إبتكار إنساني ذكي ... كيف نقهر قهرنا بالنكتة ونكشف عن مكبوتاتنا؟

ما يُميّز النكتة عن الحكايات الطريفة، هو معناها ورمزيّتها شديدة الكثافة، وقدرتها على النفاذ إلى الأفئدة. النكتة ابتكار بشري ذكّي يُشكّل مُحفّزاً قوياً للضحك رغم مظهرها البسيط، ووسيلة تعبير قوية تتضمّن الآراء والمواقف البشرية كافة. إذ لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر.

إبتكار إنساني ذكي ... كيف نقهر القهر بالنكتة ونكشف عن مكبوتاتنا؟

مجموعة من كلماتٍ مُتسلسلة لا تتجاوز الجملة الواحدة، تعتمد على حبكة قصصية بين المنطق واللامنطق. تحمل فكرة عميقة تؤدّي دورها في المعنى ويُصاحبها شعور بالمتعة والضحك. هي "النكتة" المُراد منها ما هو لطيف ومؤثّر بالنفس البشرية.

تحتل النكتة أهمية كبيرة في المجتمعات ومنها المجتمع العربي، واعتبرت مظهراً من مظاهر الأدب الشعبي وأحد الفنون الجمالية وأقوى سلاح للأغلبية المُستضعَفة بوجهِ الظلم والاستبداد والقهر والتفاوت الطبقي والقمع والعنف ومُصادرة الحريات والتضييق على الرأي. لكن كيف تُعرّف النكتة؟ وما هو تأثيرها النفسي؟ هل هي إيجابية أم سلبية؟ ولماذا اختلفت في المضمون بين الماضي والحاضر؟

النكتة في الأدب

انتشر حسّ الفُكاهة في الثقافات القديمة في كلماتٍ سهلةِ التركيب سلسة التعبير، تأتي في صيغة ساخِرة بنصّ إبداعي سردي، ليكون أدباً وفناً، له سادة بمَلَكات، جُلُّها، فطرية، غالبيتهم مجهولون للعيان.

وعُرِفَت في الأدب العربي شخصية "جحا" المذكورة في فهرست إبن النديم ( المؤلَّف في 377هـ)، والمنسوبة إلى أبي الغصن دُجين الفزاري الذي عاصرَ الدولة الأموية. وهو أقدم شخصيات جحا العربي وإليه تُنسَب النكات العربية.

وجحا شخصية رجل فقير كان يعيش أحداث عصره بطريقةٍ مختلفةٍ، فهو يتصرّف بذكاءٍ كوميدي ساخِر يتعامل من خلاله مع الناس وحياته اليومية. ومن نوادره أنه ذات يوم كان راكباً حماره حينما مرّ بقومٍ وأراد أحدهم أن يمزح معه فقال له: "يا جحا، لقد عرفت حمارك ولم أعرفك"، فقال جحا: "هذا طبيعي، لأن الحمير تعرف بعضها!".

ومن الجميل أن كل الشعوب والأمم صمّمت لها (جحا) خاصاً بها بما يتـلاءم مع طبيعة ظروف الحياة الاجتماعية، ومنهم ناصر الدين خوجه الرومي في تركيا، وملا نصر الدين في إيران، وغابروفو بلغاريا المحبوب، وأرتين أرمينيا صاحب اللسان السليط، وآرو يوغسلافيا المغفّل، وجوخا في إيطاليا ومالطا.

ومن جحا إلى روما، عثرنا على أقدم كتاب عن النكتة باللغة الإغريقية يعود إلى القرن الرابع أو الخامس الميلادي ويشتمل على 264 نكتة بعنوان (الحبيب الضاحِك - Philogelos)، وينسب إلى الفيلسوف هيروكليس والسياسي فيلاغروس، أتت طبيعة النكات في هذا الكتاب مُختصرة ومركّزة مثل: سأل حلاّق أجيراً: كيف تريدني أن أقصّ شعرك؟ فأجاب الأجير: في صمت!.

وجدير بالذكر أن هذه النكتة تُعدّ من ضمن أقدم عشر نكات مُدوَّنة في التاريخ منها سومرية وفرعونية.

النكتة في عِلم النفس: قهر القهر

إبتكار إنساني ذكي ... كيف نقهر القهر بالنكتة ونكشف عن مكبوتاتنا؟

ما يُميّز النكتة عن الحكايات الطريفة، هو معناها ورمزيّتها شديدة الكثافة، وقدرتها على النفاذ إلى الأفئدة. النكتة ابتكار بشري ذكّي يُشكّل مُحفّزاً قوياً للضحك رغم مظهرها البسيط، ووسيلة تعبير قوية تتضمّن الآراء والمواقف البشرية كافة. فالنكتة في شكلها الكلاسيكي مُختصَرة جداً على غرار: "كنت قبيحاً جداً حينما ولدت، لدرجةٍ أن الطبيب صفع أمّي".

الفيلسوف الفرنسي الحائِز على نوبل للآداب هنري برجسون (1859 - 1941)، عرّف النكتة بقوله: "لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر، وهتاف الصامتين، إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه".

في حين أسهب العالِم النفسي النمساوي سيغموند فرويد (1856- 1939) في كتابه (النكتة وعلاقتها باللاوعي - Wit and Its Relation to the Unconscious ) بالحديث عن أنواع النكت، وأثرها العميق وقدرتها على كشف الأفكار الحقيقية للإنسان، فهو يرى أن الإشارات التي تثيرها النكتة، تفتح الأبواب أمام الطاقة الكامِنة، التي تنتج بسبب الكبت وتراكم المشاعر السلبية، وتسمح لها بالانطلاق والتحرّر، ومن ثم الضحك بلا توقّف.

واعتبرت النكتة وسخرية الإنسان - في عِلم النفس - من حاله الذي يراه مزرياً، نوعاً من آليات الدفاع النفسي وطريقة للتأقلم والحماية من الوقوع في فخّ الاكتئاب العميق.

تأثير إيجابي

جحا على غلاف مجلة ملا ناصرالدين - 1910

سمعت آخر نكتة؟ عبارة تستنفر الشعور وتبعث على الاستعداد للدهشة. ترسم البسمة على الشفاه حتى قبل معرفة الفحوى. هي المُتنفّس والمرآة لكلِ ما هو مُبكي، فـ"شر البليّة ما يُضحِك". هكذا تعلّمنا.

للنكتة والسخرية تأثير إيجابي على الوظائف العاطفية والفكرية للإنسان، وعلى جوّ العمل، وتزيد من إنتاجية الموظّفين واستيعاب الطلاّب إذا تم توظيفها في الأُطر التعليمية.

كما تدعم النكتة الإنسان في تجاوز مخاوفه والتغلّب عليها، وتعمل على تقوية التعاون الاجتماعي على الصبر والتحمّل، وتنشيط الإبداع والخيال، للتعالي عن الواقع الذي يتأرجح بين الرمادي والأسود، وتتحقّق فيها المطالب بعيداً من عالم الواقع الدنيء الملوّث بما هو مُبتَذل.

النكتة .. عرفناها جميلة!

كاريكاتور لناجي العلي

بالحقيقة لكل جيل حياة تكاد تختلف بالنسبة للجيل الآخر، على الرغم من تكرار الخط الزمني للأحداث، ولا يمكن حصر الاختلافات إلا في إطار طُرق التعبير القائمة على المبادىء السامية وجماليّة الإنسان.

 

ومن هنا عرفنا النكتة بشكلٍ جميلٍ خلال الجلسات العائلية، المقاهي، على خشبات المسرح، وبين أزقّة المحلات الشعبية والفقيرة. للمعنى فيها طعم ونكهة، يتّجه لأن يكون البوصلة نحو تصحيح وعي الجماهير الغائب والمُنحرِف.

وعلى سبيلِ الأمثلةِ التي لا تُحصى، ها هي تنادينا إلى (الكرامة)، على لسان "غوّار" الشخصية التي عُرِفَ بها الفنان السوري القدير دريد لحام (1934)، من خلال مسلسل "غوّار الطوشة" (1969)، تلك الشخصية التي لامست المواطن السوري العادي والمُكافِح من أجل لقمة عيشه، ويتحدّث عما يُصادفه من مشاكل في حياته في إطارِ شخصيةٍ ساخِرةٍ ومُتصرّفة، لامست وجع السوريين، ووقفت إلى جانب الوطن على مدار سنوات طويلة.

وها هيّ النكتة تنادينا إلى الحياة البغدادية القديمة، على لسان الحلاق حجي راضي في شخصية أداها وقدم لها الفنان الكبير سليم البصري (1926 – 1997 )، في مسلسل "تحت موس الحلاق" (1961) علالمة الفارقة والأشهر في العراق على الاطلاق، الشخصية التي أظهرت التحديات بين الطبقة الوسطى المتعلمة و الطبقة العاملة، مَرَّة بين الأستاذ والتلميذ، و مَرَّة بين الطبيب و المريض .. إلخ.

 

وبهذا الصَدَد يقول رسّام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي: "مَن يُريد النكتة في العالم العربي فعليه ألا ينظر إلى الكاريكاتير، بل إلى الواقع السياسي".

أين هتاف الصامتين؟

كاريكاتور لناجي العلي

مع آلة الحروب والدماء الباردة وغفوة الضمير والعقل المُغيّب تجاه قضايا الإنسان المصيرية، بدأ استخدام النكتة كسلاحٍ خطيرٍ في صوَرٍ ذهنيةٍ سلبية، تُعمّق الخلافات على أساس عِرقي وديني ومناطقي، يتم إسقاطها في الأوساط الشعبية وبين الجماهير الناقِمة على تردّي الأوضاع.

ويحمل هذا النوع من النكتة في طيّاته درجة كبيرة من الابتذال والإسفاف والانحطاط، في سكب الزيت على النار، تارة تهين كرامة المرأة في جعلها سلعة رخيصة للبيع، وتارة أخرى تنفرد كلماتها بما يُسمّى (+18) بهدف تدنيس الهوية وتلويث مفاهيم الحرية والإنسانية، بالإضافة إلى افتعال حروب بين جنسيّ الرجل والمرأة وتحطيم أدوراهما في المجتمع، وكل ذلك من دون أي نقد أو تفكير أو تمحيص.

وانتشر هذا النوع من النكتة في العديد من المحطّات الفضائية، والبرامج الفُكاهية سواء العربية والأجنبية، تحت ذريعة التعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي، كموجةٍ مُتصاعِدةٍ ساعدت في انتشارها التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى لتراها أكثر مُشاهَدة من البرامج الهادِفة والواعية.

وعلى ما يبدو إن اختلاف النكت بين الماضي والحاضر، أخذ شكلاً جديداً يتغذّى من اليأس، وضعف الوعي والثقافات الدخيلة على المجتمعات، ومثال ذلك ثمة نكتة عربية تحكي عن زعيمٍ عربي رسم (وشماً) على ذراعه يصوّر خريطة فلسطين المُحتلة، وعندما سُئِلَ عن السبب قال: حتى لا أنساها. فسألوه: وماذا تفعل لو تحرّرت فلسطين وهذا الوشم لا يُمحى؟ فأجاب : أقطع ذراعي!.

وفي المفارقة نجد بعض الشعوب العربية وغير العربية تُنكّل بنفسها وتشوّه صورة الآخر من خلال هذه النكت، في العراق تتجه بوصلتها نحو الكرد ومن ثم المناطق الغربية لتستقرّ في الجنوب وفقاً لسياسة العداء، وفي مصر تتّجه نحو "الصعايدة"، وفي سوريا لدى "الحماصنة" أنفسهم .. إلخ.

وتبقى الأسئلة .. أين تلك التجربة الجمالية في النكتة القائمة على أركان الفلسفة التقليدية الحقيقة والجمال والخير؟ أين تلك المتعة العقلية المائِلة إلى السلام والنُضج والسَماحة؟ أين هُتاف الصامتين؟

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]