الرواية العراقية ... التحوّلات والمُنجز الثري
ما زال الواقع يكتب رواياته بأنامل الجحيم العراقي.
يحدث أن تكون كاتباً روائياً في العراق، وتحمل على كتفيك ثقل كل المآسي التي تحدث في الشرق الأوسط. قد يقول أحدٌ ما، ما هذه المبالغة في التوصيف؟ فنقول له: كل ما يحدث يتمركز في العراق وكل الدول المحيطة هوامش ومدارات انعكاساته، لهذا يكون العراق هو المدّون وهو الرائي في قلم الروائي، ونقول الرواية أولاً، لأنها مسرح التدوين المُعاصِر وصورته الشاسِعة، لذلك لا بدّ من التقدمة لتأشير ثلاث مراحل أساسية مرت بها الرواية العراقية.
المرحلة الأولى للرواية العراقية كانت على يد محمود أحمد السيد (في سبيل الزواج 1921/ مصير الضعفاء 1922/ جلال خالد 1928)، بحسب توصيف الناقِد فاضل ثامر، مروراً عبر تراكم الخبرة للأجيال اللاحِقة التي وضعت الأسُس العملية لنُضج الرواية العراقية وإسهامات الروائيين في مرحلة العهد المَلَكي وعلى رأسهم فؤاد التكرلي وغالب طعمة فرمان، وزيادة عدد الإصدارات الروائية حتى عام 1975 إلى 25 رواية فقط، وفق تقرير عبد الإله أحمد، وهو نمو بطيء لكنه ثريّ بالأعمال الجيّدة حتى ظهور المرحلة الثانية، وهي نكسة الرواية العراقية مع بدء الدكتاتورية وقيام الحرب مع إيران عام 1980 وبداية الرواية التعبوية الزائِفة، والمرحلة الثالثة وهي الأهم التي بدأت ما بعد الاحتلال الأميركي عام 2003.
يُسجّل الباحِث نجم عبد الله في كتابه "فهرست الرواية العراقية" منذ عام 2003 وحتى 2014 نشر أكثر من 470 رواية، وهو عدد يشير إلى انتشار ثقافة الكتابة الروائية في الوسط الأدبي والاستغناء عن مضمار الشعر الذي عُرِفَ به العراق بصفته النموذج التعبيري الأهم في المنطقة العربية.
حيث وصلت الرواية العراقية إلى أبهى مستوياتها في الفن الروائي وحصلت على جوائز عالمية مثل أحمد سعداوي وانعام كجه جي، وعربية وكان آخرها "جائزة كتارا للرواية" التي مُنحِت للكاتِب عبد الكريم العبيدي، الذي في معرض حديثه عن الرواية العراقية للميادين الثقافية يقول إنه "حالما أدركت الرواية العراقية أنها في "نقطة أمان نسبي" بعد بركان 2003 وثمة ما يوجد لتضيفه لنفسها، سارعت إلى إعلان أحقِّيتها في امتلاك الحقيقة عن التاريخ المُصاب بمرض العقم! وهذه حقيقة مفادها أنه لا يوجد مهرب من سرد حقبة التكتيم التي امتدت لأكثر من ثلاثة عقود دموية، لذلك بادرت بأخذ السّرد من معتقل العتمة إلى مساحة غضبية عارِمة، تحوّل فيها السرد من سردٍ حجري تعبوي إلى آخر مُنفتح تجريبي يؤسّس لعهدٍ روائي جديد، كنتاج لصدمة انهيار أعتى أنواع الدكتاتورية"، مُضيفاً "بذلك غدَت الرواية العراقية أشبه بميزان المُختلف من الأمر وشهادة مثالية على التحقيب المُبكر للرواية الجديدة".
يرى العبيدي أن الرواية العراقية "عادت أخيراً مُكتفيةً بذاتها، وانغمرت برحلة فتح الأبواب المُغلَقة والكشف العجائبي ورفع الغطاء عن أحداث "قديمة مجهولة"".
وهنا يتحدّث عن روايته "كم أكره القرن العشرين.. معلقة بلوشي" التي صدرت عام 2017 لكن أحداثها تدور في ثمانينات القرن الماضي! وكذلك روايته "الذباب والزّمرد" التي كُتِبَت في العام 2009 بينما تدور أحداثها في أعوام الحِصار والقحط التسعينية. في المُحصّلة "يُحيلنا هذا القياس إلى روايتي "ضياع في حفر الباطن" التي صدرت عام 2007 وهي تتحدّث عن غزو الكويت والهزيمة وضياع أجيالٍ عراقيةٍ في مطاحن الحرب".
إن هذا التقرير الشخصي لتجربة الكتابة لدى العبيدي تؤكّد على مشروع الأرخنة الروائية للكتابة في محاولة لكشف المُعضلة العراقية طيلة عقودٍ طويلةٍ عاشها الإنسان في هذا البلد، من دون أن يعرف الأسباب والوقائع الموجبة لهذا الخراب الدامي.
قد تكون الرواية هي النافذة الوحيدة لقول الحقيقة، فلا غرابة بعد ذلك أن نرى الكاتِب محمد خضير يتناول التحوّلات في مقاله ما بعد الضياع قائلاً: "يضعنا عبدالكريم العبيدي أمام مشاهد وتجارب لا نُكران لحقيقتها المُخيفة، ولا تخفيف لصدمتها المُذهلة، تلك التي جرّبها في الملاجئ المهجورة في صحراء حفر الباطن، وفي أقبية مديرية الأمن، أو تلك التي عرضها على شاشة جانبية في سجن أبي غريب ونخرج من هذه المشاهد بإحساس الرعب والموت، حتى لنستقلل ما يشبهها هولاً وصدمة في روايات مماثلة "روايات نصيف فلك مثلاً". وستقتصر الروايات بعد اليوم على استرجاع رؤى سابقة عليها، مثلما زحفت روايات العبيدي على رؤى المستقبل التالية عليها. واستولت رواية التغيير على ميراث الرواية العراقية، بالمعيار الذي قضت روايات العبيدي بموجبه على أيّ شعور بالاستقرار النفسي والروحي قد نرجوه من رواياتٍ قادِمةٍ تستوثق الواقع والتاريخ في فضائها".
كما يؤشّر الناقِد عبد علي حسن إلى مجموعةِ تحوّلاتٍ مهمة قائلاً للميادين الثقافية "أسهم التحوّل الكبير في البنية الإجتماسياسية العراقية في نيسان 2003 وكذلك مخرجات الواقع العراقي منذ 2005 في اقتراب الأجناس الأدبية السائِدة في المشهد الثقافي العراقي من حيثيات هذه التحوّلات، ولعلّ الرواية هي الجنس الأكثر استجابة وتفاعُلاً مع ما أفرزته مظاهر الاحتراب الطائفي والعِرقي والقومي الذي ظهر على نحوٍ ملحوظٍ ومؤثّرٍ في تقرير مصير الوجود البشري للفرد العراقي الذي بات مكشوفاً أمام كل مظاهر العنف والإكراهات والإقصاء".
ونظراً لما تتمتّع به الرواية من قابليّة بنائيّة في الحجم واتّساع مساحة الأحداث والشخصيات فإن عدداً غير قليل من الروائيين العراقيين وكذلك عدداً من كتّاب القصة القصيرة والشعراء قد اتّجه وفق حسن إلى "كتابة الرواية لشعورهم بأنها تتمكّن من الإحاطة بحجم ما يواجه الواقع العراقي من اهتزازات عنيفة لايزال الفرد العراقي ينوء بحملها وتحمّل أوزارها، حتى وصل ما نُشِر من روايات منذ 2003 ولحد الآن المئات من الروايات بين غثّ وسمين بفعل انتشار دور النشر التي لم تعد حكراً على العاصمة، وكذلك ما يتمتّع به الكتّاب من حرية التعبير التي كفلها الدستور الجديد، ولا شك بأن اتّساع عدد الروايات الصادرة سيفرز عدداً غير قليل من الروايات التي تتمتّع بتأثيرٍ فكري وفني يؤشّر إلى تقدّم هذا الفن في المشهد الثقافي العراقي عموماً.
إذ إن هنالك التقاطات ذكية للعديد من الظواهر التي من الممكن أن تشكّل إضافة نوعية تتناسب والمتحوّل الاجتماعي ومُعبّرة عنه وفق آليات روائية معروفة على مستوى الرواية العالمية، كخرق التتابع الكرونولوجي والميتارواية واستخدام الوثائق واليوميات وما إلى ذلك من آليات حديثة تضع هذه الرواية في منطقة التأثير الإيجابي، برأي الناقد العراقي عبد علي حسن.
لم يكن واقع الهجرة الجماعية التي شكّلت ظاهرة تأريخية غير مسبوقة من العراق وسوريا إلى أوروبا ببعيدٍ عن الفضاء الروائي. فقد كانت رواية "سلمون عراقي" لفاضل القيسي مهاداً لتدوين محنة التهجير والقسوة في العالم المُعاصر في ظلّ حروبٍ مُدمّرةٍ يمر بها العراق والمنطقة بالكامل، ومنها إلى كل الروايات العراقية التي تناولت أزمة المنطقة، حيث يقول حسن "حينما نتحدّث عن الرواية العراقية بعد 2003 يجب أن نتناول المشهد الأكثر اتّساعاً من بين كل الاجناس الأدبية الأخرى، فقد ظهر العديد من الكتّاب وهم يتناولون في رواياتهم ما حلّ بالعراق مابعد التغيير".
هكذا ظهرت روايات عالجت الكثير من السلبيات التي رافقت تلك الفترة مثل رواية "يا مريم" لسنان أنطون التي تحدّثت عن أزمة الأقليات، ثم رواية "فرجواليية" لسعد سعيد التي تحدّثت عن أثر دخول الإنترنت على المجتمع العراقي، ثم روايات من مثل "لعنة ماركيز" لضياء الجبيلي و"فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي و"طشاري" لإنعام كجه جي ورواية "الكافرة" لعلي بدر و"رياح السموم" لعبد الزهرة علي، وصولاً إلى "للهروب خطوة أخرى" لتوفيق حنون وآخرين.
جميع هذه الروايات مُضافاً إليها ما كتبه محمّد الأخرس ومحمّد علوان وسعد محمّد رحيم وحميد الربيعي وشوقي كريم ونزار عبد الستّار والقائمة تطول، جميعها تناولت ما حلّ بالعراق بعد 2003، وهو ما يؤكّد أن الحدث التاريخي والواقعي بقيَ عالقاً في مخيّلة الروائي العراقي وما زال الواقع يكتب رواياته بأنامل الجحيم العراقي.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]