نعم ... إنها دمشق!
الأماكن ذات الجذور الحيّة تبقى نابِضة بالحياة، ليس لأنها مادّة هندسية مُغلَقة على نفسها، بل لأنها مكمَن الخيال الطفولي الذي يجتاحنا كلما واجهتنا عناصره أو علاماته كما يحدث في الشعر والفن. الألفة الساحرة للشعور بالأمان على حدّ تعبير باشلار، وهو ما يجعل دمشق مكاناً استثنائياً للبقاء داخل أرواحنا المُشبَعة بالحنين إلى الماضي الطفولي لمجتمعاتنا الشرقية.
في قلب دمشق التي رأيتها في المرة الأخيرة، كانت الحرب قد ولّتْ، وها هي الحياة تعود إلى شوارعها. كنت حريصاً على مُشاهدة كل شيء مثل طفل يتشدّق بعباءة أمّه، داخلاً من بوابة دمشق القديمة عبر طريق مرّ به خالد بن الوليد قبل قرون. الأبنية ما تزال راسِخة مثل صخورها راسِمة ملامح التاريخ والحياة، وعلى جنبات شوارعها تتطاول بعض الأشجار الخضر لتغطي حواف نوافذ البيوت والمحال بلون بنفجسي رائق تتداخل فيه أقراص الشمس الصافية.
ما زالت الأسماء كما هي لم تتغيّر كما تغيّرت في العراق، حيث مررنا على الكنيسة المريمية ومدحت باشا والبزورية والجامع الأموي وقصر جلال العظم والمسكية والقباقبية ومقهى النوفرة، التي ما زال يشيع بها طقس الحكايات القديمة كل يوم بعد صلاة المغرب، حيث يأتي الحكواتي ليحكي أقصوصة عن أيام زمان، وحتى باب توما التي تحمل تاريخ المسيحية في المنطقة وتجلّيات هذا السحر العُمراني الخالد.
التداخُل العميق لمعنى التعايُش والتفاعُل بين الثقافات في الشرق يتجلّى في أصفى مكان شهدته حتى الآن في الشام القديمة، وفي دمشق وهي ترمي لنا بين الحين والآخر فصوص حكمتها المُتعالية على هذا الجيل الذي لم ير من حياته غير الحروب، ولكن في ذات الوقت شهدت حب الناس للحياة والعمل من دون تذمّر أو كسل. الحياة تمرّ يا صديقي من هنا كل يوم، هذا ما قاله لي الشاعر زيد قطريب. نعم إنها دمشق. في ذلك المساء قرأنا القصائد وشربنا نخب الأحلام القادمة.
كان لحضور الشاعرة بسمة شيخو أثراً في استمرار بحثي عن الأماكن والناس، وكانت عيناها تقودني إلى بصيصٍ عميقٍ في قلب دمشق، لكنه نابض بسحر غابة من الشعر والجمال، فلم تأْلُ جهداً في ترتيب الكثير من لقاءاتي بالفنانين التشكيليين في دمشق مع الفنان عمران يونس وهما يعرفاننا بالمشهد التشكيلي وأبرز الفنانين. وكانت البداية مع عبد الله مراد بشخصيّته الهادئة مُتحدّثاً عن مسيرته الطويلة في مجال الرسم والتعريف بتفاصيل أعماله وعرضها بمحبةٍ كاملة. في ذلك الحين كان قد تردّد إسم نوال السعدون فاتصل بها لأنها قد زارت دمشق لتصفية بعض الأمور العالِقة، وقد كان لقاء حميماً مع فنانة عراقية مُغتربة صنعت إسمها في ظلِّ زمنٍ حَرِج وصعب، وسافرت كثيراً بحثاً عن الحرية والفن والحياة المُتقلّبة مع كبار الفنانين والشعراء.
وها هي اليوم تحطّ على أرضِ دمشق لتقول لنا ملامح وجهها (لقد أنهكتني الحياة) وبين ذكريات وأسماء كثيرة تبقى نوال السعدون مثارَ جدلٍ بيننا لا يُنسى أبداً. كانت الخطوة الأخرى إلى أدوارد شهدا، ذلك الفنان الذي قدّم لنا مشهد الحرب في أعمالٍ وقفنا أمامها باحترام كبير، يجمع التجريب بالتشويه والرّمز ويعرف كيف يُدير سطح العمل الفني بحرفيّة الأستاذ.
في المشغل الكبير للنحّات مصطفى علي كان الحديد واسلاك اللِحام وقوالب مختلفة الأحجام تنتصب من أجل عمل جديد، وفي المقابل كان هناك معرض ومكان لعرض أعماله الكثيرة. وفي هذا المكان تُقام بعض الجلسات الفنية والأدبية والمحاوِر الاجتماعية وحتى التسويق لأعماله، كان الفنان مشغولاً بتوجيهِ العاملين ونحن مشغولون برؤيةِ الأعمال المُختلفة لمُنجزاته الفنية، وهذا ما جعلني أتساءل مع محمّد عبد الوصي وسلام سبتي عن قوّة الحياة التي يملكونها رغم أهوال الحرب التي انتهت قريباً.
في المسير إلى إستوديو غسان نعنع تحدّث لنا عمران يونس عن مشروع تحويل الأماكن القديمة إلى مراسِم للفنانين وجعله حيّاً للفنون بكل تنوّعاته، وفي باحة دار غسان شاهدنا لوحاته ذات الأسلوب الكلاسيكي موشّحة بمُخملٍ من الإضاءة الخافِتة. طريقته في التعامُل مع الألوان والشخوص تصلك مباشرة بإحساسٍ دافئ يشبه مناخ دمشق وبرودة أشجارها الوارفة، مساحات الضوء الخفيفة والمُسلّطة على الأشكال تكاد تكون شاحِبة من فَرْطِ رقّتها، إنها تشبهه تماماً.
المسير في أزقّة الشام يجلب الحظّ. هكذا وجدت نفسي محظوظاً أمام باب الفنان يوسف عبد لكي، وهو يستقبلنا للدخول إلى مرسمه المُرتّب والمُنظّم تماماً. على اليسار طاولة تحتشد عليها أدوات الرسم والتخطيط بمُحاذاة نافذة، وعلى الحائط لوحة لسمكة مُثبتة بمسمارٍ على أرضيّةٍ رماديةٍ بالأسود والأبيض، ولك أن تتصوّر مدى الأثر الذي تتركه فيك كل أعماله التخطيطية التي شاهدتها، وهو يتحدّث عن بعض ذكرياته ومُشاكساته القديمة يوم كانت دمشق قُبلة الثقافة والفنون بلا مُنازِع. عبدلكي صانِع ماهر لفنٍ راسِخٍ في الذاكرةِ الحيّة لحياةِ دمشق وتاريخها الحافِل بالمُنجزات.
إلى هذا الحد كنت مفتوناً بتنوّع التجارب وكأنني أكلت حتى التُخمة، حتى أشار إليّ صديقي جابر حجاب ألا بد من سبهان آدم، لكنه اليوم الأخير، وليس لي سوى بسمة شيخو. فقد أصبحت بوابة دمشق وعينيها الساحرتين. ومنها إلى فندق الشام الفخم الذي يسكنه في ذلك الوقت، وقد توسّدنا أرائك من عبَق التراث مُرصّعة بالنقوش، لأتعرّف على الشاعر سامر محمّد إسماعيل وسبهان آدم وقضايا تجربته الجديدة في مجال تداخُل الأجناس الفنية في العرض، حيث يشترك الغناء والموسيقى والرقص والأداء الحَرَكي مع عرض أعماله على شاشة كبيرة في المسرح وبتقنيات ودبلجة حرفيّة عالية. كانت قد أدهشتني أكثر حين عرفت أنه قدّمها في صالاتِ عرض خاصة في دمشق قبل أيام. سبهان آدم لا يترك دمشق، مُنغمس في مكانه الداخلي حتى لم يعد قادراً على حضور عروضه الكثيرة من دون أن يفتتحها أو إنه يرجع إليها فور انتهاء الافتتاح.
الأماكن ذات الجذور الحيّة تبقى نابِضة بالحياة، ليس لأنها مادّة هندسية مُغلَقة على نفسها، بل لأنها مكمَن الخيال الطفولي الذي يجتاحنا كلما واجهتنا عناصره أو علاماته كما يحدث في الشعر والفن. الألفة الساحرة للشعور بالأمان على حدّ تعبير باشلار، وهو ما يجعل دمشق مكاناً استثنائياً للبقاء داخل أرواحنا المُشبَعة بالحنين إلى الماضي الطفولي لمجتمعاتنا الشرقية. عند ذلك فقط. سيكون من المُمتع أن أقول إن الحرب مُجرّد فارِزة يمكن تجاوزها.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]