كرسيّ وحذاء: أشياؤنا التي تشاركنا عزلتنا
بدلاً من أن نمقت وجود أشيائنا المادية، فإن بإمكانها أن تصبح شريكتنا في العزلة وحواضن لأيام أجمل قادمة، كيف؟
تتوسَّع الجمادات في بيوتنا وتبدأ بالتموضع كما تريد. تكتنز وتحتلّ المكان الذي كنا قد وضعناها فيه فنصغر نحن في حُجراتنا، ونعجز عن تفسير تقلّص الفضاء وهيمنة جماداتنا عليه. كأس القهوة الصباحي نمقته الآن بسبب ملاحظتنا المفرطة له في الخزانة، وعيوننا ملّت تتبّع شقّ الحائط الطفيف في المطبخ وتفاصيل الكنبة الموردة الجاثمة في حجرة الجلوس. تثير جماداتنا غثياننا لفرط وجودها في فضائنا المنزلي الذي لبثنا فيه سنة أو بعض سنة نتيجة الجائحة الصحية العالمية.
هذه العلاقة المتملصة التي تجمعنا بالأشياء تركّز عليها الباحثة موريزيا بوسكاجلي في كتابها [1] الذي تقدّم بين ثناياه مفهوم "المادية الجديدة"، والذي أحبّ من خلاله أن أستعرض بعض الأمثلة التي تحضر فيها علاقة الأدباء بالأشياء والتي بالإمكان استشعارها ببساطة في حياتنا اليومية.
تعرض بوسكاجلي من خلال هذه النظرية مُقاربة مختلفة للجمادات من مجالات مُتنوِّعة كالفلسفة والأدب وغيرها.
وترى بوسكاجلي أن المادية كما تعوّدنا على فَهْمِها حديثاً كونها كجزء كبير من الثقافة الاستهلاكية وكعنصر ثابت من الرأسمالية بحاجة للتفصيل والتفكّر. بالنسبة إليها، فإن الجمادات تتميّز بنوع من المادية المُضاعفة التي يجب دراستها حتى نفهم كيفيّة عيشنا مع أغراضنا، حيث تستعين الكاتبة بالفلسفة الماركسية لتشرح مفاهيم الاغتراب المقرونة بالإنتاجية والأغراض التي تصدر عنها.
إلا أنها تتّخذ موقفاً مُثيراً للاهتمام بخصوص هذه المادية أنها تدعونا لإنقاذ أغراضنا من السردية السلبية التي تميّز المادية عادة، وتقترح أن يكون للجمادات إمكانيات إبداعية وتحريرية حتى وإن استدخلناها في السياسيات اليومية لحياتنا. وتشرح كيف يمكن أن تقترن جماداتنا بذاكرتنا وتشارك في تشكيلها من خلال تحوّل الجمادات إلى حاملات للذكرى، وتشرح تمظهرات ذلك في الأعمال الأدبية مثل أشعار مارسيل بروست وروايات فيرجينيا وولف.
وتتجلّى هذه العلاقة التي تبتعد عن المادية السائدة بشكل رقيق وحيوي في نصوص شعرية عديدة، عربية وأجنبية. مثال على ذلك قصيدة أمل دنقل "زهور"[2]، حيث يختار دنقل صحبة الأزهار الذابِلة في أيامه الأخيرة خلال رقوده في المستشفى عوضاً عن صحبة الآدميين. يحدث دنقل "سلال من الورد" ويروي لنا قصّتها ليرسم مُقاربة مؤثرة بين ما حصل لها وقدره هو. إذ يقول:
كلُ باقةْ..
بين إغماءةِ وإفاقةْ
تتنفّس مثليّ ــ بالكادِ ــ ثانيةً.. ثانيةْ
وعلى صدرها حَمَلت ــ راضيةْ..
اسمَ قاتِلها في بطاقةْ!
يقوم دنقل بعبقريّته الشعرية، التي غالباً ما تُثير خواص خارقة لأغراض عادية، بتفعيل دور الزهور الميتة أو الشيء الذي يشاركه عزلته في المستشفى، إلى صحبة مواسية. يتعدّى دنقل ذلك أيضاً ويجعل من الزهور الميتة مرآة تعكس ألمه في الاقتراب الحتمي نحو موته. فنرى في هذا تعد للإسقاط الأدبي العادي حيث يبثّ الحياة في الشيء الميت، ويجعل من وجوده صحبة ومواساة له، بدلاً من احتقاره كبديل عن الصحبة الآدمية في تلك الوحدة الجاثمة.
في قصيدة للشاعرة إدنا سينت فنسنت ميلاي بعنوان "شجن"[3] تظهر الجمادات بشكل قوي. بعد تشبيه الشَجَن بالأمطار التي تضرب قلبها والتي عادة ما تدفع الناس إلى التقلّب والنواح، تنتقل ميلاي إلى صورة خامِدة أقلّ صَخْباً للشَجَن فتقول:
يتأنّق الناس ويزورون المدينة؛
وأنا أجلس في الكرسي.
أفكاري كلها بطيئة وبنية:
أأقف أمْ ألبث جالسة
أمور صغيرة، أمْ أيّ فستان
أرتدي أمْ أيّ حذاء.
كما نرى في هذه القصيدة الامتناع عن مشاركة الشَجَن مع آخرين بالرغم من تيقّن الشاعرة من مرورهم بنفس المرحلة عندما تقوم بوصف آلامهم التي تختبرها هي آنياً في القسم الأول من القصيدة. إلا أنها لا تنشد الصحبة الآدمية في عزلتها مع الشَجَن، بل تقرّ بوضوح أنها تفضّل أن تشغل نفسها بالجمادات التي تشاركها هذه الوحدة المُضنية. أما في الشقّ الثاني من القصيدة المُتْرجَمة فنرى ميلاي وقد استبدلت الآدميين بجماداتها هي: الكرسيّ والفستان والحذاء. وبهذا تختم قصيدتها القصيرة من دون أن تُعلّل سبب هذا التفضيل أو التوسّع في تفاصيله، ما يضاعف من عزلتها ويقوّي من تصوير هذه الوحدة.
أما غادة السمّان فتستحضر جماداتها في عزلتها أيضاً حيث نقرأ في "عاشقة تهمس: تك تك تك"[4] ما يلي:
أنهمر حزناً على أصابع الآلة الكاتبة
كصفصافة تنتحب عصافيرها
تك تك في قلب الظلام الدامس
تعني أنني لست امرأة من المعدن
تتجلّى قوَّة وإمكانية الآلة الطابعة هنا ليس فقط في كونها تربط بين الأفكار التي تهيم في ذهن الشاعرة (المُجرَّد) والورقة المطبوعة (المادي)، بل لقدرة الآلة على مُحاكاة وجود الشاعرة الكلي.
ونرى ذلك في ذِكر السمّان بشكل مباشر لصوت الآلة الطابعة في القصيدة وعنوانها، ولذلك للدلالة على أهمية الصوت المُخترق للظلام الدامِس، فهو يُحدِّد هوية الشاعرة كلياً ويعني "أنني لست امرأة من المعدن".
لم تغب هذه الجزئية الرقيقة التي تجعل من جماداتنا أصحاباً نشاركهم الألم عن شعر محمود درويش، إذ نلاحظ تناثر هذه الجزئية في عدد من قصائده وبالأخصّ "في صحبة الأشياء"[5] التي هي بمثابة تجلٍّ واضح لذلك، والتي يقول فيها:
لا شيء ينتظرُ. الأشياءُ غافلةٌ
عنا، ونحن نُحَيِّيها ونشكرها
لكننا إذ نُسَمِّيها عواطِفَنا
نصدِّقُ الإسم. هل الإسم جوهرُها؟
نحن الضيوف على الأشياء، أكثرنا
ينسى عواطِفَهُ الأولى ... ويُنْكِرُها!
في هذا المقطع كيف يبدّل درويش الدورين، فنصبح نحن الدُخلاء أو الضيوف على الأشياء وليس العكس. في قوله إن "الأشياء غافلة عنا" يقوي درويش الطابع التطفّلي فنصبح نحن الدُخلاء الأطفال الذين لا تلقي الأشياء لهم بالاً، الأمر الذي يضاعف من شعور العزلة الذي يطغى على نصّ القصيدة.
في عكسه لديناميكية العلاقة بين الإنسان وأشيائه في العزلة (حتى لو كانت هذه الأشياء مُجرَّدة وغير مادية)، فإن حال الفقد، التي لمحنا لوناً منها في قصيدة ميلاي، تتبدى هنا أيضاً.
نلحظ هذه العملية في تجميد الأشياء المُجرَّدة لمُضاعفة الشعور بالعزلة والنفيّ في رواية غالب هلسا "البكاء على الأطلال"، خاصة في مقطع تكون فيه البطلة عزَّة حبيسة المنزل بسبب إعيائها. يزورها شقيقها ويتحدّثان في جوٍّ من التكهرب والغربة وبعد أن يُقبِّل يدها يرحل.
تقول عزَّة بعد رحيله إن "القبلة ظلّت معلّقة في يدي وأنا أسير إلى الحمّام. أحياناً تصبح المسألة مستحيلة. لا أفهم ما يحدث أمامي"[6].
في توظيف هلسا العبقري للسريالية هنا، والمُتمثّلة بقبلة تتّخذ هيئة مادية على يد عزَّة، فإن الكاتب من خلال لامعقولية علاقة عزَّة مع شيء مُجرَّد، يضاعف من شعورها بالغربة واستجدائها المُبطَّن لهذا الشيء. لذلك، فإن القبلة ظلَّت مُتعلَّقة بعزَّة ولم تسقط كنوعٍ من الاستجابة لاستنجاد البطلة الباطني.
في مقالة بحثية يُحلّل فيها جراهام فريجر أعمال الروائية فيرجينيا وولف، يذكر أن الأخيرة كانت "مُنْبَهِرة بعالم الجمادات المُبتعد عن التفاعُل الآدمي- الأشياء المنسيّة، المهجورة، المكسورة"[7].
ويشرح كيف أن الجمادات في روايات وولف تتحلّى بإرادتها الخاصة وحتى حيويّتها التي تتعدّى كونها جمادات، وأنه في كثير من الأحيان فإن الجمادات لها أشباح تعيش فيها أو بعدها مثل عباءة مُلقاة تستحضر شبح المرأة التي اقتنتها وكانت ترتديها. نرى هنا أن رؤية وولف ووصفها للأشياء تقترب من رؤية درويش الذي يوظِّف هذه العلاقة العكسية بيننا وبين أشياءنا لتضخيم شعور العزلة والوحدة.
في استنطاق وإحياء الأشياء، مُجرَّدة كانت أو جمادات، عنصر قوي ومؤثّر يضاعف من مشاعر الوحدة والعزلة في النصوص الأدبية. إلا أننا في هذا الوقت الذي نجبر فيه على المكوث مطوّلاً في فضاءاتنا البيتية مع أشيائنا ووصولنا إلى حدّ مقتها، فإن الأدباء يقدِّمون لنا مُقاربة أخرى ومختلفة نحو هذه الأشياء. فبدلاً من مَقْت وجودها المادي والمُتنكّر لعزلتنا، فإن بالإمكان للأشياء أن تتحوّل لتصبح شريكتنا في العزلة والحواضن المادية لتخيّلات وتأمّلات أيام أجمل قادمة.
المصادر:
[1]Maurizia Boscagli, Stuff Theory: Everyday Objects, Radical Materialism (London: Bloomsbury, 2014).
[2] أمل دنقل، "زهور"، الأعمال الشعرية الكاملة (القاهرة مكتبة مربولي، 1987).
[3] Edna St. Vincent Millay, “Sorrow”, Renascence and Other Poems (New York: Harper, 1917).
[4] غادة السمان، "عاشقة تهمس: تك تك تك"، عاشقة في محبرة (منشورات غادة السمان، ١٩٩٩)
[5] محمود درويش، "في صحبة الأشياء"، أثر الفراشة: يوميات (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، ٢٠٠٨)
[6] غالب هلسا، البكاء على الأطلال (عمان: رابطة الكتاب الأردنيين، ٢٠٠٨ (طبعة جديدة))، ٢١٤.
[7]Graham Fraser, “Solid Objects/Ghosts of Chairs: Virginia Woolf and the Afterlife of Things”, Journal of Modern Literature 43, no.2 (2020), 80.