقعها على السفح الشرقي لتل أبي سمراء، الذي يبعد زهاء 200 متر عن قلعة المدينة، ويطلّ على مدخل نهر قاديشا الهابط من المرتفعات الشمالية، والمكتسب إسم نهر "أبو علي" في الجزء الطرابلسي، والأخير منه.
تتّصف التكيّة بمناخ معتدل، فشتاء تتخفّى خلف التلّة تحميها من العواصف، وصيفاً تتّسم ببرودة ورطوبة محبّبة وافدة عبر وادي مجرى النهر، تزيد سماكة جدرانها المطلية بالطين، وسقفها الترابي المدعّم بالقناطر، من حمايتها، صيفاً وشتاء.
اتّبع الصوفيون المولويون في تشكيلاتهم العمرانية الخاصة بطرقهم "فلسفةً ومبادئ تتّخذ من القرآن الكريم وصفه للجنّة، في تنظيم حدائقها الشهيرة، فازدانت بالورود، والزهور، والأشجار، وبرك الماء"، بحسب وصف رئيس لجنة التراث والآثار في بلدية طرابلس الدكتور خالد تدمري لــ "الميادين الثقافية".
المولوية
بنى "المولوية" مندوب السلطنة العثمانية صامصونجي علي عام 1619، وبدأت نشاطها في مدينة قونية التركية، ثم ما لبثت أن انتشرت في سائر أنحاء الامبراطورية، بحسب المؤرّخ الدكتور عمر تدمري، الذي أضاف إن "المولوية أدارت شؤونها الإدارية والاقتصادية عن طريق تكاياها، ولا سيما في طرابلس إذ رأت في أهاليها المتديّنين ميداناً مناسباً لنشاطها الثقافي والديني وحتى السياسي".
التكيّة بناء من ثلاث طبقات، ويصفه المؤرّخ تدمري بأنه "مجمع متكامل يضمّ قاعة للتعليم والتدريب ومسجداً وقاعة اجتماعات كان يلتقي فيها أعيان المدينة ورجالاتها، وقاعات لاستقبال الضيوف وإقاماتهم، وقاعة مخصّصة للحلقات المولوية والفتلة، وغرفاً لشيخ المولوية، ومساكن للدراويش المقيمين فيها (المحبان)، أو القاصدين لها (الأخوان)، ومطعماً للزوّار والفقراء، ومطبخاً، وحوض ماء للوضوء، وحديقة، وشرفة مطلّة على نهر أبو علي والقلعة".
وبحسب المؤرّخ تدمري، تعتبر التكية في طرابلس "أعظم التكايا المولوية السبع الموجودة حالياً في تركيا، والقاهرة، والقدس، ودمشق، وحلب، وقبرص، والبوسنة".
تعرَّض محيط التكية للدمار بعد فيضان نهر أبو علي الشهير عام 1955، ولحقها ضرر أكبر خلال ثمانينيات القرن الماضي من سنوات الحرب الأهلية حيث احتلّها مهجّرون، وتجار الآثار الذين عاثوا فيها تشويهاً، وسرقة لعقودها، ونقوشها، وحجارتها.
الرقصة المولوية
الرقصة المولوية التي تُعرَف بالفتلة سحر يبثّه الصوفيون في حركة دوران تشبه الطيران، على نغم إنشاد ديني، مصحوب بقرع دفّ ومزهر ورقّ، ويضع "الدرويش" على رأسه طربوشاً طويلاً من اللبّاد يسمّى"الكولاه"، ويلبس ثوباً فضفاضاً من أعلاه حتى أخمصيه، ويبدأ أداؤه ثابتاً في موقعه، على رجل ترتفع وتحطّ، بينما الأخرى تدور كمحور، ويبدأ الثوب بالانفلاش من منتصفه كدوائر سحر لا تتوقّف.
ويظلّ الدرويش يفتل، رأسه منحنٍ، وعيناه زائغتان، ويداه ممدودتان نحو السماء ساعياً للانخطاف، والتقرّب من ربّه، ترافقه الموسيقى، وكلمات التسبيح، والمناجاة إلى أن تنتهي الفتلة.
طوّر الصوفيون المولويون الفتلة، وأعطوها بُعداً فلسفياً مرتبطاً بحركة الشمس والكواكب، وفيها يقف الشيخ في الوسط، والمريدون يفتلون حوله فيبدو المشهد كشمس تدور الكواكب حولها، ويتمّ ذِكر الله 360مرة خلال الفتلة.
ظلّت المولوية في طرابلس تقوم بدورها الديني، والاجتماعي حتى أوائل الستينيات، يوم رحل آخر مشايخها أنور المولوي عام 1963.
رحّالة ومستشرقون
نظراً إلى سحر أدائها وجمالها وللدور الاجتماعي والثقافي الذي أدّته التكيّة، ذاع صيتها فقصدها الرحّالة والمستشرقون، ويعتبر إبن أبي الصفاء المعروف بـــ "إبن محاسن الدمشقي" أول مَن زارها ووثّقها في رحلته إلى طرابلس سنة 1048 هجرية، الموافق 1639، كما زارها الشيخ عبد الغني النابلسي أكثر من مرة، واصفاً الموقع "جنّة للأبصار ونزهة للنظّار".
في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، زارها البريطاني جون كارن، وقال:"أما مشهد الدرويشة على ضفّة قاديشا بين شجر الزيتون، والليمون الحامض، فحقاً ساحر".
وصيف العام 1919 قام المستشرق الهولندي فدي يونغ بزيارتها في إطار تخصّصه في دراسة طريقة الدراويش المولوية، وأبحاثه عن مراكز هذه الطريقة.
إشكالية إحياء وترميم
تبنّت "وكالة التعاون والتنسيق التركية" (تيكا) إعادة تأهيل المولوية بعد الإهمال والأضرار التي لحقتها، وفق مشروع متكامل، وضعت شروطه مراعاة للحفاظ على طابع التكيّة، والدور الذي قامت به، بالتعاون مع رئيس لجنة التراث والآثار في بلدية طرابلس خالد تدمري، الذي أوضح في حديث مع "الميادين الثقافية" أنه "جرى ترميم المبنى من الداخل والخارج، وكان الأتراك ينوون تحويله متحفاً مرفقاً بحديقة على الطراز المولوي الصوفي، تزدان بالزهور، والشجر، وبرك المياه، ثم توقّف العمل في تجهيزه بانتظار إنجاز الحديقة المحيطة به".
تدمري أفاد أن مجلس الإنماء والإعمار حصل على قرض من "البنك الدولي" لإنجاز الحديقة، لكن التنفيذ لم يراعِ مفهوم التكية، وما جرى تنفيذه عبارة عن كتل باطونية، ومدرج يطلّ على النهر، وبذلك حُرِمَ الموقع من مسرح دائري كان معدّاً في المشروع، ومدرج تقام عليه الأنشطة المولوية، وأخرى ثقافية متنوّعة، تعرِّف بالطرق الصوفية، وتستضيف فرقها".
ويبدو أن "توقّف العمل، والحفريات، والغبار، والصرف الصحّي التي أنشئت، وانفجرت عدّة مرات، أثّرت على التكيّة من جديد، وباتت بحاجة لإعادة ترميم"، بحسب تدمري، الذي تساءل عن الشجر في الحديقة، بينما الشجر الكثيف خلف التكيّة هو بري، وإذا خفيت التكيّة من المشهد العام، فماذا سنرى سوى كتل باطون وسلالم لا تصل إلى مكان".
وأعلن تدمري أن "البلدية رفضت تسلّم الحديقة لعدم مراعاة أعمالها المواصفات المطلوبة، بينما تنتظر "تيكا" حل الإشكاليات لإنجاز ترميم التكيّة، وصيانة المبنى، وتجديد المتحف وفق الشروط المدرجة في المشروع".