ليلة إعدام آخر قياصرة روسيا
يظهر أنّ البلاشفة كانوا قد قرّروا في البداية إعدام القيصر وحده، وجرت نقاشات طويلة، ويُقال إن ليف تروتسكي (1849-1940) رغب بتقديم القيصر إلى المحاكمة، ولكن فلاديمير لينين رفض الفكرة خوفاً من التأييد والتعاطف الشعبي مع القيصر وعائلته، والبلاد في حال كرّ وفرّ. فأتى القرار بإعدام القيصر وأسرته جميعهم.
يخيّم الحزن على مدينة يكاترينبورغ الروسيّة في تموز/ يوليو من كل سنة، وكأنّ المدينة تشعر بعقدة ذنب لا فكاك منها، حيث إنّ البلاشفة قادوا إليها أسرة آخر قياصرة سلالة رومانوف نيقولاي الثاني، ليلقى مع عائلته مصيرهم المحتوم على أرضها ليلة 16 – 17 تموز/ يوليو 1918، في بيت إيباتييف.
ويذكر أبناء المدينة أنّ أجدادهم لم ينصروا قدّيسي آل رومانوف، ولم يخفّف عنهم إنشاء كنيسة ضخمة تحمل إسم "معبد على الدماء"، مكان إعدامهم سنة 2003، ليحجّ إليها المؤمنون الأرثوذكس. وحول البيت الذي كانت قد سوّته السلطات السوفياتيّة بالأرض سنة 1977، بعدما استخدمته كمتحف منذ عشرينيّات القرن العشرين، تحاك آلاف القصص، التي تنتهي دائماً بمشهد الإعدام الوحشي لأسرة آخر القياصرة.
قبل قرن من الزمن، في السابع عشر من تموز/ يوليو 1918، في يكاترينبورغ الأوراليّة (سفيردلوفسك بين العامين 1924 و1991)، أُعدمت على يد خليّة من الأمن السرّي التابع للجيش الأحمر (تشيكا) بقيادة ياركوف يورفسكي، آخر قياصرة الروس نيقولاي ألكسندروفيتش رومانوف، الملقّب بنيقولاي الثاني، مع زوجته ألكسندرا فيودوروفنا، وبناته الأميرات الأربع أولغا وتاتيانا وماريا وأنستاسيا، وابنه الوحيد وليّ عهده الأمير الأعظم ألكسي، وطبيب العائلة يفغيني سيرغييفيتش بوتكين، والطباخ إيفان ميخائلوفيتش خاريتونوف، والمدبّرة المنزليّة أنا ستيبانوفنا ديموديفا، والمساعد الشخصي للقيصر أليوزي إيغوروفيتش تروب.
بعد الإعدام، قام أفراد الخليّة بنقل الجثث إلى منجم مهجور قريب، حيث أراقوا كميّة كبيرة من البنزين عليها وأشعلوا النار بها، ثم رموا كمية كبيرة من حمض الكبريت على العظام لتختفي.
المصير المحتوم
في العام 1990، بينما كانت منظومة الدول الاشتراكيّة تتفكك شيئاً فشيئاً، والدول التي كانت منضوية تحت لواء الاتحاد السوفياتي تتّجه نحو إعلان استقلالها، عالج المخرج السينمائي السوفياتي كارين شاهنزاروف مشهد إعدام القيصر وعائلته في قبو إيباتييف بحرفيّة عالية.
كان قد مضى على إعلان البيريسترويكا (إعادة الإعمار) والغلاسنوست (حرية التعبير) نحو خمس سنوات، وكانت الكنيسة الأرثوذكسيّة تدفع باتجاه الكشف عن مصير رفات القيصر وأسرته، باعتباره وأفراد أسرته مطوّبين قدّيسين في موسكو وعموم الروسيا، حينذاك استعان شاهنزاروف بالكاتب ألكسندر ببوروديانسكي (1944-1994) لإعادة تشكيل جميع عناصر المشهد.
وعلى الرغم من أنّ فيلم "تسارأوبيتسا"، المنتج في روسيا السوفياتية والمملكة المتحدة عُرض على الشاشة الكبيرة في العام 1991، يعتبر من فئة الأفلام الغرائبيّة، والقائم على أساس توهّمات مريض نفسيّ وعلاقته بأحداث تاريخيّة، إلا أنّ مشهد الإعدام بدا وكأنّه جمع بين الروايات الأكثر قربًا إلى الشهادات.
يقال إنّ نيقولاي الثاني كان يعرف مصيره، فقد نقله البلاشفة بعد أسره وأسرته، إلى بلدة توبولسك السيبيريّة في 14 آب/ أغسطس 1917، وكانت حياة الأسرة فيها رتيبة مع تشديد الحراسة عليها.
عاش نيقولاي الثاني نحو ثمانية أشهر حياة متواضعة، عمل على حفر بئر في حديقة المنزل حيث كان في الإقامة الجبرية، واعتنى بالدواجن، وقطع الأخشاب للتدفئة في انتظار صقيع سيبيريا القاسي شتاء، وكان يعلّم ابنه المريض ألكسي، ويقضي السهرات مع عائلته.
آخر نيسان/ أبريل من العام التالي، نقل القيصر وأسرته وسط حراسة مشدّدة إلى مدينة يكاترينبورغ، حيث حلّت الأسرة في بيت إيباتييف، وتوّلت الحراسة فرقة خاصّة من الأمن السرّي.
بين نيسان/ أبريل وتموز/ يوليو 2018، كانت الثورة البلشفية الروسيّة قد تحوّلت إلى حرب أهلية ضروس، ظاهرها معارك بين الجيشين الأحمر والقيصري الأبيض، أما في الواقع فقد كانت أعمال عنف وقتل عمّت جميع أنحاء روسيا القيصرية والأراضي التابعة لها، وقيام عشرات الدويلات التي قاتلت بعضها البعض لفرض سيادتها، إلى جانب انحلال الأمن والأمان وتفشّي الجريمة على مساحات واسعة، وانتشار العصابات المسلحة... ما لن ينتهي إلا مع فرض الجيش الأحمر سلطته بعد نحو سنتين ونصف السنة منهياً الحرب الأهلية (1918-1921) التي ستودي أعمالها العسكرية وارتداداتها حتى العام 1923 بحياة نحو ثلاثة عشر مليون مدني.
ويظهر أنّ البلاشفة كانوا قد قرّروا في البداية إعدام القيصر وحده، وجرت نقاشات طويلة، ويُقال إن ليف تروتسكي (1849-1940) رغب بتقديم القيصر إلى المحاكمة، ولكن القائد فلاديمير لينين رفض الفكرة خوفاً من التأييد والتعاطف الشعبي مع القيصر وعائلته، والبلاد في حال كرّ وفرّ. فأتى القرار بإعدام القيصر وأسرته جميعهم. ويظهر أن تروتسكي لم يخضع لأمر لينين، بل كان مقتنعاً بالقرار، حيث برّر أن إعدام أسرة القيصر ليس ضروريًا لإرعاب وإرهاب العدو فحسبّ، بل أيضاً لإقناع رجالنا ألا عودة إلى الخلف، فإما النصر الكامل أو الهزيمة الكاملة. وبذلك تقرّر المصير المحتوم لأسرة القيصر، ويُقال إنّ قائد فرقة الإعدام يورفسكي، كان قد تلقّى قرار موسكو بتنفيذ العملية في 13 تموز/ يوليو، وتطلّب إعداد العدّة لها ثلاثة أيام.
صورة فوتوغرافيّة
عند الثانية من فجر 17 تموز/ يوليو 1918، أيقظ يوروفسكي القيصر وأسرته ومرافقيه، وأنزالهم إلى الطبقة الأرضية من المنزل في انتظار آليّة نقل. وبعدذاك اقتادهم إلى غرفة خالية من الأثاث في قبو المنزل، وكان نيقولاي الثاني يحمل على ذراعيه إبنه المريض ألكسي (14 عاماً) وتوجّه يورفسكي بحديثه على القيصر، شارحاً له أنه تسري شائعات حول إعدام البلاشفه له، لذلك سوف تقف الأسرة بجميع أفرادها مع المرافقين كي تؤخذ لها صورة فوتوغرافيّة تدحض الشائعات.
حينذاك اعترضت زوجة القيصر ألكسندرا فيودوروفنا على عدم وجود كراس في الغرفة، فأتى الجنود بكرسيّين حيث أجلس نيقولاي الثاني إبنه ألكسي على أحدهما.
ووفق إحدى الروايات، أمر يوروفسكي بلطف واحترام كلَّ واحد من أعضاء الأسرة بالوقوف في وضعية ملائمة للصورة، وأن يتقدّم القيصر خطوتين إلى الأمام، قبل أن يتلو البرقية المرسلة إليه من موسكو ويصدر أمره إلى فرقة الإعدام.
انتفض القيصر محتجّاً، وصاح في وجه يوروفسكي "ماذا؟ ماذا؟"، لكن إطلاق النار كان قد بدأ، وكان هو أول من عاجلته طلقة في رأسه، وتكفّلت بقية الطلقات بإصابة بناته الأميرات وزوجته وإبنه ألكسي والطبيب والطّباخ والمدبرة المنزلية والمرافق الشخصي.
ويظهر أن الوابل الأول من الطلقات لم يكن كافياً لقتل الأميرات، وقيل إنّ لطريقة حياكة القسم العلوي ذي الطبقتين من فساتينهّن، حيث كانت الرصاصات تجرحهن ولا تصيب فيهن مقتلاً، إلا أنّهن كنّ متجمّدات من الرعب، فكان على فرقة الإعدام أن تقتلهنّ واحدة تلو أخرى، بالإضافة إلى ألكسي الذي كان يئن جريحاً على الأرض.
بعدذاك، قيل إنّ الجنود جرّدوا الجثث من ملابسها ومثّلوا بها وقطّعوها قبل إحراقها، وقيل إنّ إحدى بنات القيصر (ماريا أو أناستاسيا) نجت من المجزرة، وحيكت أساطير كثيرة... (كشفت السجلات السوفياتيّة سنة 1992، أنّ أحداً لم ينج من الإعدام). وقد انتشرت الأخبار في جميع أنحاء روسيا حول المجزرة، وفتح ذلك الباب أمام إعدامات فرديّة لأفراد سلالة رومانوف وأقربائهم ممّن لم يفرّوا بحياتهم إلى خارج البلاد.
معبدٌ على الدم
قبل نحو عشر سنوات، وبعد إجراء فحوصات الحمض النووي على عدد من الرفات التي عثر عليها في يكاترينبورغ، وتثبّت الخبراء أنّها تعود إلى القيصر وأفراد أسرته، حملت إلى مسقط رؤوسهم في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ، ودفنت بعد إقامة المراسم الدينيّة والرسميّة.
أما في المكان الذي جرت فيه عملية الإعدام الجماعيّة، فقد افتتحت كنيسة كبيرة في العام 2003، بعد ثلاث سنوات من أعمال البناء، سمّيت "معبد على الدم"، أما الإسم الديني لها فهو بعنوان "المعبد الكنسي التذكاري المقام على الدم، تكريماً لجميع قدّيسي الأرض الروسيّة الأرثوذكسيّة"، وقد باتت منطقة جذب سياحيّة دينيّة يقصدها المؤمنون الأرثوذكس من شتّى أنحاء الروسيا، ويقيمون مراسم خاصّة تتضمّن مسيرات نحوها ليلة السابع عشر من تموز/ يوليو من كل سنة.
وقد انتصب أمامها تمثال ضخم يجسّد الأسرة، أما داخلها فيحتوي على جداريات تمثل إحداها عملية الإعدام، حيث يظهر الجنود البلاشفة وهم يطلقون النار على الأسرة القيصرية، التي تحيط برؤوس أفرادها هالات القداسة. وتظهر في أيقوناتها الأسرة بين جموع القديسين المطوّبين في الكنيسة المسكوبية الأرثوذكسيّة.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]