ثيودوراكيس: صرخة مُمَوْسَقَةٌ في وجه كل طغيان
اعتُقل وعُذّب ونُفي. وصف "إسرائيل" بأصل الشرّ، وميركل ووزير ماليتها بــ "الضواري".. كيف صار ميكيس ثيودوراكيس رمزاً لمقاومة الاستبداد؟
ميكيس ثيودوراكيس (1925 – 2021) المتوفي أمس الخميس في أثينا من مواليد 29 تموز/يوليو في جزيرة كِيُّوسْ الواقعة على ضفاف إيجة، بدأ مؤلِّفاً موسيقياً في سن الـ 13، والتحق بأنصار مقاومة النازية صغيراً، انتسبَ للحزب الشيوعي خلال الحرب الأهلية [1946-1949]، مما جعل الحكومة اليمينية تُرَحِّلُهُ إلى جزيرة - معتقَل مَاكْرُونِيسُوسْ، حيث خضع للتعذيب الممنهَج.
بعد إطلاق سراحه، انتقل للدراسة بالمعهد الموسيقي بباريس. وعند عودته، انتسب لــ "اتحاد اليسار الديمقراطي"، بقيادة لامبراكيس، الذي تم اغتياله في تشرين الثاني/نوفبمر عام 1963 في تسالونيكا من طرف اليمين المتطرف بتواطؤ مع أجهزة الدولة. سيخرِج كوستا غافراس قصة هذا الاغتيال السياسي في شكل فيلم، بعنوان: "إِنَّهُ حَيٌّ Z“ [1969]، أَلَّفَ ثيودوراكيس موسيقاه التصويرية.
في العام 1964، سيتم انتخاب ثيودوراكيس برلمانياً عن منطقة ميناء أثينا، ليُعْتَقَلَ عَقِبَ انقلاب 1967. حصل، سنة بعد ذلك، على عفو لم يطلبه، لِيُنَظِّمَ خلايا حزبية سرية، سيتم كشف بعضها، لتُفْرَضَ عليه الإقامة الجبرية في بيته.
ستتنامى شعبية ثيودوراكيس مع محاولة طغمةِ العقداء إسكاته بالزج به ثانية في السجن ومنع رواج أعماله. وإذ صارَ رمزاً لمقاومة الاستبداد، وبضغط من تكتلات الفنانين والأدباء دولياً، اضطرت الحكومة العسكرية إلى السماح له بالمغادرة نحو باريس.
بسقوط ديكتاتورية العقداء في 1974، يعود إلى أثينا يوم 24 تموز/يوليو، في استقبال ضخم بالمطار، حُمِلَ فيه على الأكتاف مع التهليل باسمه.
من مقطوعة زوربا إلى الأناشيد الملحمية المَديدة
إنْ صار ثيودوراكيس ذائع الصيت في العالم قاطبة، فبفضل مقطوعة "زوربا اليوناني" في فيلم بنفس العنوان [إخراج مايكل كوكويانيس، 1964]، مقتبَس عن رواية نيكوس كازانتزاكيس: "ألكسيس زوربا" [1946]. (في الفيديو أعلاه: ثيودوراكيس وأنطوني كوين يؤديان مقطوعة/رقصة زوربا في حفل ميونيخ، 1995).
ولكن ثيودوراكيس أَلَّفَ أعمالاً وتوزيعات كثيرة جعلت منه ذاكرةً موسيقية للشعب اليوناني، وبجميع الأشكال الفنية الممكنة: سيمفونيات، أناشيد، أوبِّرات، قالَب الربيتيكو ذو الأصول الإزميرية الذي صار يسمى بعبارة استعارية: البلوز الإغريقي، مع إدخال آلات شرقية على مجموعة العزف كالبزق، مستلهماً - وفق ميولاته اليسارية [الشيوعية] التي لم تفتر يوما ً- التراث الشعبي الموسيقي اليوناني، معيداً الاعتبار للتقاليد الكلاسيكية وللشعر أيضاً، عبر توزيع مُطَوَّلَةِ الشاعر اليوناني أوْدِيسْيُوسْ إِلِيتِيسْ [1911-1966]: "لَهُ الْحَمْدُ" [التأليف الشعري: 1959، التأليف الموسيقي: 1964]، والمطولة الملحمية للشاعر التشيلي بابلو نيرودا [1904-1973]: "النشيد العام" [التأليف الشعري: 1938-1950، التأليف الموسيقي: 1974]. (الفيديو أدناه: ثيودوراكيس يقود أوركسترا عزف ”لَهُ الْحَمْدُ“ في حفل أثينا، 1977).
في تقريع مجرمي السياسة الدولية
خلال الأزمة الاقتصادية الخانقة عام 2010، انبرى ثيودوراكيس منتقداً سياسة الوصاية ودفع الحكومة اليونانية نحو برامج تقشفية من طرف "صندوق النقد الدولي" و"الاتحاد الأوروبي"، وخلال مشاركته في تظاهرة عارمة للتنديد بهذه السياسات في شباط/فبراير 2012، لم تحجِم قوات القمع على استهدافه ضمنَها بالقنابل المسيلة للدموع.
هكذا وصلت ذروة لهجته الحادة بتصريحه للصحافة في آذار/مارس عام 2017: "ليعلم من يعاملون الشعبَ كمزبلة، أن هذه المزبلة قد تصير ديناميتاً"، من دون أن يفوته وصف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ووزيرها في المالية بــ "الضواري".
نصيرٌ للفلسطينيين
في مواقفه عربياً، أثار اعتبار ثيودوراكيس لــ "إسرائيل أصلاً للشر"، في 2003، موجة من الانتقادات في الصحافة الغربية، وصلت حدَّ اتهامه بمعاداة السامية، في خلط مُغْرِضٍ، تقتات عليه الإيديولوجيات الكولونيالية، بين اليهودية والصهيونية. ينبغي الإشارة هنا إلى أن وزارة الثقافة الفلسطينية من أول المعزِّينَ به رسمياً، عرفاناً له على مواقفه السياسية التي كانت دوماً مناصرة لكفاحات الشعب الفلسطيني، وخصوصاً عرفاناً لاشتغاله الفني على التوزيع الموسيقي للنشيد الوطني الفلسطيني.
شَكَّلَ ثيودوراكيس مع الشاعر يانيس ريتسوس [1909-1990] ثنائياً فنياً وسياسياً، ناهضَ كل أنواع الاستبداد، من طغمة العُقَداء حتى تواطؤات الديمقراطيين الاجتماعيين، بقيادة باباندريوس والحزب الاشتراكي [ديمقراطي-اجتماعي]، مع الفاشية تارة ومع الغرب الاستعماري طوراً. ومن مأثور طرائفه في شأن التمرد على أعداء الحرية قوله: "بسبب ضخامة قامتي، لم أستطع يوماً الانحناء".
لتقريب القارئ العربي من موسيقى ثيودوراكيس وأجوائها الشعرية، اخترنا تذييل هذه المادة بترجمة للأنشودات العشر الأولى من ديوان يَانِيسْ رِيتْسُوسْ: "18 أُنْشُودَةً لِلْوَطَنِ الْمُرِّ" [1968-1973]، الذي وزَّعه ثيودوراكيس موسيقياً، في تحية من الشاعر والموسيقار للثقافة الشعبية الإغريقية ولنضالات الشعب اليوناني في وجه الطغمة العسكرية الحاكمة ساعتئذ. (في الفيديو أدناه: الألبوم الكامل لِـ "18 أُنْشُودَةً لِلْوَطَنِ الْمُرِّ").
إِضَاءَةٌ
كُتِبَتْ 16، مِنَ الْـ 18 أُنْشُودَةً لِلْوَطَنِ الْمُرِّ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ — 16 أَيْلُولْ 1968 — بِپاَرْثِنِي، فِي جَزِيرَةِ لِيرُوسْ، إِثْرَ رِسَالَةٍ لِمِيكِيسْ ثْيُودُورَاكِيسْ، بَلَّغَنِي إِيَّاهَا سِرًّا، يَطْلُبُ مِنِّي فِيهَا أَنْ أُوْصِلَ إِلَيْهِ نَصًّا غَيْرَ مَنْشُورٍ لِيُؤَلِّفَ عَلَيْهِ مُوسِيقِيًّا. اِشْتَغَلْتُ مِنْ جَدِيدٍ عَلَى هَذِهِ الْأُنْشُودَاتِ الصَّغِيرَةِ بِكَارْلُوڤَاسِّي، فِي جَزِيرَةِ سَامُوسْ، خِلَالَ تِشْرِينْ الثَّانِي 1969. كُتِبَتْ الْأُنْشُودَتَانِ 16 و17 فِي الْفَاتِحِ مِنْ أَيَّارْ 1970. تَمَّ تَعْدِيلُ الْأُنْشُودَةِ 7 بِشَكْلٍ جِذْرِيٍّ فِي كَانُونْ الثَّانِي 1973، بِأَثِينَا. لَمْ تَكُنْ لِي نِيَّةُ الدَّفْعِ بِالْـ 18 أُنْشُودَةً لِلْوَطَنِ الْمُرِّ لِلنَّشْرِ، وَكْنُتْ طَلَبْتُ أَلَّا تُطْبَعَ وَلَا تُتَرْجَمَ، أَنْ تُنْشَدَ فَقَطْ. وَلَكِنْ، هَا إِنَّ غَالِبِيَّتَهَا قَدْ نُشِرَتْ فِي مَجَلَّاتٍ عَدِيدَةٍ مِنْ بَلَدِنَا وَبِالْخَارِجِ، كَمَا تُرْجِمَتْ إِلَى لُغَاتٍ عِدَّةٍ. لَمْ يَعُدْ ثَمَّةَ إِذَنْ مِنْ سَبَبٍ لِتَمَسُّكِي بِقَرَارِي الْأَوَّلِ. الْـ 18 أُنْشُودَةً لِلْوَطَنِ الْمُرِّ مُهْدَاةٌ لِمِيكِيسْ ثْيُودُورَاكِيسْ. [يانيس ريتسوس]
1. تَعْمِيدٌ ثَانٍ
كَلِمَاتٌ مِسْكِينَةٌ عُمِّدَتْ فِي الدَّمْعُ وَالْمَرَارَةِ، أَفْرَدَتْ أَجْنِحَتَهَا وَطَارَتْ — هِيَ أَطْيَارٌ تُزَقْزِقُ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي نُخَبِّئُهَا — كَلِمَةُ الْحُرِّيَّةِ، بَدَلَ إِفْرَادِ الْأَجْنِحَةِ، تَحْمِلُ سِلَاحًا وَتُمَزِّقُ الْأَجْوَاءَ.
2. ثَرْثَرَةٌ مَعَ زَهْرَةٍ
أَيْ بَخُورَ مَرْيَمَ، أَيْ مَرْيَمَتِي، مِنْ أَيْنَ لَكَ الْأَلْوَانُ لِكَيْ تُزْهِريَ فِي تَجْوِيفَةِ صَخْرَةٍ؟ مِنْ أَيْنَ لَكَ السَّاقُ كَيْ تَتَمَايَلِي؟ جَمَعْتُ، فِي الصَّخْرَةِ، الدَّمَ قَطْرَةً قَطْرَةً. نَسَجْتُ مِنْهُ مِنْدِيلًا قِرْمِزًا، وَهَا أَنَا الْآنَ أَجْتَنِي بَعْضَ شَمْسٍ.
3. اِنْتِظَارٌ مَشْبُوبٌ
هَكَذَا إِذَنْ، مَعَ الْانْتِظَارِ الْمَشْبُوبِ، صَارَتِ اللَّيَالِي، حَيْثُ تَتَجَذَّرُ الْأُغْنِيَةُ وَتَتَسَامَقُ كَشَجَرَةٍ، مُطَوَّلَةً. وَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ فِي الْأَغْلَالِ، أُوْلَئِكَ الْمُبْعَدُونَ عَنِ الْوَطَنِ، يُطْلِقُونَ زَفْرَةً مُرَّةً لِتَتَفَتَّحَ وَرَقَةُ حُورٍ.
4. شَعْبٌ
شَعْبٌ صَغِيرٌ يُقَاتِلُ بِلَا سُيُوفٍ وَلَا رَصَاصَاتٍ مِنْ أَجْلِ خُبْزِ الْجَمِيعِ، مِنْ أَجْلِ الضِّيَاءِ وَالنَّشِيدِ، يَحْتَفِظُ فِي حَنْجَرَتِهِ بِصَرَخَاتِ فَرَحِهِ وَأَلَمِهِ، وَإِنْ حَاوَلَ الْبَوْحَ بِهَا انْفَلَقَ الْحَجَرُ.
5. قُدَّاسٌ لِلْمَوْتَى
اَلْجَدَّةُ، فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْقَاعَةِ. فِي الرُّكْنِ الْآخَرِ، أَحْفَادٌ عَشَرَةٌ. وَعَلَى الْمَائِدَةِ تِسْعُ شُمُوعٍ مَغْرُوسَةٌ فِي إِكْلِيلِ الْخُبْزِ. الْأُمَّهَاتُ يَنْتُفْنُ شَعْرَهُنَّ وَالْأَطْفَالُ يَبْقَوْنَ صَامِتِينَ. وَالْحُرِّيَّةُ، مِنَ الْكُوَّةِ، تَرْقُبُ وَتَتَنَهَّدُ.
6. فَجْرٌ
لَأْلَاءٌ وَبَهِيٌّ، أَيْ هَذَا الْفَجْرُ الرَّبِيعِيُّ الصَّغِيرُ، مِنْ أَيْنَ لَنَا الْعُيُونُ لِتَنْظُرُ إِلَيْكَ، لِتُرَحِّبُ بِكَ؟ فَحْمَتَانِ فِي الْمِبْخَرَةِ وَحَبَّتَا بَخُورٍ، مَعَ صَلِيبٍ مِنْ سَخَامٍ عَلَى أعْلَى بَابِ الْوَطَنِ.
7. لَمْ تَعُدِ اللَّعْنَةُ كَافِيَةً
حَيِياًّ وَهَادِئًا، كَانَ يَتَمَلَّى بِالْأَرْضِ، بِظِلِّ الدُّورِيِّ وَيَرْنُو لِلْعُلَى. وَبَعْدَهَا؟ فِيمَ لُزُومُ ذَلِكَ؟ — فَحَتَّى اللَّعْنَةُ لَمْ تَعُدْ كَافِيَةً. يَا لِلْأَسَفِ.. بُنْدُقِيَّتُهُ الْمِسْكِينَةُ الْعَتِيقَةُ عَالِقَةٌ بِشَجَرَةِ الْكُمَثْرَى الْبَرِّيَّةِ.
8. يَوْمٌ أَخْضَرُ
يَوْمٌ أَخْضَرُ وَمُشْمِسٌ، مُنْحَدَرٌ بَاسِمٌ بُذِرَ جَلَاجِلَ وَثُغَاءً، آسًا وَشَقَائِقَ نُعْمَانٍ. اَلْفَتَاةُ تَغْزِلُ حَوَائِجَ مَهْرِهَا، اَلْفَتَى يَجْدُلُ سِلَالًا. أَمَّا فُحُولُ الْمَاعِزِ، عَلَى طُولِ النَّهْرِ، فَتَلْحَسُ الْمِلْحَ الْأَبْيَضَ.
9. شَعَائِرُ
اَلْأَنْصَارُ، تَحْتَ أَشْجَارِ الْحُورِ، الْعَصَافِيرُ وَقَبَاطِنَةُ عِصَابَاتِ مُقَاتِلِي الْجِبَالِ رَتَّلُوا، مَعَ أَيَّارْ الْجَدِيدِ، شَعَائِرِهِمْ. اَلْأَوْرَاقُ لَأْلَاءَةٌ كَلُهُبِ شُمُوعٍ فَوْقَ رُبُوعِ الْوَطَنِ. وَمِنْ أَعَالِي السَّمَاوَاتِ، نِسْرٌ يُرَتِّلُ الْإِنْجِيلَ.
10. اَلْمَاءُ
عَلَى طُوُلِ سَيْلِ مَاءٍ مُنْبَجِسٍ مِنَ الصَّخْرَةِ، صَفَّاهُ الصَّمْتُ، صَفَّاهُ تَرَصُّدُ الْعُصْفُورِ، صَفَّاهُ ظِلُّ شَجَرِ الْغَارِ، يَمْشِي قُطَّاعُ طُرُقِ الْجِبَالِ لِيَرْتَوُوا سِراًّ، فَتَنْتَفِخُ حُلُوقُهُمْ، كَأَنَّهُمْ عَصَافِيرُ دُورِيٍّ، يُمَجِّدُونَ أُمَّهُمُ الْبَئِيسَةَ، الْيُونَانْ.
[ترجمة: رشيد وحتي، عن الفرنسية]
في نهاية تسعينيات القرن الماضي، ينزوي ثيودوراكيس ببيته عند دير الأكروبول، مكرساً ما تبقى له من وقت لكتابة مذكراته ويومياته. له من زوجته ميرطو ولدان: مارغريت وجورج، ومئات الجُمَل الموسيقية التي ستخلد في ذاكرة العالَم الموسيقية.
تحرير وترجمة: رشيد وحتي