لغز دائم ... الموت كموضوع للتأمل
الموت لغز نفكّر حوله لا فيه، وهو موضوع دائم للتأمل، كيف؟
يعرف الإنسان الموت من خلال موت الآخرين، ولكنه لا يستطيع سوى التفكير حوله لا فيه. إنه يقارب الموت من خارج وعلى بُعد مسافة، ليس لضمان موضوعية تناوله، ولكن لكون تجربة الموت مستحيلة، كما قال الفيلسوف الألماني كانط. ومع ذلك، فإن الإنسان لا يتوقّف عن التفكير في الموت، وإن توقّف، فذلك معناه أن الحياة زالت عنه.
ورغم أن الموت ظاهرة طبيعية وكونية، إلا أنه يشكّل لغزاً و"فضيحة مطلقة" تضغط على الوعي البشري وتجعل الإنسان قلقاً ومنشغلاً به على الدوام. هذا ما يفسّر حضور الموت في أغلب الإنتاجات الثقافية، أكانت تأمّلات ميتافيزيقية وأخلاقية، أو كتابات تخييلية.
يمكن النصان التاليان- الأول لفيلسوف والثاني لأديب - من تمثّل الموت كموضوع للتأمّل الفلسفي وللكتابة الإبداعية.
الفيلسوف ألان: الموت تهديد مجرد
يعتبر موت رجل دولة مناسبة للتأمّل؛ وآنذاك يكثر فقهاء المناسبات. يعود كل واحد إلى حياته الماضية وإلى الوضع المشترك، لكن هذا التفكير عينه عديم الموضوع. لا يمكننا التفكير في ذواتنا بذواتنا إلا ونحن أحياء. من هنا فراغ الصبر. أمام هذا التهديد المجرد والمنعدم الشكل، لا نعرف ماذا عسانا نفعل. كان ديكارت يقول إن الحيرة هي المرض الأكبر. حسناً، ها نحن وسط الحيرة، ومن دون أي علاج.
إن أولئك الذين سينتحرون شنقاً، هم في وضع أحسن منا؛ إنهم يختارون المسمار والحبل؛ كل شيء يخضع لقرارهم، بما في ذلك القفزة الأخيرة. ولما كان المصاب بداء النقرس يهتم بالوضع الجيد لرجله، فإن كل حال، مهما كانت سيّئة، تريد بعض العناية الحقيقية وبعض المحاولة. لكن حال الإنسان السليم الذي يفكر في الموت هي حال مثيرة للسخرية، بهذا الخطر غير المحدّد. هذا التهيّج القصير، وغير الخاضع لأية قاعدة، والذي سيصير قريباً من دون اعتدال، هو الهوى العاري تماماً. إن لعبة الورق، في غياب شيء آخر، تَعرضُ لحُسن الحظ على المفكّر النشيط بعض المشاكل المحدّدة جيداً، وبعض المنافع والآجال القريبة.
الإنسان شجاع؛ ليس في هذه المناسبة أو تلك، بل هو شجاع في جوهره. أن تفعل يعني أن تكون جريئاً. أن تفكّر يعني أن تتجرّأ. المخاطر موجودة في كل مكان؛ وذلك لا يخيف الإنسان أبداً. إنكم ترونه يسعى إلى الموت ويتحداها؛ لكنه لا يعرف انتظارها. جميع مَن هم في وضع متفرغ، هم محاربون كفاية بفراغ الصبر. وهم ليسوا كذلك لكونهم يريدون الموت، بل لكونهم يريدون الحياة.
والسبب الحقيقي للحروب هو بالتأكيد ملل عدد قليل من الأفراد، يريدون مخاطر واضحة جداً، بل ومطلوبة ومحدّدة، كما هو الأمر في لعبة الورق. وليس بمحض الصدفة بتاتاً أن الذين يشتغلون بأيديهم هم مسالمون؛ كما أنهم منتصرون لحظة بعد أخرى. إن ديمومتهم الخاصة ممتلئة وإيجابية. إنهم لا يكفّون عن هزم الموت، وتلك هي الطريقة الوحيدة للتفكير فيه. ليس ما يشغل الجندي هو هذا الوضع المجرد الكامن في كونه عرضة للموت، بل الخطر المحدق ثم الخطر المحدق التالي.
من الممكن ربما أن تكون الحرب هي العلاج الوحيد للتيولوجيا الجدلية. دائماً ما ينجح جميع آكلي الظلال في إيصالنا إلى الحرب، لأنه لا وجود في العالم بأسره، لعلاج من الخوف سوى الخطر الواقعي.
أنظروا كيف يشفى المريض سريعاً بالمرض من خوفه من المرض. إن عدوّنا الدائم هو المتخيّل، لأننا لا نجد فيه شيئاً يمكننا أخذه. ما العمل ضد افتراضات؟
قد يحدث أن يجد إنسان ما نفسه مفلساً؛ مباشرة بعد ذلك، تتبادر إلى ذهنه أشياء كثيرة وملحّة؛ وبهذا الشكل يستعيد حياته بأكملها. لكن ماذا بمقدور إنسان، يهاب الإفلاس والبؤس، فقط بسبب تخيّله لقيام ثورة، وتقلّبات صرف العملة، وتدهور ورقه، أن يفعل؟ ماذا باستطاعته أن يريد؟ مهما كانت الفكرة التي ستخطر بباله، فإنها ستنكر فوراً من طرف فكرة مضادّة، وذلك لأن الممكنات لا حدود لها.
هكذا تتجدّد نشأة الأمراض على الدوام، من دون أدنى تقدّم. جميع هذه الأفعال هي بدايات تتقاطع وتنعقد. أظن أنه لا وجود لشيء آخر في الخوف، غير اهتياج من دون نتيجة، وأن التأمّل يرفع دوماً درجة الخوف.
البشر يخشون الموت بمجرّد التفكير فيه؛ ذلك اعتقادي؛ لكن ألا يهابون أشياء أخرى، بمجرّد التفكير من دون فعل؟ ألا يهابون أشياء أخرى، بمجرّد أن يتيه فكرهم في الممكنات البسيطة؟ قد يصاب المرء بمغص كلوي، لمجرّد التفكير في فحص طبي ما. ألن يظن أن قطعة حديد تهدّده، جراء الإحساس بحركة الأحشاء المذكورة؟ لا، بالعكس. إنها الحيرة، نتيجة غياب الموضوع، هي ما يوقد النار في بطنهم[1].
[1] من كتاب: Alain, Propos sur le bonheur. Gallimard (NRF), Coll. Idées, 1971, pp. 43 à 45.
جوليان غرين: يخاف الإنسان من شيء ما لا أعرفه
14 حزيران/يونيو 1959
"تُحضر نهاية الحياة معها قنديلها" هذا ما قاله جوبير ، بحسب اعتقادي. حدّثني البعض عن سيّدة متقدّمة في السن ترفض التنقّل، حتى في فصل الصيف، في أثناء العطل. ثمة موقفان أمام الموت: الحركة باستمرار لكي لا يمسك بك، أو البقاء في حالة سكون لكي لا يتغيّر أي شيء، ولكي يبقى كل شيء في مكانه، وهكذا ينساك الموت. (ص 122).
20 حزيران/يونيو 1959
حداد، بالأبيض أو بالأسود، تبعاً للأزمنة والمناطق، لكن ارتداء الإنسان للأسود أو للأبيض، ليس إلا للاختباء، لكي لا يراه الموت. (ص 124).
27 تموز/يوليو 1959
إذا ما انتزعنا من العالم معناه الديني، ما الذي سيبقى؟ إن الإنسان الذي نحرمه من الإله، يجد نفسه أمام لغز الموت المُرعب وأمام لغز الوجود المُرعب بالقدر ذاته. مباشرة، يصبح كل شيء عبثياً. إن العلم لا يفسّر أشياء كثيرة، وهو يحاول الذهاب من المفعول إلى السبب، بينما الأسباب الرئيسة للكل ستتراجع دائماً إلى لغز يستحيل النفاذ إليه. قرأت منذ مدة قصيرة هذه الجملة في مقال ضد الحكم بالإعدام: "لا ينبغي الحُكم بالموت على أي شخص، لأننا لا نعرف ما الموت". (ص 138).
24 تموز/يوليو 1960
أرق شديد هذه الليلة. بدأت أعاني منه حوالى 1947، وكان ذلك قد بدأ بكيفية غريبة جداً. كان نومي عميقاً، وكنت بالفعل أقوم بمجهودات عنيفة للاستيقاظ، مجهودات شبيهة بتلك التي يقوم بها رجل قد يكون في قعر نهر ويضرب الأرض برجليه ليصعد إلى سطح الماء، وفي الأخير استيقظُ.
النتيجة الجميلة !أتساءل عما إذا لم يكن أحد أسباب الأرق، هو الخوف المفرط من الموت، الذي يحصل لنا حينما تكون فترة الشباب قد غادرتنا، ذلك أن الشبان لا يؤمنون بالموت. عندما يكون الإنسان في الأربعين أو الخمسين من عمره، فإنه يرتاب من النوم الذي هو إعدام للإرادة وللوعي. تنتصر الأقراص المنومة على هذا الخوف وتجعلنا ننزلق في هاوية ملغزة، لا نعرف عنها أي شيء تقريباً. كل ذلك ليس متناقضاً مع الرغبة الهائجة التي تنتاب الشخص الأرق. وبالمثل، إننا نريد الموت وفي الآن ذاته لا نريده. (ص 213).
8 شباط/فبراير 1961
بلغت هذا العمر الغريب الذي يصير فيه كل شيء هشاً، وحيث لا يعود في الإمكان القيام بحسابات من دون دمج الموت فيها بقدر غير متعيّن. لا نموت في عمر الخامسة والعشرين. أمامنا ثلاثون عاماً من الصحة البدنية. آه، عجب كل دقيقة بالنسبة للرجل الذي أنا إياه، المهدّد بشكل كبير !...لقاء الموت. عبارة طريفة. الموت هو مَن يلقانا. إنه يعرف كل الطرقات، وكل المخابئ. (ص 240).
10 كانون الأول/ديسمبر 1961
في اليوم ذاته، حدّثني زائر عن الموت بكيفية هامة. الموت الفيزيائي ليس سوى الانتقال من حال إلى أخرى. الموت الحقيقي من طبيعة روحية، إنه الموت الذي ينتج من الذنب. وهكذا، فنحن نعيش بين أموات، وذلك ما يجعل العالم مضايقاً. لا نستمع إلى مثل هذه الأشياء من دون قلق، عدا إذا كان المرء يشعر بنفس اطمئنان ذلك الطائش الذي سمعته يقول يوماً ما لألبير كامي، في جمع عام: "أنا في حال نعمة، سيّدي، وأنت، لا".
أُفضل عدم طرح أسئلة معينة، أشعر بالتعب. أعتقد أن الأصعب بالنسبة للكثير من المسيحيين، هو الاستسلام للإله، بل إنه من نفس صعوبة التضحية بالحياة، لأن المرء يخشى ما سيفعله الإله، لو تخلّى له عن حريته. إنه لمن المحزن قول ذلك، والمخجل أيضاً، ولكن المرء لا يأتمنه. إنه يخاف من شيء ما لا أعرفه. (ص 293).
27 تموز/يوليو 1962
في موعظة بوسويي Bossuet حول الجَلد، هذا المقطع عن الموت الذي نظنه كُتِب اليوم، لو كنا نكتب بالشكل الجيد نفسه: "لن يأتي الموت من بعيد بصخب شديد ليهاجمنا. إنه يتسلل مع الغذاء الذي نتناوله، ومع الهواء الذي نستنشقه، ومع الأدوية التي نحاول الدفاع بها عن أنفسنا ضده. إنه في دمنا وفي عروقنا؛ هَهُنا وضع فخاخه السرية والمحتومة، في منبع الحياة ذاته" (ص 333)[1].
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]
[1] المرجع: "نحو اللامرئي 1958-1967"، Julien Green « Vers L’invisible 1958-1967 » .Plon, 1967.