لماذا نقرأ الأدب؟
بينما نعيش في عصر التطوّر الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وتعدّد اختصاصات المعرفة، لماذا نواصل قراءة الأدب؟ إليكم الجواب.
كتبٌ متراصّة على رفوف خشبية. عناوين متفرّقة في شتّى المجالات. تتّجه صوب خانة واحدة ألا وهي المعرفة. مشهد يغري القارئ للتنفس واحتضان الدهشة. للعوم في فضاء من العوالم الأخرى، والغوص في بحر من الأسرار.
النص الأدبي منذ ظهوره كمسرحيات قبل 3 آلاف سنة أو كقصص تناولتها الكتب السماوية، وصولاً إلى انتشار الرواية والشعر، يتربّع على عرش النفس البشرية ومتاحف الشعوب في طريقة الكشف عن تعقيدات الحياة، وإشباع فضول الإنسان، في رحلة بعيدة عن الحروب والكوارث والآلام.
بينما نعيش في عصر التطوّر الهائل للعلوم والتكنولوجيا، وتعدّد اختصاصات المعرفة، لماذا نواصل قراءة الأدب؟ وللإجابة عن ذلك، علينا الخوض في آراء شخصيات نقشت أسماءها في عالم الأدب.
ماريو فارغاس يوسا
ماريو فارغاس يوسا الكاتب البيروفي الحائز على نوبل للآداب عام 2010، وصفته الأكاديمية السويدية بأنه "راوٍ موهوب قادر على تحريك مشاعر القراء".
يوسا يناقش في مقال له كيف يؤثّر الأدب على تماسك المجتمع والإحساس بالانتماء، وكقاسم مشترك لدى التجربة البشرية، ويقول "هذا الرابط الأخوي، الذي ينشأ بين البشر بسبب الأدب، يجبرهم على التحاور ويوعيهم بهدفهم المشترك، وبالتالي فهو يمحي جميع الحواجز التاريخية.
الأدب ينقلنا إلى الماضي، إلى من كان في العصور الماضية قد خطّط، استمتع، وحلم بتلك النصوص التي وصلت لنا، تلك التي تجعلنا أيضاً نستمتع ونحلم. الشعور بالانتماء لهذه التجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان هو أعظم إنجاز للثقافة، ولا شيء يساهم في تجدّدها كل جيل إلا الأدب".
ويجيب يوسا عن أهم الأسئلة التي تحيط بالعالم الأدبي ألا وهي: ما المنفعة من قراءة الأدب؟ وذلك من خلال تطرّقه لنتاجات الأفراد من نص سردي أو شعري مثل ليو تولستوي، ووليام شيكسبير ، وماريو بروست، وخورخي لويس بورخيس، ومنفعة هذه النتاجات على وعي الإنسان وفهم الحياة وعيشها بطريقة أفضل تتطلب الإحساس بالآخرين، وتحت جميع الفروقات، إذ يقول إنه "لاشيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصّب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائماً في الأدب العظيم: إن الرجال والنساء من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال".
الأدب إذاً، وبعد أن يسقط من وعي الكاتب في لحظاته الحميمية والوجدانية، يعد مشروعاً للإنسانية، في كيفية تعامل البشر مع بعضهم بشكل مشترك ومتساو.
أليكس هيلي
لا يخفى على القارئ النهم - من هذا المنطلق – التأثير الواسع والملهم في رواية "جذور" للمؤلف أليكس هيلي، على المجتمع الأميركي في الدفاع عن الحياة والحريات والحقوق، بعد أن نقلت عن المعاناة التي قاساها الأفارقة في ظل العبودية - التي كان يحترفها الغرب بكل صورها المجردة من الإنسانية آنذاك -، في تجربة أدبية فريدة، حصدت أيضاً كدراما تلفزيونية 100 مليون مشاهد وفق صحيفة "نيويورك تايمز – The New York Times".
وأظهرت الرواية دور الفكر الاستعماري في ترويج شائعة أن أفريقيا هي غابات وأدغال يسكنها قوم لا يفقهون شيئاً. ويمكن القول إنها أدب يعتصر جميع الكتب.
أورهان باموق
الكاتب التركي أورهان باموق الحائز على نوبل للآداب عام 2006، ذهب في كتابه "الروائي الساذج والحساس - The Naive and the Sentimental Novelist"، للحديث عن النص الروائي قائلاً إن: "الروايات حياة ثانية. مثل الأحلام التي تحدّث عنها الشاعر الفرنسي جيرارد نيرفال، تكشف لنا الألوان والتعقيدات في حياتنا وهي مليئة بالناس. عالم الرواية الذي نلتقي ونستمتع به هو أكثر واقعية من الواقع نفسه. هذه الحياة الثانية تظهر بالنسبة لنا أكثر واقعية من الواقع".
محمود درويش
ولا يخفى على القارئ العربي أيضاً تأثير قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش في تطوير الشعر الحديث من حيث اللغة والشكل والصورة، وعلى واقع المجتمع الفلسطيني الخاضع للاحتلال، وهو بنفسه كان يتساءل عن جدوى الكلمة في قصيدة "وتحمل عبء الفراشة" من ديوانه "أعراس 1977"، على لسان طالبة:
ستقول طالبة: وما نفع القصيدة؟
شاعر يستخرج
الأزهار والبارود من حرفين
والعمال مسحوقون
تحت الزهر والبارود في حربين.
ما نفع القصيدة
في الظهيرة والظلال
لكن درويش يعود ليكون أكثر حدّة، بما يليق بقصيدة تتحدّث عن المقاومة والأرض في "عابرون في كلام عابر"، التي كتبت إبان الانتفاضة الأولى، ليثير ضجة كبيرة في المجتمع الإسرائيلي إلى درجة جعلت صحيفة "يديعوت احرنوت" الإسرائيلية تضع العنوان التالي: "القصيدة توحّد الكنيست" بعدما قدّمها رئيس الوزراء آنذاك اسحق شامير دليلاً على ضرورة استمرار الاحتلال.
ويقول درويش في هذه القصيدة:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
إحملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
إنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
القصيدة المذكورة برهنت أن الشعب الفلسطيني لا يحب الاحتلال ولا يحب المحتلين، بما ترك من انطباع وتعميق للإحساس بالانتماء إلى الأرض لكل من قرأها، من خلال التفوّق الإنساني والأخلاقي المناقض لثقافة العداء والعنصرية والكراهية.
النص الأدبي ليس خيالاً محضاً أو واقعاً محضاً، بل مزيج بين الإثنين، حاضنة للثقافة والحضارات، وليس تلك القواميس التي تشير إلى إيماءات القردة وأصحاب جنون العظمة، فالإنسان لا يمكن أن يعيش من دون أدب، فلولاه لا يمكن أن يعبّر عن أسراره، أحاسيسه الحميمية، الرقة والعذوبة، الحب والكراهية، وحتى الأخطاء في هذه الحياة الظالمة، وفق قالب يصوغه الخيال بصبغة الإبداع الفني.
نحن نقرأ النص الأدبي بجميع ألوانه، بما فيه من غموض وتشويق، من واقع وخيال، كي نرتفع عن الأرض إلى السماء الأولى في اكتشاف عالم آخر، ننظر من خلاله إلى مرايانا بحثاً عن أسباب الحزن والفرح، الكفر والإيمان، اليأس والأمل .. في بُعد معرفي وعاطفي.
المجتمع بلا أدب مجتمع عديم التواصل، خال من الروح، مثير للشفقة، وصمٌ بكمٌ بلا لغة.
المصادر
Review: ‘Roots’ for a Black Lives Matter Era
Orhan Pamuk (The Naive and the Sentimental Novelist) Penguin random house Canada