تقبّل الآخر, ترياق "التوحد"
لا يستطيع العالم إخفاء معالم قسوته غالباً. من الحروب، فالعنصرية، إلى الظلم، ثم الأمراض التي تنتشر في كل بيت ووادٍ. الأحجية تكمن في الأشخاص الذين يحملون عنّا أوجاعنا، ويشاركونا بها. وجودهم أمل ودواء. نحن، باختيارنا، بإرادتنا نقرر من نكون؛ الظالم، أو المظلوم، الذئب الذي يريد أن يأكل ليلى، أم ليلى نفسها!
تقبلّ الآخرين معضلة رافقت المجتمعات بتطورها وتخلفها. نحن، أغلبنا، لا يستطيع تقبّل الآخر. واقع يُهمس به داخل مكنونات النفس. لا يجهر به أحد. لكنّ هذا لا ينفي أنه حقيقة. الآخر المختلف، المميز.. الآخر المريض، الجنس الآخر، العادات المتباينة، الأديان المختلفة. كائنات عانت من عدم تقبلنا لها. نحن أنفسنا عانينا، ربما، من عدم تقبلّ الآخر لاختلافاتنا البسيطة، وغير البسيطة.
هل يخاف البشر من الناس الذين لا يشبهونهم؟ هل من الممكن وجود مرض حقيقي يسمى بـ "متلازمة الاختلاف"؟ يبدو ذلكّ! يقال إن الإنسان يخاف مما لا يعرف، فيجهله، "والإنسان عدو ما يجهل". الأمراض أيضاً، الخلقية وغير الخلقية، تُواجه بعدم التقبّل غالباً، بالشفقة، والاستعلاء أحياناً، وكأن الذي أصابه مرض يصبح غريباً عنا، وأما المرض فلن يصيبنا بالضرورة.
تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي منذ يومين فيديو لطفل يدعى الياس يبلغ من العمر 17 عاماً، طُرد من طائرة الخطوط الإماراتية لأنه مصاب بمرض التوحد! الخطوط الجوية الإماراتية اعتبرت أن حالة الطفل غير مطابقه لإجراءات الصعود. الأمر الذي اضطر العائلة بأكملها إلى النزول، بعد تهديد طاقم الخطوط الإماراتية باستدعاء الأمن.
الطفل كان منزعجاً جداً، وقالت أمه إنه عضّ نفسه كما يحدث عادة عندما يريد إظهار غضبه. وبعد أن عبرت الوالدة عن غضبها على مواقع التواصل الاجتماعي، قدّمت الخطوط الإماراتية اعتذارها على هذه المعاملة، وطلبت من الأم التواصل معهم وترك بريدها الإلكتروني! طالبت والدة إلياس باعتذار حقيقي، وبالاعتراف أن ذوي الحاجات الخاصة لا ينبغي أن يعاملوا بهذا الأسلوب.
Hi Isabelle, we’re sorry to hear this. Please DM us your booking reference and email address. We’ll look into this.
— Emirates Support (@EmiratesSupport) July 25, 2018
هذا ما ظهر لنا، وبطبيعة الحال فإن ما خفي من قصص وحكايا أعظم. لا يقف الأمر عند المجتمعات والطائرات والناس فحسب، هناك عائلات لا تتقبل اختلاف أبنائها، تنكرهم، تتملص من واجبهم. من المسلّم به أن أي امرأة تحلم أن يكون طفلها أجمل وأذكى من في الكون، لكنها لا تتقبل حالته المرضية إذا كان من ذوي الاحتياجات الخاصة.
لا تستطيع بعض العائلات التعايش مع أن هناك طفلاً مريضاً، لظنهم أنه لا يمكن التباهي به. بعضهم يعتبر الأمر مخجلاً، ويخفونه كخطيئة! لطالما كان الحب الحقيقي هو الحب المطلق، بأخطائه وشوائبه، ويتجلى عندما يخالف المحبوب قائمة الشروط المنتظرة وليس الذي يطبق شروطها! سمي ذوو الاحتياجات الخاصة بهذا الاسم لأنهم يحتاجون عناية خاصة، اهتماماً فائضاً. لم يسمح لهم القدر أن يأخذوا فرصهم كما يجب، فأخذهم المجتمع إلى ما لا يجب أن يكونوا عليه!
التوحدّ أو الذاتوية (Autism) هو من الأمراض التي تحتاج عناية خاصة جداً، لأن حالة المصابين به تتعلق بنمو الأعصاب، ما يؤثر في تطور وسرعة نتائج النمو، الإصابة ناتجة عن اضطراب في الجهاز العصبي (خلل عصبي وظيفي) يؤثر على وظائف الدفاع عند الأطفال، وهو اضطراب متزامن مع الطفل من لحظة الحياة إلى وفاته، وليس له أيّ علاج. برغم كل التطور الذي وصلنا إليه في القرن الواحد والعشرين، إلا أنه لا علاج للتوحد، كما أن المصابين به يختلفون من حيث شدة الأعراض وطرق التعبير في مواقف الحياة. يصاب الطفل بالتوحد في السنين الأولى من عمره، وتظهر الأعراض بشكل واضح قبل أن يصل إلى عمر الـ 30 شهراً.
إقرأ أيضاً: التوحّد: اضطراب يرافق الطفل مدى الحياة أم أنّه قابل للعلاج؟
تباينت الدراسات في تحديد سبب الاضطراب غير أن الاتجاه السائد يميل إلى ترجيح العامل البيولوجي كعامل رئيسي فيه. الطفل المصاب بالتوحد، لديه قصور في التواصل من ناحية اللغة والتعاطي والمهارات، ولديه قصور في الانتباه والتركيز والتذكّر والإدراك وفي التفاعل الاجتماعي والانتماء، وقصور في مراعاة معايير الأمان؛ ما يعني أن الطفل المصاب بالمرض لا يمكن أن يترك وحيداً، ولا يمكن ألا يُفهم مع أنه من الصعب جداً أن يُفهم، وهنا تكمن الأحجية!
أفضل المعالجين أُمي
في مقابل العائلات التي لا تتقبل أطفالها المصابين بمرض التوحد، هناك من يقدّم الحب والاهتمام لهم، ويعطيهم الوقت والفرصة للتعبير عن وجودهم. السيدة اللبنانية فاتن مرعشلي، من النماذج التي تدرّس في علوم الحب والتضحية والأمومة. حكايتها تحولت من معاناة إلى رسالة مدوية للمجتمع، وللأهل الذين لديهم أطفال مصابون بالتوحّد أو من ذوي الاحتياجات الخاصة.
فاتن لم تستسلم لمرض ابنها، غلبتّه و"غلّبته". قدّمت لـ محمود (طفلها المصاب بالتوحد منذ عمر السنتين) كلّ أنواع العطاء الممزوج بالمعرفة. في لحظة ضعف وقوة قررت فاتن إكمال دراستها لكي تستطيع فكّ شفيرات مرض طفلها والوقوف إلى جانبه. للوهلة الأولى، عندما رأينا محمود في بيته، لم نكن لنصدق أن هذا الطفل مصاب بالتوحّد. استقبلنا. ألقى التحية علينا. عرّفنا عن نفسه وطلب منا أن نُعرف عن أنفسنا.
لطالما كان حلمٌ كل إنسان أن يرى في أولاده ما عجز عن رؤيته في نفسه، وأن يحققوا حلمه. لكن في تلك اللحظة التي يدرك فيها الأهل أن في فلذات أكبادهم عيب أو نقص تختلط عليهم المشاعر بين اليأس والخجل، لكنّ فاتن قررت عكس ذلك، قررت أن تتقبل محمود الإبن ومحمود الإنسان، وهي أجابت على سؤال الحياة الأزلي من هي الأم؟ هل هي التي تلد فحسب فتعطيها البيولوجيا وسام الأمومة أم هي فاتن؟!