مي زيادة ... أحبت جبران ورفضت أن تكون رقماً في حديقة نسائه

جبران (خليل جبران) .. سحرني بلغته وسحره المدوخيّن، كان يريدني قريبة منه بينما هو فيّ جزء مني لكني رفضت أن أكون مجرد رقم في حديقة نسائه.. لو قادني القدر نحو ذراعي جبران كنت طحنته بغيرتي وافترقنا بسرعة بشكل بائس وحزين وحقد لا يُمحى. نعم أنا سيدة الأقدار الحارقة، ورجل نشأ في الحرية ومات فيها لا يمكنه أن يدرك حرائقي مهما تواضع معي، كان سندي وصديقي وأخي الذي لم تلده أمي وحبيبي الأخر وموته دمرني.

"تقولين إنك تخافين الحب! لماذا تخافينه؟ أتخافين نور الشمس؟ أتخافين مدّ البحر؟ أتخافين طلوع الفجر؟ أتخافين مجيء الربيع؟ لماذا يا تُرى تخافين الحب؟ لا تخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه رغم ما فيه من الألم والحنين والوحشة، ورغم ما فيه من الالتباس والحيرة".

بهذه الكلمات المُضمخّة بالتّوق والوجد خاطب الأديب اللبناني جبران خليل جبران حبيبته مي زيادة في أروع ما خطّ في رسائل الشعلة الزرقاء. ليس جبران وحده مَن سقط في هواها بل الكثير من الأدباء والكتاّب والشعراء، الذين ارتادوا صالونها الأدبي كل يوم ثلاثاء إلا العاشق البعيد جبران.

ماريا زيادة المولودة في الناصرة في 11 شباط/ فبراير عام 1886، كانت الإبنة الوحيدة لأمّ فلسطينية أرثوذكسية من عائلة عازر وأب لبناني الجذور، عمل مُدّرساً للغة العربية في المدرسة الحكومية في الناصرة، والأخيرة كانت مرتع الطفولة والصبا للأديبة والمُترجِمة والشاعرة، حيث قالت فيها  "آه يا ناصرة كم عشت فيكِ أجمل أيام الطفولة".

في أعقاب رحيل والديها ووفاة جبران، حيكت ضدها "مؤامرة" من قِبَل بعض أقاربها للحصول على ممتلكاتها، حيث أودِعَت العصفورية وهي أول مصحّ للأمراض العقلية في بيروت، وانبرى إلى نجدتها، كما هو معروف، الأديب اللبناني أمين ريحاني ومجموعة من الأدباء والشخصيات العربية الكبيرة، لرفع الحجر عنها، حيث عادت إلى مصر للتتوفى فيها في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1941.

وقد تقفّى الروائي واسيني الأعرج المرحلة الأخيرة من حياتها، عندما تم الحجر عليها، ونقَّب عن مخطوطات تعود إلى تلك الآونة، وتحدث هذه المرحلة العصيبة من حياة مي زيادة في روايته "ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاث مئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية".

وتأتي الرواية على صورة واقع يصف اللحظات الأولى التي اقتيدت فيها الأديبة اللبنانية من مصر إلى بيروت عبر أحد أقاربها وتم سحبها بعنف إلى المصح العقلي، فيما كانت تصر على أنها بكامل قواها العقلية وأنها "زجت ظلماً في مستشفى المجانين العصفورية بهدف الاستيلاء على ميراثها العقاري والمالي".

ويصف الأعرج تلك اللحظات عبر المخطوطات التي تقول فيها مي "كنت داخل فراغ شبيه بدوار الموت، هل التي كانت بين أيديهم الحديدية هي مي الكاتبة المعشوقة من عشرات الرجال، المرأة الأنيقة التي تختار كلماتها وجملها وألبستها ومكياجها، أم كائن آخر من كوكب غير معلوم؟ حقيقة شعرت أنهم ذئاب كانت تفترسني أمام الجميع ولا من يحرك يده".

ويوغل الكاتب في السرد وفي نشر رواية تمتزج بالواقع عن المرأة المعذبة ممن تبقى لها عائلياً ويقول نقلاً عنها "مات الذين كانوا هنا وملأوا الحياة عليّ، غادروا دفعة واحدة لدرجة أني أشعر أحياناً أنهم تخلوا عني بقصدية مسبقة أو أن الرب يعاقبني... مات أخي صغيراً ثم أمي وأبي وتبعه الرجل الحالم والعاشق دوماً الذي عوض أخي الميت، جبران (خليل جبران) .. سحرني بلغته وسحره المدوخيّن، كان يريدني قريبة منه بينما هو فيّ جزء مني لكني رفضت أن أكون مجرد رقم في حديقة نسائه.. لو قادني القدر نحو ذراعي جبران كنت طحنته بغيرتي وافترقنا بسرعة بشكل بائس وحزين وحقد لا يُمحى. نعم أنا سيدة الأقدار الحارقة، ورجل نشأ في الحرية ومات فيها لا يمكنه أن يدرك حرائقي مهما تواضع معي، كان سندي وصديقي وأخي الذي لم تلده أمي وحبيبي الأخر وموته دمرني".

وبعد رحلة مضنية رافقته فيها الباحثة الكندية - اللبنانية روز خليل يتمكن الراوي من العثور على هذه المخطوطات لدى امرأة عجوز في مصر وطابق بعضها مع أوراق معدودات كان الكاتب قد وصل إليها عن طريق مقربين من الأديبة الراحلة في بلدتها الجبلية الفريكة وتحمل عنوان "ليالي العصفورية".

وبعبارة "أخيراً دونتك يا وجعي وهمّ قلبي" التي كتبتها مي زيادة على ظهر المخطوطة يدخل الأعرج إلى الأيام السود التي عاشتها زيادة، حيث كانت تحتضر على مهل في المصح العقلي كما ينقل عنها ضمن مخطوطاتها المستعادة.

في العام 1907، انتقلت زيادة مع أسرتها للإقامة في القاهرة. ودرست في كلية الآداب وأتقنت اللغات الفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية، وزِد على ذلك أن معرفتها بالفرنسية كانت عميقة جداً حيث كتبت فيها الكثير من الأشعار. وفي القاهرة درّست اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وتابعت دراستها للألمانية والإسبانية والإيطالية. وفي الوقت ذاته، عكفت على إتقان لغتها الأم، وتابعت دراساتها في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة في جامعة القاهرة. كما نشرت مقالات أدبية ونقدية واجتماعية في مطلع شبابها وحازت إعجاب الجميع.

كان أول كتاب لميّ زيادة يخرج إلى النور مجموعة أشعار باللغة الفرنسية، وضعت بعدها مؤلّفات (باحِثة البادية) وتبعها عدد من المؤلّفات الأخرى مثل سوانح فتاة، الصحائف والرسائل، وردة اليازجي، عائشة تيمور، الحب في العذاب، رجوع الموجة، بين الجزر والمد، موت الكناري.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]