عن القضاء على الدولة الاجتماعية واللامساواة ... حدثنا بورديو قائلاً
ما تعرفه بلدان كثيرة اليوم ومن بينها فرنسا يبيّن أن بورديو بعد نحو عقدين على وفاته ... كان على صواب.
بيار بورديو (1930-2002) من كبار علماء علم الاجتماع (السوسيولوجيا) الفرنسيين في القرن العشرين. بدأ مساره العلمي بكتاب "سوسيولوجيا الجزائر" (1958) عن الجزائر التي قضى فيها خدمته العسكرية، لكنه اشتهر خصوصاً بمؤلفي "الورثة" (1964) و"إعادة الإنتاج" (1970) اللذين أنجزهما مع جون كلود باسرون، وفيهما تحليل معمّق للمدرسة كمؤسّسة تساهم بكيفية حاسَمة في إعادة إنتاج العلاقات الإجتماعية للهيمنة.
شغل بورديو كرسي السوسيولوجيا في "كوليج دو فرانس"، كما كان مديراً لمجلة "أوراق البحث في العلوم الاجتماعية". ألّف 30 كتاباً وترك العديد من الدراسات والمقالات حول الفن والحقل الأدبي، والإعلام، وعلاقات السيطرة الذكورية، إلخ.
اشتغل في أبحاثه على البنيات والآليات الخفية التي تتحكّم في الفاعلية الاجتماعية وتعيد إنتاج الهيمنة الطبقية. يعود إليه الفضل في صوغ مجموعة من المفاهيم العلمية مثل "رأس المال الرمزي"، و"الحقل"، و"الهابييتوس"، و"العنف الرمزي"، إلخ.
كان بيار بورديو مثقفاً ملتزماً يرى أن مهمة علم الاجتماع هي "قول الحقيقة حول العالم الاجتماعي" وذلك بالكشف عن التعيينات الاجتماعية والوقوف على مختلف أشكال الهيمنة الخاصة. كما ناضل ضد الفوارق الاجتماعية، وانخرط في الصراع ضد النيوليبرالية وحذر مرارا من صعود اليمين المتطرّف إلى السلطة.
يتناول بورديو في هذا الحوار إسهامه في دراسة المجتمع، وينتقد القراءات والتأويلات الخاطئة لكتبه الأولى، مطالباً النقّاد بالتخلّص من العادات التقليدية في التعامل مع الإنتاج الفكري التي تقود إلى التبسيطية، ويشير أيضاً إلى دور "نبلاء الدولة" الكبار في تنفيذ المشروع النيوليبرالي المستهدف القضاء على الدولة الاجتماعية، والذي ينتج منه مزيد من الفوارق الاجتماعية. وما تعرفه بلدان كثيرة اليوم، ومن بينها فرنسا التي لم تتوقّف فيها مسيرات السترات الصفر الاحتجاجية، رغم مرور عدّة أشهر، يبيّن بالملموس أن بورديو كان على صواب حين قال: "مخاطر رهيبة جداً لا يمكن رؤيتها اليوم، لكنها حاضرة بالقوة منذ الآن... وهي لن تنكشف شيئاً فشيئاً على المدى الطويل، إلا عندما سيكون أوان المقاومة قد فات".
لهذا وجب أن يكون علم الاجتماع مزعجاً للمسيطرين وللمثقفين التابعين لهم، ولوسائل الإعلام التي تحول دون وصول الخطاب المخالف إلى الناس. ولهذا أيضاً من واجب المثقّف أن يناضل من أجل استعادة ملكية وسائل التعبير وأدوات النشر، كالكتاب، والصحيفة، والإذاعة، والتلفزة.
في بعض الأحيان ، يتمّ استحضار أعمالك عن المدرسة من قِبَل أشخاص يتّهمون هذه الأخيرة بكونها مجرّد آلية بسيطة لإعادة إنتاج اللامساواة الاجتماعية. ما رأيك في هذا الاستخدام لعملك؟
يجب تدقيق مَن هم هؤلاء الأشخاص الذين تشير إليهم. لا أعرف جميع استخدامات أعمالي ولا أعرف كل ما يُقال بخصوص ما قلناه في كتابي "الورثة" و"إعادة الإنتاج". في الواقع، "أطروحة إعادة الإنتاج" كما يتم استحضارها في غالب الأحيان، سواء كان ذلك للإشادة بها أو لإلقاء اللوم عليها، ليس لها تقريباً أية علاقة بما كان مكتوباً في هذين المؤلفين ولا أيضاً في السلسلة الكاملة من المقالات والكتب (لم يتوقّف الإنتاج العلمي في عام 1970!) التي نشرتها حول النظام المدرسي حتى يومنا هذا والتي لم تتوقّف عن تصحيح، وتدقيق، وتصفية، وتنسيق التحليلات التي لا تنحصر في "أطروحة".
أفكر على سبيل المثال، في مؤلف "نبل الدولة"، الذي يقدّم حصيلة عشرين عاماً من الأبحاث والذي يعرض تماماً مجموع المكتسبات التي تحقّقت حول وظائف النظام التعليمي. أعتقد أن التفكير النقدي سيكسب الكثير من القوّة الفكرية والاجتماعية إذا حرَّر نفسه من عادات التفكير الموروثة من زمن آخر والتي تقود إلى التبسيطية.
ومع ذلك، فإن "الباحثين" أنفسهم، مدفوعين بالبحث عن الأصالة بأي ثمن، أي في كثير من الأحيان، بتكلفة زهيدة للغاية، يضحون، لفائدة تبسيطات شاذّة، بأفكار يدّعون "تجاوزها"، أي إعادتها إلى الماضي.
غالباً ما حدث لي أن فكّرت في إنجاز نوع من الجدول ثنائي القائمة، في جانب أدوّن ما يقال، وفي الجانب الآخر أدوّن ما قلته بالفعل. سيكون قاسياً جداً وأعتقد أنه سيعطي فكرة محزنة جداً عن واقع النقاش العلمي. إنها علامة على التخلّف العلمي أن يكون بمستطاع المرء مع الإفلات من العقاب (أعني من دون فقدان مصداقيته في نظر "المجتمع العلمي") القيام برسم كاريكاتوري إلى حد التشهير، لفكر مَن ينتقده.
ومع ذلك، فإن معظم المكاسب النظرية والاختبارية حول مساهمة النظام المدرسي في إعادة إنتاج بنية الفضاء الاجتماعي (وهي ليست أنيقة للغاية ولكنها تكاد تكون صارمة) تجد باستمرار تأكيدها في الواقع، سواء في فرنسا أو في جميع المجتمعات المعاصرة، في الولايات المتحدة وكذلك في اليابان، في مالي وكذلك في البرازيل.
أي باحث جدير بهذا الإسم يجب أن يبدأ من هذه المكتسبات ليتقدّم؛ أي سياسي جدير بهذا الإسم يجب أن يأخذ عِلماً بوجود الآليات التي تم اكتشافها، وخاصة عندما يدَّعي أنه يعمل في اتجاه الديمقرطية.
أليست التفاوتات المدرسية، وعلى نطاق أوسع الفوارق الاجتماعية، هي في الأساس نتيجة لمدرسة أقل، ولدولة أقل، ولخدمة عامة أقل؟
هذا ما كنت كتبته سابقاً في فصل من كتاب "بؤس العالم"، وفي "استقالة الدولة"، أو كذلك في "نيران مضادة" (Contrefeux).
"اليد اليمنى للدولة"، أي موظفوها الكبار المشبعون بالإيديولوجيا النيوليبرالية الجديدة والمستقوون بوصفاتها الاقتصادية، قاموا بتقليص مجال تدخّل الخدمات العامة، تاركين للموظفين الموضوعين "على خط المواجهة" (المدرّسون، المربّون، الأخصائيون الاجتماعيون، الشرطة ، إلخ) مهمة تدبير، بأقل تكلفة، الآثار الاجتماعية للسياسات الليبرالية التي يدفعون بها إلى الأمام.
إنه بالضبط الفصل بين نبلاء الدولة الكبار الذين وصفتهم في كتابي الصادر عام 1989 (عيد ميلاد سعيد!) "نبلاء الدولة"، والذي يقود، على نحو مفارق، كهنة الدولة إلى أن يصبحوا مصفين للدولة الاجتماعية، أي لنبلاء الدولة الصغار.
في هذا السياق العام إذا تنبغي إعادة تحديد موقع النضالات الاجتماعية العاملة في الميدان – أفكّر في إضراب المعلمين وأولياء التلاميذ في "سين سان دوني" ( Seine-Saint-Denis) خلال ربيع 1998، على سبيل المثال، وهي واحدة من الصدمات العديدة التي تهزّ النظام التعليمي. وضعية الجامعات، التي وصفناها في مؤلف جماعي (ARESER، تشخيصات وعلاجات عاجلة لجامعة في خطر)، هي الأخرى مقلقة جداً، مع الفجوة التي تزداد اتساعاً بين كليات أفضل حظاً وبين باقي الكليات.
انخرطتَ شخصياً وبشكل مباشر، خلال السنوات الأخيرة، في الصراعات الاجتماعية بجانب فاعلين في الميدان. لماذا؟
لقد تبادر إلى ذهني، أنه في مواجهة الأخطار القصوى التي تتعرّض لها، بسبب السياسات المتبعة اليوم، مكتسبات حضارتنا الأكثر أهمية في نظري، سواء في المجال الثقافي، مع التهديد الذي يتوعّد الإنتاج الثقافي المستقل في حقل الأدب والفن والسينما أو حتى في العلوم الاجتماعية، أو في المجال الاجتماعي، مع المجهودات المُمنهجة للقضاء على أي نوع من العوائق أمام المنطق الأكثر وحشية للسوق (حماية اجتماعية، حق الشغل، وما إلى ذلك)، لم يكن من الممكن الصمت عما يجري.
خاصة وأن عدداً من المخاطر الرهيبة جداً لا يمكن رؤيتها اليوم، لكنها حاضرة بالقوّة منذ الآن، بالنسبة لعين ذات حذر علمي، في سياسات الحاضر، وهي لن تنكشف شيئاً فشيئاً على المدى الطويل، إلا عندما سيكون أوان المقاومة قد فات.
تمّت مواجهة التزامك الواضح جداً بحصار إعلامي، كان من الضروري "إحراق بورديو". لماذا ينزعجون منك بهذا القدر الكبير؟
علم الاجتماع يزعج بكشفه للآليات غير المرئية التي تستمر بها الهيمنة. علم الاجتماع يزعج، قبل كل شيء، أولئك الذين يستفيدون من هذه الآليات، أي المسيطرون.
كما أنه يزعج أولئك، من بين المثقفين، الذين يحوّلون أنفسهم إلى شركاء متواطئين، على الأقل ضمنياً وسلبياً، مع هذه الآليات والذين يرون في عالم الاجتماع عِتاباً حياً لا يحتمل. بينما هو يقوم بعمله فقط، العمل الذي كُلف به اجتماعياً، ويعمل على قول الحقيقة حول العالم الاجتماعي.
إنه يزعج بشكل خاص الصحافيين الذين يمتلكون اليوم نوعاً من الاحتكار الواقعي للخطاب العلني ذي الانتشار الكبير. إن التشكيك في كلام هؤلاء الذين عيّنوا أنفسهم ناطقين بإسم المجتمع، يتضمن شيئاً من انتهاك الحرمات، الذي وقفت ضده المهنة بأكملها وقفة رجل واحد.
تطلّب منك الأمر أن تشتكي من كيفية اشتغال وسائل الإعلام. هل من المستحيل تحفيز تفكير اجتماعي جاد في الصحافة بالشكل الذي هي عليه اليوم في بلدنا؟
صحيح أن وسائل الإعلام تتحكّم في الولوج إلى الفضاء العام. كل محاولات بعث رسالة متضاربة أو معارضة إلى الجمهور العريض تصطدم مع حاجز الصحافة. كما يمكن القيام بتجربة ذلك عند محاولة نشر رأي حر استفزازي إلى حد ما، في صفحات "ارتداد" (Rebonds) في جريدة ليبراسيون، أو في "آفاق" (Horizons) في جريدة لوموند (ناهيك عن تكذيب ادعّاءات صحفي).
ينبغي على المثقفين أن يناضلوا جماعياً من أجل استعادة ملكية أدوات النشر الخاصة بهم: أي السيطرة على وسائل التعبير مثل الكتاب والصحيفة والإذاعة والتلفزيون.
(إن مجموعة "أسباب الفعل" التي أنشأناها هي خطوة في هذا الاتجاه). العديد من الشركات الفكرية تُقتَل في مهدها لأنها لا تستطيع أن تكسب الاعتراف العمومي الذي يحصل عليه يومياً كل كاتب مقالات من شركائه في تواطؤ إعلامي. لكني بحاجة إلى مساحة أكبر بكثير مما يمكن أن تعطيني لوصف جميع آليات الرقابة غير المنظورة التي تمارس كل يوم، في فرنسا، على التفكير الحر، وخاصة لتطوير تحليل الاستراتيجيات الجماعية التي قد تتيح "لتفكير اجتماعي جدّي"، كما قُلتَ، الوصول إلى أكبر عدد من الناس، واكتساب قوة اجتماعية حقيقية.
لا أستطيع هنا، سوى أن أدعو كل قارئ في علاقته مع الإنتاج الإعلامي إلى اليقظة المضاعفة، وأن يحاول أن يقوم، بوسائله الخاصة، بالانتقاد الأكثر قسوة للخطاب الإعلامي وللظروف التي ينتج فيها.
المصدر: مجلة الجامعة النقابية، عدد 510، تشرين الثاني/نوفمبر 1999. أجرى الحوار فرنسيس غييو. L’Université Syndicaliste (US) Magazine ,n° 510,novembre 1999.Pp. 44 à 46.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]