روما القديمة والأدب ... من شيشرون إلى هوراس
بقطع الرأس، إنتهت حياة شيشرون، كفيلسوف وشاعر وسياسي، لخّص ضمن 57 محاضرة وحوالى 800 رسالة (جميعها في حالات مجزأة، كالأجزاء التي تم اكتشافها سنة 1820 في الفاتيكان) تاريخ الأدب الروماني، من حيث قواعد كتابة اللغة، والنثر.
فقد عاش شيشرون في ذروة النثر اللاتيني، وبمساعدة من جاذبيته المجيدة، انتزع صعوده في سنة 63 ق.م، ليكون أول نابغة وأول إنسان جديد (أو: نوفو هومو، وهو مصطلح لاتيني يشير إلى معنى رجل جديد، للإشارة إلى الرجل الذي انتخب كقنصل).
قام شيشرون بإعادة بناء اللاتينية، على حد تعبيره، وهي عبارة عن "مادة معدّة بشكل جيد للفلسفة والعلوم والأدب، يمكن استخدامها لمدة 17 قرناً تقريباً".
تعد "أطروحة بروكس"من أهم أطروحات شيشرون الأدبية التي تستعرض تاريخ الرومانسية وتحلّل باختصار أنماط خطاب المتحدّثين الرومانيين، وهي من روائع المؤلفات الرومانسية الرومانية. يرى شيشرون في هذه الأطروحة أن البلاغة نعمة طبيعية وغير مكتسبة، بل يجب أن تكون في طبيعة الشخص، ولا يمكن تعلّمها من خلال قراءة الرسائل البلاغيّة. بالطبع، اعتقد شيشرون أنه إذا كان لدى المرء هذه الهدية الفطرية، فسوف يكون قادراً على إتقان فنه وممارسة العظة بتأثير وبراعة.
من ناحية أخرى، كان نقده الأدبي مستوحى من أفكار أفلاطون الفلسفية ونظرياته، وذلك بسبب تأثره بمعتقداته. كما تميّز شيشرون أيضاً -بتأثير من أرسطو- بالبلاغة والوصف ضمن إطار الأهداف الرئيسية للفيلسوف الحكيم، وعليه، يعتقد شيشرون أن كلاميات المحاضرين والكتاب كانت أقل تأثيراً وفعاليّةً من كلاميات العلماء والفلاسفة التي تميّزت بدرجة رفيعة من الإقناع، فلاحظ الفرق بين أسلوبي التعبير، حيث قام بتوصيف سمات وخصائص كل من هاتين الفئتين من الأفكار بالتفصيل.
اعتبر شيشرون أن الشعر مسترخٍ مريح للخيال، كما أنه ينقذ الروح من العواصف الرعدية وإحباطات الحياة اليومية، ويعتبر أنه كان شغفاً يقوم بحماية البشرية من نزوات الحياة المؤذية وغير السارة.
لقد كان شيشرون، مثله مثل سقراط وأفلاطون، يؤمن بقوّة الكلام ويعتبر الشعر مصدراً للإلهام: "كما سمعت من شيوخ الفكر، يمكن تدريس الفنون الأخرى من خلال التعليم والدراسة والممارسة والتقليد، ولكن الشاعر يرجع بكل شيء إلى نفسه، حيث يرجع بطبيعته إلى طبيعته التكوينيّة، وبروحه إلى القوّة الروحية والسماوية الممنوحة له كونه مصدر إلهام وتفوّق وامتياز. تستجيب الصخور والصحاري لأغاني الشاعر، حتى في أوقات كثيرة تهدأ البرية لسماع أغاني الشعراء".
عصر الأدب الروماني الذهبي
بعد ثلاثة عقود من الميلاد وعقدين من الزمن، تحقّق العصر الذهبي للثقافة والفنون والأدب الروماني، في فترة ازدهار وخصوبة قامت ببلورة هذه الثقافة الجديدة، فجاءت آلاف الكلمات اليونانية إلى المفردات اللاتينية. وحضرت الثروة الروحية اليونانية إلى روما متمثلة بالفن والأدب والمعرفة والحكمة، وتم عرض مئات التماثيل واللوحات في الساحات والمعابد والشوارع والمنازل.
حينها، زاد عدد الكتب المنشورة في روما بشكل مطرد، وصار جميع الناس شعراء، ما أسهم في نشوء تجمّعات يلقي فيها الشعراء قصائدهم للمستمعين، وسرعان ما تحوّلت تلك التجمّعات إلى مسابقات للشعر، فزاد تنافس الشعراء غير المعروفين بين بعضهم، إما للحصول على جوائز أو لاكتساب شهرة شعبية في "المكتبة" التي كانت تملأ حياً يسمّى "أرجيلثوم"، حيث يجتمع الشعراء لتقييم عبقريتهم الأدبية وإخضاعها للنقد والمراجعة. في الوقت نفسه، كان يقرأ الفقراء أجزاء من كتبهم المفضّلة في تلك الجمعيات مجاناً في اللوحات المثبتة على الجدران.
نشرت الكتب في جميع أنحاء الإمبراطورية، وفي العديد من المراكز الثقافية الهامة، مثل ليون، أثينا، الإسكندرية، وروما التي كانت آنذاك تعتبر واحدة من أهم المراكز الأدبية في الغرب، حيث كانت منافسة للإسكندرية. هذا التنافس حوّل المجتمعات إلى ساحة عامة للأدب والنقد، ما أدّى إلى إكسابها مصداقية وقيماً جديدة بشكل مستمر.
فيرجيل والقصيدة الكاملة
في هذه الفترة، كانت هناك شخصيات أدبية هامة، مثل فيرجيل (المولود سنة 70 ق.م بالقرب من مانتوا)، وحظي بموضع تقدير باعتباره محبوباً ومبدعاً. كانت مجموعة "العمل في الأرض" أو "جوجكيون" هي الأكثر اكتمالاً ودقة في شعر فيرجيل، حيث يمدح فيها الفلاحين ويصف طريقة حياتهم بأدق تفاصيلها، كأنواع التربة، وطريقة زراعة الشتلات، وزراعة الزيتون، وقواعد تربية الخيول والأبقار والأغنام وعسل النحل وصيد الأسماك.
أما تحفة فيرجيل، فهي النسخة الملحمية "الإنياذة" (بحجم 12 كتاباً). وهي قصة خيالية تتحدّث عن مغامرات الأمير إينياس أحد أبناء بريام ملك طروادة. لقد قضى فيرجيل السنوات العشر الأخيرة من حياته في تأليفها، ومع ذلك، لم يستطع إكمالها بالكامل. ويجب التنويه هنا إلى أن "إنياذة" فيرجيل كثيراً ما تقارن بإلياذة هوميروس.
على الرغم من أن فيرجيل صمّم ضمن وصيتة الأخيرة على إحراق مخطوطاته غير المكتملة، إلا أن أصدقاءه لم يفوا بإرادته، وبعد عامين من وفاته تم نشرها. وسرعان ما أصبحت ذات شهرة عالمية، حافظت على سمعتها منذ ذلك الحين، لتصبح واحدة من أكثر ملاحم العالم القديم شعبية. بعد ذلك، وخلال السنوات الأولى من وفاته، تم العثور على عدّة لصناعة النبيذ في منزله، بجانبها مجموعة من القصائد التي كتبها!
لهذا السبب استمرت قصائده بالظهور بعد وفاته، إلى أن أصبحت عادة شائعة. ومن ناحية آخرى، كانت سمعة فيرجيل تشع.
في العصور الوسطى عرف فيرجيل كعرّاف، وساحر، وقدّيس. وقد أشار إليه دانتي في "طريق الجحيم" و "الكوميديا الإلهية"، كما تأثر جون ميلتون بفيرجيل في "الجنة المفقودة" و "الشياطين والرجال". أما فولتير فقد اعتبر "الإنياذة" من أكثر الأعمال الأدبية حساسية في العصر القديم.
النقد الأدبي عند هوراس
"إني أنفر من الرجل غير المثقف في الشارع وأبقيه بعيداً مني" كانت هذه الترجمة لفاتحة إحدى أشهر قصائد الشاعر والناقد الأدبي اللاتيني هوراس (56 ق.م)، الذي سافر خلال شبابه إلى اليونان وتعرف إلى أفكار الفلاسفة اليونانيين، وكان متأثراً بشكل خاص بالأفكار الفلسفية لأرسطو.
وعندما عاد إلى روما، أصبح صديقاً لفيرجيل واستمرت هذه الزمالة الدافئة حتى نهاية حياة الأخير.
أما أهم الأعمال الأدبية والشعرية لهوراس فهي "المقطوعات الهجائية"، "التفضيلات الفلسفية"، و"الرسائل" التي احتوت على الآراء الأدبية والنقديّة لهوراس.
وهي عبارة عن مجموعة من رسائله الشعرية، موصوفة بواسطة لغة شعرية تفصيلية، ففي رسالة القصيدة الموجّهة إلى آب (أغسطس)، جادل حول الشعر، وأولئك الذين أعجبوا فقط بالشعراء القدامى وآثارهم من أن يكون لديهم شعراء معاصرون.
وفي رسالة أخرى يلعن ويسخر من الشعر السخيف، ومن الشعراء البغيضين: "أولئك الذين يفتقدون للنثر وطرق كتابته، ويسعدون أنهم يكتبون شيئاً ما، ويعتبرون أنفسهم كتاباً ومتحدّثين، وأنهم عزيزون ومشرّفون، بل يعترفون بأن لديهم آثاراً وفلسفات، وهم بلا شيء من ذلك".
لكن الرسالة الأكثر أهمية في قصائد هوراس، من وجهة نظر النقد الأدبي، تلك التي بعنوان"For Pisons"، فقد وصفتها الترجمات اللاحقة بـ"الفن الشعري" (مثال ذلك، الترجمة العربية عن اللاتينية بواسطة الدكتور لويس عوض)، كُتبت هذه الرسالة لأولاد في عائلة "بيزو" أرادوا أن يأخذوا درساً شعرياً يتعلّموا خلاله كيف يصبحوا شعراء.
ولهذا السبب، فإن خطاب هوراس ليس مجرد أطروحة رسمية، ولكنه مجموعة من النصائح الودّية حول مصير وقواعد الصناعة الشعرية.
في هذه الرسالة يروي هوراس الشعر في لحن وحساسية لهؤلاء المراهقين، ويصف وجهات نظره حول الشعر والشعراء، حيث ينتقد الشعراء القدامى وتجربتهم، ويدعو إلى التدقيق في فَهْم مبادئ وقواعد الشعر، وخاصة الشعر الدرامي.
وأوصى هوراس بأن الشعر والفن يجب أن يسيطرا على العقلانية والمنطق، ويعتقد أنه إذا لم يكن الشعر هو أصل لكل من العقل والمنطق، فإن هذا الشعر لا يمكن أن يكون جميلاً ومتوازناً وممتعاً. إذ يجب أن يلتزم الشاعر دائماً بالانضباط والانسجام، لأنه إذا لم يكن هناك وحدة ووئام في الفكرة العامة، لا يمكن شرح الموضوع المراد بالكامل. فمهمة الشاعر مهمة صعبة لا يمكن أن يقوم بها أي شخص.
أما نقديّاً، فيقول هوراس: "وما كل ناقد بمستطيع أن يميّز الشعر غليظ الموسيقى، فكان أن أصاب شعراء الرومان تساهل غير محمود، هل يكون جميلاً أن أرتكن على هذا التساهل فأهيم بلا رابط وأكتب بلا قيود؟ أو أن من واجبي أن أحسب أن جميع الناس سيلحظون عثراتي فأعمل في حرص وفي حذر على اكتساب عفوهم، بهذا أنجو من اللوم وإن كنت لا أفوز بالثناء" لكن د.لويس عوض يعقب على هذا الاقتباس: الاقتطاف من شعر هوراس لإثبات تهيّبه من النقد لا ينتهي، فحسبك ما ورد منه في مقاله.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]