إميل سيوران.. أستاذ "اليأس" و"السوداوية" كان سعيداً؟
"كل شيء من سيئ إلى أسوأ. لا رجاء، لا رجاء".. في ذكرى رحيله، وعلى عكس ما نعرف عنه، هل عاش سيوران حياة سعيدة؟
يُخطئ من يعتقد أن إميل سيوران (1911-1995) عاش حياته من دون لحظات سعادة، على الرغم من كل سوداويته، وأستاذيته في اليأس، وعدميته المُفارقة، وكتاباته المتكررة عن الانتحار، وأرقه المزمن، وسخطه الدائم على الحياة.
من يتقصَّ حياة هذا الفيلسوف الروماني يتلمَّس أنه كان أشبه بـ"سيزيف سعيد"، كذاك الذي طالبنا ألبير كامو بتخيُّله. مثلما كان سيوران فريداً في رؤيته وأفكاره، من مثل قوله إن مأساة الإنسان ليست في موته، وإنما في مولده، فإنه استطاع أن يقتنص في حياته المديدة الكثير مما أسعده، وبقي عالقاً في ذاكرته، ليرويه في أكثر من كتاب، وضمن العديد من الحوارات التي أجريت معه، إذ إنه عاش طفولةً سعيدة بشكل مذهل في قرية "رازيناري" الجبلية البدائية جداً، وكان دائماً يخرج من البيت إلى الفضاء المفتوح، بحيث تربّى كما لو كان في البرية.
وقد قال في أحد لقاءاته: "عشت في شبابي لحظات، يجد الكائن نفسه معها في امتلاء خارق، أو بالأحرى في خواء حماسي. كانت تجربة عظيمة؛ الكشف المباشر عن بطلان كل شيء. تلك الإشراقات فتحت لي مجال معرفة السعادة القصوى التي يتحدث عنها المتصوفة".
سيوران الذي تحل ذكرى وفاته اليوم، وبعد مرور 3 عقود من صدور أول كتاباته ونشره الكثير من مؤلفاته، لا يزال مجهولاً تماماً بالنسبة إلى كثيرين، لكنه يرى في ذلك لذة ما بعدها لذة، إذ إنه يُقدِّس وحْدَتَهُ، ويعتقد أن الآخرين يسقطون في الزمن، بينما يسقط هو من الزمن. يقول في إحدى شذراته: "أنا الآن وحدي، ماذا عساي أتمنى أفضل؟ لا وجود لسعادة أكثر كثافة. بلى، سعادة أن أنصت، من شدة الصمت، إلى وحدتي وهي تنمو".
وعندما لا تساعده الظروف على أن يكون سعيداً، فإن خياله يجنح به إلى استثناءات تتيح له الشعور بأقصى درجات السرور، ومن ذلك تأمله الفلسفي الذي دوَّنه مرة: "ما أسعد من لم يولدوا أبداً! يحملني مجرد تخيل نفسي في وضعهم إلى سعادة لا نظير لها، يا لها من حرية! وما أرحبه من فضاء! كان من الأحسن لي أن أكون كما لو أنني لم أكن". ولعل ذلك ما دفعه إلى أن يُمنِّن أبناءه الذين لم يرغب في مجيئهم بالسعادة التي يدينون له بها.
في مقابل السخط المديد لسيوران وتشاؤمه من إيجاد حل لمعضلة الوجود، التي يقول فيها: "أن لا نولد هي أمثل صيغة وجود على الإطلاق"، إلا أنه يقترح السخرية سبيلاً لمداواة الحياة، والضحك أداةً فعَّالة من أدوات مواجهة العدم.
يرى صاحب "مثالب الولادة" أن "السخرية هي الانتصار الحقيقي والوحيد على الحياة والموت"، وأن "الضحك هو المبرر الكبير للحياة"، مضيفاً: "حتى في أعمق لحظات اليأس، كنت قادراً على الضحك. هذا ما يميز الإنسان عن الحيوان. الضحك حالة عدمية، تماماً كما يمكن للفرح أن يكون حالة مأتمية".
يواجه صاحب "المياه كلها بلون الغرق" الراغبين في إنهاء حياتهم، بأنهم سيُحرَمون من سعادة السخرية منها. ولعل في ذلك رداً على من يتهمونه باستمرار بأن يُحرِّض على الانتحار، في حين أنه يعتبرها الفكرة الوحيدة التي تتيح للإنسان أن يعيش، فما دام يستطيع بها أن يغادر هذا العالم متى شاء، فإن ذلك، بحسب سيوران، يجعل الحياة محتملة.
ولأنه "لا اختيار لنا سوى بين حقائق قاتلة وخدع شافية"، كما يقول سيوران، فإنه يؤثِر من تلك الخدع الموسيقى، والتي يصفها بأنها "ملجأ الأرواح التي جرَّحتها السعادة"، وبأنه ليس غيرها أصلح لإنشاء شراكة لا تنفصم بين كائنين، ولا سيما أن العاطفة "قابلة للفساد"، وهي تتلف مثل كلّ ما ينتمي إلى الحياة.
أما الموسيقى، بحسب رأيه، فهي من جوهرٍ أرقى من الحياة، وبالتالي من الموت، ويعتبرها وهماً يُكفِّر عن كل الأوهام الأخرى، وعن طريقها يشعر الإنسان بأنه يمتلك روحاً، وأنه لا يحب الموسيقى سوى الذين يتعذبون في الحياة. ومن شدة حبِّه لموسيقى أماديوس موزارت يصفها بأنها "الموسيقى الرسمية للجنة".
ومن فسحات السعادة التي عايشها بكل امتنان، معتبراً إياها هبةً إلهية، ركوب الدراجة الهوائية التي أتاحت له النوم في ليالي أرقه المزمنة، إذ كان يقطع 100 كيلومتر في اليوم متجولاً بين قرى الريف الفرنسي قبل الحرب العالمية الثانية؛ يتناول ما يشتهيه، ويشرب النبيذ، وينام في الحقول، ويقول متذكراً: "شراء دراجة هوائية كان بالنسبة إلي بمثابة رفق إلهي، وضربة حظ غير متوقعة، إذ عشت معها حياة طبيعية جداً وصحية جداً. تمارين رياضية حتى المساء. حين تقطع 100 كيلومتر في اليوم، من المستحيل ألا تنام، إنه أمر مفروغ منه. وعليه، لم يكن الفضل عائداً إلى الطب. لأنني، ولسوء الحظ، كنت قد زرت الكثير من الأطباء في رومانيا وفي فرنسا، أعطوني ـ جميعهم ـ أدوية أضرّت بمعدتي وأفسدت كل شيء، كان ذلك في غاية الخطورة. وبواسطة المنومات أيضاً، لم أستطع النوم إلا ساعتين أو ثلاث على الأغلب. عندها، كان الصداع يلازمني طيلة النهار. كان ذلك فظيعاً. لقد سممتني الحبوب المنومة. لهذا لم أعد أتناولها. وعليه، فقد أنقذتني الدراجة؛ تلك الهبة الإلهية".
من المعروف عن سيوران أنه لم يلتزم بعمل حتى سن الــ 47، حيث عاش قسطاً وفيراً من حياته معتمداً على المنح الدراسية، بما فيها تلك التي جعلته طالب دراسات عليا في جامعة السوربون من أجل بحث فلسفي متقدم، لكنه لم يكمل دراسته، بل آثر أن يُغذّي نسغ روحه وكتاباته من القراءة والمعايشة والتفكير الذي ينطلق من الحياة ويعود إليها.
ورغم ما يبدو من أن صاحب "الاعترافات واللعنات" موزع يأسٍ ومثبط عزائم بامتياز، فإن تشاؤمه يبقى من أعذب ما يقرأه قارئ، بل تتحول نظرته السوداوية إلى سعادة أبدية فعلية، وقد يدفع قارئه إلى تفاؤل ما، بحيث تعطي كلماته ضد الحياة المُرّة معنى ما للحياة ذاتها.
ورغم قساوة الألفاظ المستعملة، تبقى "الكتابة ثأراً للمخلوق وردّه على خليقة غير متقَنة"، كما يراها سيوران. هكذا استطاع ما كتبه صاحب "تاريخ ويوتوبيا" أن يكون مرآةً ناصعة لتأمّل وتصحيح لوضعية الكائن أمام الوجود، بحيث حقق بكل جدارة مقولته: "العدمية تؤدي إلى الجمالية".
عبر سيوران وحده "اقتحمت الفكاهة قلعة الفلسفة عن طريق أستاذ من أساتذة المرارة، وهكذا ترى النور، لأول مرة، فلسفة تسمح بالتفكه وخفة الروح، من دون أن تفقد قوتها الدرامية، أو أن تكف عن مساءلة الوضع الإنساني لحظة واحدة"، كما يقول الباحث حميد زنار في كتابه "المعنى والغضب.. مدخل إلى فلسفة إميل سيوران".
يوضح زنار: "هناك نوعان من البشر: المتفائلون فلسفياً والحزانى في الحياة، والمتشائمون فلسفياً والجذلى في الحياة. ينتمي سيوران إلى الفئة الثانية. أعتبره متشائماً محترفاً. على النقيض من نيتشه وشوبنهاور، ليس لحياته الفعلية علاقة بأفكاره المتشائمة، فعلى الرغم من ألم الكينونة وحسرة الوجود، لم ينغلق على ذاته أبداً. خادعة تلك الصورة الشهيرة التي يبدو فيها مكفهر القسمات، في أعلى درجات الكآبة والتعب، والتي تكرر نشرها في الصحف والمجلات. لم يكن فظاً صعب المعاشرة كدوستويفسكي، ولم تكن له نظرات نيتشه المرعبة، بل كان بشوشاً مرحاً ودوداً. يقول عارفوه أنه كان نديماً خفيف الظل لا تفارق الابتسامة محياه أبداً. لا أحد يستطيع مقاومة قهقهة في حضرة تلك الروح المازحة. كان يردد بلكنته الرومانية العذبة وهو في كامل حيويته: "كل شيء من سيئ إلى أسوأ، لا رجاء، لا رجاء".