مؤرخ الإسلام المبكر وصاحب الأسئلة "المستفزة".. تونس تودع هشام جعيّط
مؤرخ وباحث تميز بالجدية والعمق، وسعى لإعادة قراءة التاريخ والتراث الإسلامي بطريقة أثارت الجدل.. من هو هشام جعيّط؟
قد يحضر في ذهننا الكثير من الأسماء التي برزت في عالم الفكر أو التأريخ في بلادنا المغربية. بعضها وصل صدى أسئلته العميقة والمستفزة في الفكر العربي - الإسلامي إلى المشرق، كما هو حال محمد أركون (الجزائر) أو عبد الله العروي (المغرب)، فيما ظل بعضها الآخر حبيس حدود هذه المنطقة، لأسباب متعددة.
هشام جعيّط كان من واحداً من القامات الفكرية الفذَّة التي تميَّزت بالجدية في الطرح، وبالعمق في التحليل، وكذا بالقدرة الإبداعية على توظيف المناهج العلمية الحديثة التي استقاها من الفكر الغربي، بحكم تكوينه المعرفي في جامعةٍ عريقة، من أجل إعادة قراءة تاريخ وتراث حضارته التي نافح عنها باحترافٍ وجدية، بطريقةٍ أثارت حولها الجدل، ولا تزال، فمن هو هشام جعيّط؟ وما أهم أعماله؟ وما وجه التميُّز فيها؟
تونس.. البداية
إذا كان للبيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية دور حاسم في تكوين وعي الفرد ومسار حياته العام، فإن تشكُّل الشخصية الثقافية والفكرية لهشام جعيّط هو التجسيد الفعلي لهذه الحقيقة.
ولد جعيّط في العام 1935، في كنف عائلةٍ برجوازيةٍ تقليديةٍ مَدِينِية أنجبت شخصيات مرموقة في تونس، من وزراء وفقهاء ومتصوفة (الطريقة التيجانية). درس المرحلة الثانوية في المدرسة الصادقية في قصبة تونس القديمة، وهي صرح تعليمي من تركة المشروع الإصلاحي والتحديثي لخير الدين باشا. تأسَّست في العام 1875م، لتُجسِّد التطلع نحو التحديث والنهضة مع المحافظة على الثقافة العربية.
وقد كان لهذا الخيار الذي أقرَّه والده دور كبير في إجادته اللغة العربية التي منحته القدرة على القراءة المُتَمَعِّنة للثقافة والتراث العربيين، وهو ما لم يكن متاحاً لأبناء جيله من المغاربة في المغرب الأقصى، وبدرجةٍ أكبر وأكثر تجلِّياً في الجزائر، في ظل الهيمنة الثقافية الفرنسية. وقد كان خيار والده أيضاً فرصة له للاستفادة من قدرٍ مُعَيَّنٍ من التحديث، من خلال المنهج التعليمي الجاد والحديث للمدرسة الصادقية.
انتقل جعيّط بعدها إلى جامعة السوربون في فرنسا، ليحصل منها على شهادة دكتوراه في التاريخ الإسلامي. وفيها انكبّ على النهل من مَعِين المناهج العلمية الغربية الحديثة وصنوف العلوم الإنسانية المختلفة، التي ضمنت له زاداً معرفياً مهماً وأدوات تحليلية عميقة، وظفها لاحقاً في مؤلفاته.
وإضافة إلى الجامعات العربية، درَّس جعيّط في جامعات مختلفة؛ فرنسية وإيطالية وكندية، وفي جامعة باركلي في كاليفورنيا في الولايات المتحدة.
بين مدرسة الاستشراق والمدرسة التقليدية
بدأ هشام جعيّط مساره في الإنتاج الأكاديمي باللغتين العربية والفرنسية، وصدرت له مجموعة من الأعمال، كان أهمها في تاريخ العمران الإسلامي مع كتاب "الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية". وحول لحظات التأسيس الأولى للإسلام كدين وحركة اجتماعية وسياسية ذات طموحات إمبراطورية، صدر له كتاب "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، وكتاب "في السيرة النبوية" بأجزائه الثلاثة. وعن دمج المغرب في الإمبراطورية الإسلامية ودخول هذه المنطقة في التاريخ الإسلامي، أصدر كتاب "تأسيس الغرب الإسلامي"، إضافة إلى الكثير من المقالات والدراسات المنشورة في مجلات علمية معروفة. وقد أثارت هذه المؤلفات وغيرها جدلاً فكرياً حاداً.
إن فهم سياق هذا الجدل يقتضي الحديث عن وجه التميُّز في كتابات جعيّط. لقد عرف منذ لحظات إبداعه الأولى كيف يوظف المناهج المعرفية الحديثة الفلسفية (جدلية هيغل)، والتاريخية (مفهوم التاريخانية)، والسوسيولوجية (وخصوصاً سوسيولوجيا ماكس فيبر) لدارسة التاريخ الإسلامي، وهي مناهج لا يمكن لرواد المدرسة التقليدية أن يستسيغوها، لأنها تصطدم بالسردية المتوارثة الأقرب إلى الأسطرة أو الرواية التمجيدية والدعوية منها إلى البحث العلمي الجاد. كما أنها في الوقت نفسه تسير عكس الاتجاه العام لبعض المستشرقين (أو تلاميذهم من العرب)، الذين يُوجِّهون مضامين دراساتهم نحو الهجوم على الإسلام كدين وحضارة، لأسباب حضارية أو كولونيالية بحتة، حتى وإن اتخذت الطابع العلمي.
هشام جعيّط إذاً كتب في التاريخ الإسلامي، وخصوصاً ما يرتبط بالظواهر المحيطة بالإسلام المبكر، من موقعه كباحث أكاديمي جاد، وليس من موقعه كمؤمن، لكنه انطلق أيضاً من موقع المنتمي إلى الحضارة العربية الإسلامية، والمعني بالدفاع عن إنجازاتها، في وجه الواجهات الثقافية المغرضة لقوى الهيمنة الدولية. لذا، نجده ينتقد بشدة بعض المستشرقين الذين جهدوا لإعادة إنتاج الصور النمطية للعرب والمسلمين، والتي تنهل من تراث الصراع الطويل بين الإسلام وأوروبا منذ العصر الوسيط، لكنه مع ذلك يُقر باستفادته من الجهود الفعَّالة لمستشرقين آخرين في قراءة التراث والتاريخ الإسلامي.
هذه النظرة التي تنهل من مناهج الفكر الغربي، وفي الوقت نفسه توظِّفها بذكاءٍ واحتراف في الدفاع عن الحضارة الإسلامية، وتكشف تهافت بعض الأطروحات الإيديولوجية الغربية الاستشراقية، هي التي صنعت التميُّز في كتابات جعيّط، وخلقت بعض اللبس الذي رآه البعض تناقضاً زاد من حِدَّة الجدل حوله.
كتابة التاريخ لدى المغاربة بين الضرورة العلمية وضغط التحرر من رواسب الاستعمار
شكل التحرر من القراءة الكولونيالية لكياناتنا القطرية ولمغربنا الكبير، الهاجس الأول عند المؤرخين المغاربة في الكتابة التاريخية في مرحلة تشكُّل الدول الوطنية المغربية الثلاث، مع الإقرار في الوقت ذاته بالحاجة الضرورية والمُلحَّة لتوظيف مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة المختلفة؛ المادية التاريخية، التاريخانية، الجدلية الهيغلية، التحليل الفيبري...
جاء ذلك من منطلق أن هذه المناهج ليست ملكاً حصرياً للغرب، وإنما هي نتاج لتراكم الإنجازات الحضارية في التاريخ البشري، وذلك من أجل بناء وعيٍ تاريخيٍ علميٍ مؤسسٍ قادر على ممارسة النقد الذاتي، مع القدرة على الدفاع عن تراثنا الإمبراطوري والحضاري، دونما أي شعور بالنقص أمام الغرب، وكذا من أجل كتابة تاريخ وطني محترف متحرر في آنٍ واحد من الرواسب الاستعمارية والسردية التقليدية الراكدة الغارقة في التقديس والاختزال.
ويمكن تلمُّس ذلك من خلال كتابات محمد الشريف ساحلي في الجزائر حول الأمير عبد القادر أو كتابه "تخليص التاريخ من الاستعمار"، ثم مع عبد القادر جغلول والهواري عدِّي من الجيل اللاحق، وفي المغرب الأقصى مع عبد الله العروي ومن سار على دربه من بعض المؤرخين المحترفين والجادين، وكتابات هشام جعيّط في تونس.
كما أن الانخراط في المشاريع التحديثية للدولة الوطنية المستقلة، على اختلاف سياقاتها، تطلَّب من المؤرخين المغاربة، وعلى رأسهم جعيّط، طرح الأسئلة الجوهرية المرتبطة بالهوية والحداثة والوعي الديني، والخيارات الاجتماعية والاقتصادية والعلاقة مع الغرب وغيرها، وتقديم الأجوبة المؤسسة لها، وبالتالي الخوض في مواضيع فكرية محضة، وتقديم تشخيص لأزماتنا من موقع الدراسة التاريخية، وهو ما تجلَّى أساساً في كتبه "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي" و"أزمة الثقافة الإسلامية" و"أوروبا والإسلام".
لكن جدية أعمال جعيّط التاريخية والفكرية واحترافيتها، لا تعني البتَّة حسم الجدل في مواضيع عديدة لا تزال ملحة في ظل المستجدات التي تعيشها بلادنا، بل العكس، فهي تحفِّزه على الحِدَّة بالمعنى الذي يحيل إلى إثراء النقاش وتشجيع البحث الجاد، لا الجدال الأيديولوجي العقيم.
رحل هشام جعيّط، وما يحز في النفس حقاً ليس فقط أننا حُرمنا كقراء متعطشين لكل كتابةٍ مغربيةٍ جادة ومحترفة نابعة من هذا القلم الذي توقف نهائياً عن الإبداع، وإنما لأن القراء، والمثقفين المتخصصين في المشرق أيضاً، لم يصلهم سوى النزر اليسير من إبداعه، وتلك خسارة كبيرة، ليس للمغرب فحسب، بل للثقافة العربية والإسلامية برمتها أيضاً.