الفلسفة والمجتمع العربي: سوء الفَهْم الكبير
معظم الفلاسفة ماتوا قتلاً وحرقت كتبهم. هل تستحق الفلسفة كل ما تعرّضت له؟
تقول مقالة قديمة إن رحيل الفلسفة عن مجتمعٍ ما، يعني تراجع حضارته وتدهورها. وهكذا كان مع اليونانين الذين أسّسوا الفلسفة كتفكير عقلاني متخلّص من الأساطير، إذ رحل الفكر الفلسفي ولم تعد لحضارتهم مجدها السابق.
وبعد ذلك ازدهر التفكير الفلسفي عند المسلمين وكان لحضارتهم إشعاعها المعروف عالمياً. لكن التضييق على الفلاسفة وحَرْق كُتبهم ومَنْع الاشتغال بالفلسفة، جعل التأمّل العقلي يبتعد ليحطّ رِحاله في أوروبا التي عرفت كيف تستثمره وتبهر باقي الأقطار بنهضتها وابتكاراتها العلمية واختراعاتها التقنية.
بغضّ النظر عن صحّة أو فساد العلاقة السببية بين انتعاش الفلسفة وازدهار الحضارة، وعلى العكس، انكماش الفلسفة وانحدار الحضارة، فإنه من الضروري الاعتراف بأن تراجُع الفلسفة، منذ أن غادرتنا، نحن أبناء الضاد، إلى أوروبا، رافقه ركود حضاري عام ساهم بشكلٍ كبيرٍ في تعريض البلاد العربية إلى الاستعمار ونهب خيراتها واستغلال بشرها.
إن آخر فيلسوف اتّسم فكره بالعقلانية، كان إبن رشد الذي ذاق مرارة الاضطهاد والنفي. يقول هنري كوربان في كتابه عن "صوفية إبن عربي"، رحلت الدابة وهي تحمل جثمان إبن رشد على جانبها الأيمن، وكتبه على جانبها الأيسر. ويعلّق رائد السوريالية العربية جورج حنين على هذا القول الذي استشهد به في يوميّاته بما يلي: "احذفوا إبن رشد، احذفوا مؤلّفاته. يبقى الحمار، الحمار الذي يعرف طريق المقبرة".
الفلسفة صداقة للحكمة، تفنّن الفلاسفة والمفكّرون في تعريفها، كما برع أعداؤها في التشهير بها. لكن هل كانت الحكمة (بهذا اللفظ الذي يحبّذه إبن رشد انطلاقاً من الآية القرآنية التي تقول: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة...") تستحق كل ما تعرّضت له من مُضايقات وقمع وحرق للكتب ونفي وحبس بل وإعدام للمشتغلين بها؟ ألم يحكم على سقراط، الذي قال "إعرف نفسك بنفسك"، والمشهور بعبارته "كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئاً" بالموت؟
ألم يُتّهم الفلاسفة المشّاؤون من المسلمين بالكفر؟ وألم يُنْف إبن رشد هو الذي فحص "على جهة النظر الشرعي هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب"، وأثبت أن "الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها" (كتاب "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال")؟ وألم يُكَفَّر سبينوزا؟ وألم يهرب ديكارت طلباً للنجاة من بطش رجال الكنيسة؟ وألم يُقتل حرقاً جيوردانو برونو وكوبرنيك مع أنهما بيّنا علمياً دوران الأرض حول الشمس؟ إلخ.
التهمة جاهزة، والمُتّهِم تارة وثني، وتارة مسلم أو مسيحي أو يهودي. وكل ذلك، لا لشيء آخر غير تشبّت الفلاسفة بحرية الفكر والفَهْم والتحليل والنقد.
تؤمن الفلسفة بأن الإنسان يمتلك نوراً طبيعياً هو العقل (النفس الناطقة التي "بها يحوز الإنسان العلوم والصناعات، وبها يميّز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق" كما يقول أبو نصر الفارابي في كتابه "السياسة المدنية")، الذي يُمَكّنه من التمييز بين الحقيقي والزائف، وبين الخير والشر، وبين الجمال والقُبح.
لذلك، فإن التعريف الذي يمكن أن يُعطى للفلسفة، يجب أن ينطلق من حد اللوغوس (Logos وهو لفظ إغريقي يعني العقل والخطاب والنظام والعلاقة والاستدلال؛ كما اشتّقت منه مفردة "لوجيك Logique " أي المنطق. ونعثر على نفس المكوّن "لوجي" في أسماء العلوم كمنظومات معارف صارِمة ومنسجمة: بيولوجيا، سيكولوجيا، سوسيولوجيا، إلخ).
الفيلسوف اليوناني فكّر وأنتج خطاباً عقلانياً استدلالياً متعارضاً مع الميتوس Mythos (أي الحكايات الخرافية الأسطورية)، وكان يريد من خلاله تفسير العالم والظواهر والتغيّرات، تفسيراً عقلياً يقبل البرهنة.
لم ينحصر التفسير الفلسفي في ما هو ميتافيزيقي (ما وراء الطبيعة)، وإنما كان مُتعدّد المواضيع والاهتمامات. قد لا يوضح تعريف الفلسفة بكونها تفكيراً في الوجود وفي المعرفة مدى اتّساع اهتماماتها. لقد كانت الفلسفة عبارة عن موسوعة معرفية تشمل الحكمة العملية والحكمة النظرية.. يُبيّن إبن سينا في تعريفه للفلسفة المهام المُتشعّبة التي كانت مُنتظرَة من الحكيم أو الفيلسوف: "الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصوّر الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة البشرية. والحكمة المتعلّقة بالأمور النظرية التي علينا أن نعلمها وليس علينا أن نعملها تُسمّى حكمة نظرية. والحكمة المتعلّقة بالأمور العملية التي علينا أن نعلمها ونعملها تُسمّى حكمة عملية. وكل واحدة من الحكمتين تنحصر في أقسام ثلاثة: فأقسام الحكمة العملية: حكمة مدنية، وحكمة منزلية، وحكمة خلقية... والحكمة المدنية فائدتها أن تعلّم كيفية المشاركة التي تقع في ما بين أشخاص الناس ليتعاونوا على مصالح الأبدان ومصالح بقاء نوع الإنسان. والحكمة المنزلية فائدتها أن تعلّم المشاركة التي ينبغي أن تكون بين أهل منزل واحد لتنتظم به المصلحة المنزلية... وأما الحكمة الخُلُقية ففائدتها أن تعلّم الفضائل وكيفية اقتنائها لتزكو بها النفس، وتعلّم الرذائل وكيفية توقيها لتتطهّر عنها النفس. وأما الحكمة النظرية فأقسامها ثلاثة: حكمة تتعلّق بما في الحركة والتغيّر، وتسمّى حكمة طبيعية؛ وحكمة تتعلّق بما من شأنه أن يجرّده الذهن عن التغيّر وإن كان وجوده مخالطاً للتغير ويُسمّى حكمة رياضية؛ وحكمة تتعلّق بما وجوده مستغن عن مخالطة التغيّر فلا يخالطه أصلاً، وإن خالطه فبالعرض، لا أن ذاته مُفتقرة في تحقيق الوجود إليه، وهي الفلسفة الاولية؛ والفلسفة الإلهية جزء منها وهي معرفة الربوبية... ومن أوتي استكمال نفسه بهاتين الحكمتين والعمل على ذلك بإحداهما فقد أوتي خيراً كثيراً." (من كتاب "عيون الحكمة").
ولتبسيط الأمور، يمكن تغيير أسماء أقسام الحكمة العملية إلى السياسة والاقتصاد والأخلاق. وهكذا، فإن الفيلسوف لم يكن يحصر اجتهاده الفكري في الحكمة النظرية بأجزائها الثلاثة، الحكمة الرياضية (الموسومة بالرياضيات) والحكمة الطبيعية (التي تحوّلت إلى علم الفيزياء بعد استقلال هذا المبحث عن الفلسفة) والفلسفة الأولى (أو الميتافيزيقا).
كان الفيلسوف مفكراً موسوعياً وطبيباً معالجاً يلجأ إليه الجميع وحتى الحكّام ورجال الدين الذين حاربوه وأبدعوا في أساليب اضطهاده.
لم تكفّ الفلسفة عن ممارسة مهمتها الموسوعية النبيلة، إلا ابتداء من القرن السابع عشر الميلادي، زمن تأسيس العلوم واستقلال كل علم بموضوعه وبمنهجه عن التأمّل الفلسفي والمنطق الأرسطي. يقال إن التفلسف عاد بعد ذلك إلى ما خصّه إبن سينا من دون أصناف الحكمة الأخرى، باسم فلسفة أو "الفلسفة الأولى". لكن الحقيقة غير ذلك، فاهتمامات الفلاسفة متعدّدة، إلا أنها لا تغادر الواقع الإنساني ولا تبرح انشغالات الكائن البشري: الحق، العدالة، الخير، الحقيقة، الوجود، السعادة، الأخلاق، الفن، التقنية، الحرية، إلخ.
لا مبرّر إذن لمهاجمة الفلسفة ومحاولة اجتثاثها. إنها تدخّل فكري ومعرفي ضروري في المجتمع وإسهام أساسي في الثقافة. هل من أساس لإلحاد فلاسفة ولتقويضهم للدين؟
سعى ديكارت إلى تأسيس منهجي عقلي للحقيقة الدينية الجوهرية، ودافع إبن رشد عن وحدة غاية كل من الحكمة والشريعة؛ ومع ذلك حاربهما مَن كان يحمل تصوّراً خاصاً لحقائق العقيدة.
إن الخدمة الجليلة التي يقدّمها الفيلسوف لمجتمعه ولعصره، قبل الأجيال اللاحقة، لا تقلّ أهمية عن خدمة باقي المعارف العلمية. بل لا بدّ من الإشارة إلى أن التفكير في العلم لا يقوم به العالم، إذ هو على الدوام مُستغرِق في موضوع تخصّصه (الظواهر الطبيعية مثلاً).
تضطلع فلسفة العلوم أو الإبستمولوجيا بدراسة العلم من حيث المبادئ، والمنهج، والوسائل المُعتمدة، والأزمات، ومدى أخلاقية تطبيقاته (الاستنساخ على سبيل المثال لا الحصر) إلخ. علاوة على ذلك، لقد تعدّدت أقسام فلسفة العلوم ليكون كل واحد منها خاصاً بتخصّص علمي من دون سواه. وهذا دليل آخر على أهمية الفلسفة وفائدتها ومدى حاجة كل مجتمع وكل ثقافة إليها.
مسيس الحاجة إلى الفلسفة هو الذي دفع المسلمين إلى الانفتاح عليها، وهو الذي كان وراء تأسيس (بيت الحكمة)، وهو الذي أعطانا الكندي والفارابي وإبن سينا وإبن طفيل وإبن رشد وكل مَن تتلمَذ على أيديهم. ارتباط الفلسفة بالتنمية والديمقراطية هو الذي جعل (اليونيسكو) تولي أهمية كبرى للفكر الفلسفي وتؤكّد على ضرورة تدريسه في كل بلاد العالم.
وإذا كان النقاش في الغرب ينصبّ حالياً على إمكانية تعليم الأطفال الصغار التفلسف - بل إن ثمّة تجارب ناجحة في هذا الاتجاه- فإن عدداً من البلدان العربية لا يزال حبيس الجدال حول قبول أو رفض دمج الفلسفة في البرامج الدراسية.
إن الفلسفة التي يهابها البعض ويحذر من تأثيرها السلبي المزعوم في المتعلّمين، هي فرصة ذهبية تُتيح للدارِس تعلّم وممارسة الشك المنهجي في الآراء الشائعة (على غرار ديكارت)، والتساؤل الباحِث عن الحقيقة، والتعامل النقدي مع أفكار الغير في إطار حوار بنّاء رافض للإنغلاق والدوغمائية والتطرّف والعنف.
إن تضمين الفلسفة في البرامج التعليمية وتدريسها بالمناهج الحديثة، لا بالتلقين والببغاوية، يحصّن فكر المتعلّم ضد الأفكار الهدّامة التي يروّجها عبيد التشدّد وأتباع التعصّب، وضد الأحكام المُسبّقة التي يتبنّاها بعض الناس من دون تمحيص، وضد الأخبار الزائِفة التي ينتجها دهاقنة البروباغاندا المتاجرون في خوف الناس.
في مقدور الفلسفة أن تكون ترياقاً ضد سموم التعصّب والتطرّف، شريطة توفير ظروف نجاحه وإعطائه الوقت الكافي والضروري لتحقّق مفعوله. يمكن الإشارة بإيجاز إلى بعض الشروط اللازمة: إعادة طبع المؤلّفات العربية الإسلامية ونشرها على نطاق واسع؛ توفير القواميس الفلسفية ومؤلّفات عصر الأنوار للتلاميذ والطلبة؛ إصدار مجلة خاصة بالفلسفة وتخصيص صفحات للفلسفة والعلوم الإنسانية في جميع المجلات؛ إنتاج برامج إذاعية وتلفزيونية تُعنى بالفلسفة والعلوم الإنسانية؛ تعريف بالمُشتغلين بالفلسفة وبمؤلّفاتهم وتكريمهم؛ تخصيص جائزة سنوية خاصة بالتأليف الفلسفي العربي؛ إجراء مباريات في الكتابة الفلسفية لتلاميذ المدارس؛ إلخ. من دون ذلك، سيبقى شعار التنوير كما صاغه الفيلسوف كانط: "كن شجاعاً واستخدم عقلك بنفسك"، صيحة في واد.
لا بدّ أن تُبادر الدول العربية رهينة التردّد إذن إلى بعث الروح في التفكير الفلسفي، من خلال تربية الناشئة على التفلسف، وذلك بإقرار تدريس مادة الفلسفة (التي اعتبرها الفارابي في مؤلّفه "تحصيل السعادة": "الحكمة العظمى" و"علم العلوم" و"أمّ العلوم" و"حكمة الحكم" وصناعة الصناعات")، ومنحها المكانة التي تستحقها في الثقافة والمجتمع.
إن بعض ما يفسّر اعتناق عدد من الشبان، ذكوراً وإناثاً، للأطروحات المتطرّفة في فَهْم الإسلام، وحملهم للسلاح عوض التسلّح بالكتاب، هو غياب الفكر النقدي العقلاني الذي يساعد المرء على تنمية وعيه النقدي، وتبيّن مسلك الحقيقة التي تحتاج إلى البحث المستمر والبناء التدريجي، وصدّ هجوم مَن يريد تحويله إلى تابع آلي يتحرّك بالضغط على أزراره، وليس بإرادته الحرّة والواعية والمسؤولة أخلاقياً واجتماعياً. بهذا الشكل سيصبح المواطن العربي قادراً على التفكير بذاته في قضايا مجتمعه وعصره، وعلى اقتحام الأوراش النظرية الكثيرة التي تنتظره... قبل فوات الأوان.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات والمقالات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]