سيبيريا.. منفى جليدي رسمت ملامحه الروايات
من دوستويفسكي إلى راسبوتين وغيرهما... سيبيريا منفى جليدي رسمت ملامحه الروايات!
كثيرة هي الروايات التي لم ترو عن تلك الصحراء الجليدية المُترامية الأطراف من المحيط المُتجمّد إلى حدود كازاخستان ومن جبال الأورال حتى المحيط الهادئ، مُلتهمة نحو ثلاثة أرباع مساحة روسيا. ارتبط إسم سيبيريا في الأذهان بالبَرد الجليدي القارِس ومعسكرات الاعتقال وعذابات المنفيين، إلا أنّ هذه المساحة الشاسِعة امتازت إلى جانب نقاء الطبيعة فيها بنقاء العلاقات البشرية وحلاوة الحب وصفاء الجمال الذي عكسه الأدب الروائي والشعبي الروسيين خلال قرن ونصف قرن من الزمن، ذلك إلى جانب مرويات بلغات السكان المحليين قد لا تصلنا.
عربياً، قد يتبادر إلى الذهن مشهدان، الأول لفيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (1821-1881) وهو يقضي سنوات منفاه الأربع في سيبيريا، فقد حُكِم بالإعدام نهاية العام 1849، في قضيّة بتراشيفسكي، إلا أنّه وبعد البدء في التنفيذ لترويع المُدانين تغيّر الحُكم إلى النفي، فنُقِل دوستييفسكي إلى معسكر أومسك السيبيري، حيث قضى أصعب حياته، وقد صبّ انطباعات حياته في المنفى في قصّته "مذكّرات من بيت الموتى"، التي وثّق فيها جوانب من يوميّاته وعادات المنفيين الروس منتصف القرن التاسع عشر. أما المشهد الثاني، فيتجسّد في عذابات السجناء السياسيين الذين وثّق حكاياتهم ألكسندر سولجنيتسين (1918-2008) في "أرخبيل الغولاغ"، بعدما باتت معسكرات الاعتقال تحمل هذا الإسم في المرحلة السوفياتية، حيث يستند الكاتب إلى أقوال 257 سجيناً بين 1918 و1956 وإلى تجربته الشخصية فيفصّل في وصف موجات الاعتقال وأساليب التحقيق والقانون الجائِر الذي يُسهّل احتجاز الحريات.. يوثّق حالات مختلفة من الظُلم الواقع على النفوس البشرية، بدءاً من أسباب الاعتقال لدى سجناء الرأي، وصولاً إلى علاقات المُعتَقلين بعضهم ببعض.
إلا أنّ سيبيريا أوسع وأكثر رحابة من مُعتقلات مُنتشرة في بعض أطرافها خدشت نقاء وجهها. ويعود الفضل إليها في انتشار أدب الكاتب الروسي الشعبي الكبير فالنتين غريغوريفيتش راسبوتين (1937-2015)، وقد حملت إليه الشهرة رواية "عشْ وتذكّرْ"، التي تدور أحداثها في قرية منسيّة من قرى ناحية تايغا تقع على نهر أنغار، في فترة الحرب الوطنية العظمى (1941-1945)، وتحكي عن مصير امرأة هرب زوجها من الخدمة العسكرية بهدف رؤيتها. وكانت الرواية قد تحوّلت إلى فيلمٍ سينمائي في العام 2008، على يد المخرج ألكسندر بروشكين، ضمّ نخبة من نجوم السينما الروسية الحديثة، وحاز على جائزة السيناريو الأفضل في مهرجان "كينوتفار" السينمائي للعام نفسه.
ملاحم الاجيال
تاريخ سيبيريا تظهّره لنا سِيَر العائلات التي استوطنتها مع مدّ السكك الحديدية إليها وعبرها نحو المحيط الهادئ. يستكشف الكاتب والمهندس الروسي فياتشيسلاف ياكوفليفيتش شيشكوف (1873-1945) تلك الأصقاع ويكشفها أمامنا على صفحات روايته الملحمية "الكآبة نهراً" سنة 1932، والتي تجسّد فترة "حمّى الذهب" التي اجتاحت سيبيريا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تستند الرواية في حبكتها على مصائر عدّة أجيال من صناعيي أسرة غروموف البرجوازية. أثناء كتابته الرواية، شارك شيشكوف في رحلات استكشافية إلى مقاطعتيّ إيركوتسك وينيسي، وزار العديد من البلدات والمدن التي تحوّلت إلى نماذج أولية للمستوطنات والطبيعة العذراء المُحيطة بها في روايته. الرواية حوّلتها شركة سفيردلوفسك للإنتاج الفني إلى فيلمٍ طويلٍ من أربع حلقات في العام 1969، على يد المخرج ياروبولوك لابشين، حمل إسم الرواية نفسه.
ولعلّ السياق الروائي عينه يقودنا إلى الكاتب السوفياتي فاسيلي ماكاروفيتش شيشكين (1929-1974)، مع روايته "عائلة لوبافين" المؤلّفة من جزءين: 1967 و1987، التي تجري أحداثها في عشرينات القرن الماضي في ألتاي، والكاتب على الرغم من إفراطه في الواقعية الاشتراكية إلا أنه يغوص بعناية في طبيعة العلاقات الإنسانية بين الفلاحين والأثرياء في خضمّ أحداث مُتسارِعة لبَسْط الدولة نفوذها في المنطقة والقضاء على سلطة العصابات التي كانت منتشرة فيها. وقد حوّل المخرج السوفياتي ليونيد غولوفنيا الجزء الأول منها إلى فيلم سينمائي في العام 1971، بعنوان "نهاية عائلة لوبافين"، حيث شارك الكاتب المخرج في كتابة السيناريو.
أما الكاتب أناتولي ستيبانوفيتش إيفانوف (1928-1999) فينتقل من حياة الأُسَر المالِكة إلى حياة الفلاحين، في روايته "النداء الأبدي" المؤلّفة من جزءين: الأول سنة 1970 والثاني 1976. ويغطي السرد أكثر من نصف قرن من حياة أسرة سافيليف السيبيرية، بدءاً من العام 1902، تتخلّل مساره الزمني أحداث رئيسة مرّت بها البلاد من الثورة إلى النزوح الجماعي والقمع إلى الحرب الوطنية العظمى وغيرها. والرواية عبارة عن لوحة ضخمة مليئة بالتفاصيل للحياة في سيبيريا. وهي سُرعان ما تحوّلت إلى سلسلة طويلة من الأفلام التلفزيونية (19 فيلماً) بين العامين 1973 و1983، على يديّ المخرجين فلاديمير كراسنوفسكي وفاليري أوساكوف، وبدأ التلفزيون السوفياتي عرضه حزيران/ يونيو 1976.
الطبيعة والناس
نسج الكاتب الروسي فيكتور بتيروفيتش أستايف (1924-2001) مصائر شخصيات مُتنافري الأمزجة ترتبط حياتهم ارتباطاً وثيقاً بدائرة مكانية واحدة هي سيبيريا، والتي ترتسم فيها لوحات طبيعية رائعة. والأبطال يتعاملون مع المكان بأشكالٍ مختلفة، منهم من يحبه كوطنه الأمّ ويعتزّ به ويحافظ على حرمة طبيعته ومنهم مَن ينفر منه ويحاول تدميره فيدمّر نفسه ويخسر روحه في المُحصّلة. تتحوّل رائعة أستايف "القيصر السمكة" إلى إحدى عيون الأدب الكلاسيكي الروسي في القرن العشرين، وتكمن أهميتها في التحفيز المستمر للقارئ على التفكير في العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
أما "الجنجل" فهي ثلاثية ملحميّة مثيرة، للكاتب ألكسي تيموفييتش تشيركاسوف (1925-1973)، رواية منوّعة الحبكات ملوّنة الشخصيات مليئة بالمؤامرات الدرامية، تصف من خلال عدد من الوجوه الحيّة تاريخ سيبيريا وحياة سكانها وصفاً دقيقاً في حقبة ما قبل ثورة أكتوبر، يغوص القارئ في "حكايات أهل التايغا" حيث يعيش في عالم المؤمنين السيبيريين القدامى والفلاحين الروس الذين فرّوا إلى رحابة الطبيعة من الاضطهاد في مقاطعة ينيسي، قبل أن يستردّه السرد الذي يغطي الفترة الممتدة من انتفاضة الديسمبريين على نيقولاي الأول (1925) حتى وصول السوفيات، وتدور أحداثها الرئيسة في قرية متخيّلة أطلق عليها الراوي إسم بيلايا إيلان، بين مينوسيسك وكراسنويارسك.