تستخرج ذكرياتها من تحت الأنقاض
بعد سنوات من العمل في مكتبة سمير منصور في غزة، بات على شيرين أن تستجمع ذكرياتها بعد أن تحولت إلى أنقاض. فماذا بقي منها؟
في السنة الثالثة من دراستي الجامعية، أقبلت على القراءة بشراهة، حتى عشقت الكتب وكل ما يتعلق بها. تمنيت بصدق أن أعمل في مكتبة. ومنذ ثلاثة أعوام، تحققت أمنيتي في ظروف مختلطة بين الجد والمزح. شعرت حينها بأن الله يحبني، وأنه أنصت جيداً إلى أمنيتي وجعلها حقيقة، وأن بإمكاني طلب المزيد منه وأنا متيقنه بأنه سيستجيب لي، لكنني، كما يبدو، لم أطلب منه أن تبقى المكتبة بأمان بعيدة من أي أذى. لم يخطر في بالي أصلاً أنها قد تُصاب بمكروه، فمن يمكنه أن يؤذي مكتبة؟
في اليوم الثامن من العدوان على غزة، تعرض المبنى الذي تتواجد فيه مكتبتنا للقصف والتدمير بشكل كامل. تناقلت الأخبار الحدث: "الطائرات الإسرائيلية قصفت عمارة "كحيل" في شارع الجامعات وسط مدينة غزة، وتمت تسويتها بالأرض". حينها، خطر على بالي تساؤل ساذج: "هل تقع المكتبة في العمارة نفسها؟"، حدثت نفسي نافية: "لا، نحن نجاورها فقط، ولا يمكن أن نكون في العمارة نفسها"، ثم ما شأنهم بهذه العمارة تحديداً، وخصوصاً أنها خالية من السكان! فهي مؤجرة لمجموعة من مراكز تعليم اللغات والكمبيوتر وتطوير القدرات.
كانت عشرات الوجوه تطل علينا يومياً من باب المكتبة مستفسرة: "أين عمارة كحيل؟ من أين المدخل؟". كانت العمارة مزاراً للطلاب من جميع المراحل الدراسية والأشخاص المهتمين بتنمية مهاراتهم. نسفت ذكريات هؤلاء جميعاً.
بقيت أكذّب ذاكرتي حتى ظهر اسم صاحب المكتبة في شاشة الهاتف: "سمير منصور يتصل بك..". توقّفت وقتها عن خداع نفسي. أردت مواساته بعد أن بدا صوته مخنوقاً عبر الهاتف، لكنّه بدا مستعجلاً. أراد مني الكتابة والتعليق على تدمير المكتبة عبر صفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي.
عملت في دار النشر مكتبة سمير منصور مسؤولة للإعلام والعلاقات العامة. كنت أغذي صفحاتها بمعلومات عن الكتب ومواقف وقصص لرواد المكتبة، وأغطي الفعاليات الثقافية وحفلات توقيع الكتب التي تصدر لها الدار شهادة ميلاد.
كنت على احتكاك مباشر مع العملاء وزبائن المكتبة. ولشدة تعلقي بالكتب وامتلاكي خلفية عنها – على الأقل الكتب التي قرأتها - كنت أقدم النصح للزبائن الذين لا يستطيعون تحديد خياراتهم، لكنهم يريدون البدء بالقراءة، وبعضهم يريد أن يشتري الكتاب هدية، لكنه تائه في تحديد اسم مناسب. وبينما كنت أساعدهم وأتنقل بينهم، لا أكف عن سماع تمتماتهم: "يا لحظها تعمل هنا.. ربما تقضي يومها في القراءة فقط".
أذكر أنَّ بعض الزبائن كانوا يشعرون بمحبتي، ويطلبون مني مرافقتهم للضغط على المحاسب كي يتساهل معهم، ولو قليلاً، لخفض سعر الكتب، لكنهم بالتأكيد لم يكونوا بحاجة إلى وساطتي، فزميلي أيمن كان ودوداً وكريماً مع زبائنه، وهم بدورهم اعتادوا الحديث إليه.
عند دخولك إلى المكتبة، سيقع نظرك أولاً على مكتب بُني اللون إلى يمين الباب، حيث يجلس أيمن، الشاب الثلاثيني ذو البشرة البيضاء والوجه الممتلئ. شعره أسود ولحيته كذلك. أعترف أنه لم يَرُق لي في بداية عملي. اختلفنا وتصادمت آراؤنا كثيراً. كان يعارض الأفكار والمقترحات التي أقدمها. يرفضها من دون تفكير، لكنني فهمت لاحقاً أنه ينتمي إلى المكتبة كثيراً ويحبها. ولذلك، يخشى أي تغيير قد لا يكون في مصلحتها.
خُيّل إليَّ أنه يحشو المكتبة في رأسه، فقد كان يحفظ عناوين الكتب ومؤلفيها. يُجيب الزبائن عن أسئلتهم قبل أن يلجأ إلى البحث عبر جهاز الكمبيوتر. يحضر لهم الكتب المطلوبة، ويعدهم بأن يوفر لهم ما لم يجدوه.
أفكر فيه الآن. ماذا سيفعل؟ كيف سيكون روتينه الصباحي؟ لقد اعتاد منذ 11 عاماً أن يبدأ عمله في المكتبة عند الثامنه والنصف صباحاً وحتى الغروب. هذا ليس روتينه وحده بالطبع، فزيارة المكتبة هي وِردٌ شبه يومي لزبائننا القراء والمهتمين، إن لم يكن بهدف اقتناء الكتب، فمن أجل الاطلاع على العناوين الجديدة والتقاط الصور. يعتبرون زيارة المكتبة هواية ممتعة.
تابعت الأخبار، ورأيت صور القصف عبر الإنترنت. تشوَّه الشارع الذي كان عامراً بمكتباته ومريديها. تذكرت الصورة التي انطبعت في مخيلتنا، نحن المارة، لسنوات طويلة. لم نكن نمل في طريق الذهاب والإياب من مشاهدة رتل المكتبات التي تقدم خدمات طباعة الأبحاث وكل متعلقات الدراسة، كما تبيع القرطاسية والهدايا، وكانت مكتبتنا تتوسّطها. لها واجهة زجاجية تعرض عشرات الكتب المميزة واللافتة. تتغيّر هذه الواجهة كلما وردتنا عناوين جديدة. تعتلي الواجهة الزجاجية يافطة صفراء كُتب عليها "مكتبة سمير منصور". كانت تسرّ الناظرين حقاً.
سمير منصور هو اسم صاحب المكتبة الّذي عمل في مجال الطباعة والكتب عندما كانيبلغ من العمر 14 عاماً. بدأ العمل في كنف والده الذي كان يطبع الكتب المدرسية وكراسات الرسم وغيرها، ثم اتجه إلى تأسيس عمله الخاص منذ 20 عاماً. فكّر في توفير الكتب ذات المجالات المتنوعة في قطاع غزة، ولم يكن ذلك سهلاً في ظل حصار خانق يزيد عمره على 14 عاماً. جاهد لإدخال الكتب والموسوعات العلمية والثقافية والتاريخية. لقد فقدنا كل ذلك. أصبح تحت الأنقاض.
المكتبة مكونة من طابق أرضي وعلوي. تجد في الطابق الأرضي الكتب الدينية والفقه، والكتب التاريخية، والسياسة، والأدب والشعر، والدراسات، وعلم النفس والتنمية البشرية. يرتقي بك سلم حديد إلى الطابق العلوي الّذي يضمّ سلماً حديدياً يحمل عدداً كبيراً من الكتب المرتبة على شماله، لتجد كتب اللغة الإنجليزية وتعليم اللغات والتربية وعلم النفس مرة أخرى، والقانون، والإعلام والعلاقات العامة، والإحصاء، والاقتصاد، والمحاسبة، وقسم خاص بكتب الأطفال التي تحمل اسم أرقى دور النشر العالمية. لقد فقدنا آلاف الكتب أيها القراء.
بعد يومين من الجريمة، استجمعت قوايَ، وتواصلت مع صاحب المكتبة بنيّة سؤاله عما حدث. أخبرني أنه أصرّ على الذهاب باكراً ورؤية المكتبة قبل تدميرها. اتصلت به قوات الاحتلال قبل ذلك، ولكنّها لم تمهله فرصة لإخراج أي من الأوراق أو المقتنيات المهمة.
"شاهدت المكتبة وهي تنهار وقد تكومت العمارة فوقها". قال لي. سألته: "بماذا شعرت؟". سألته وأنا أعي تماماً سخافة سؤالي، فأجابني بنبرة عالية: "شعرت بحزن وغضب شديدين لقد عملت طويلاً من أجلها. عندما اقتربت، ولم أجدها أمامي، كما كنت أراها كل مرة، شعرت بأنني وحيد بلا عائلة".
نعم، لطالما أخبرنا أن الكتب هي أحد أفراد عائلته.
يعيش منصور الآن على الذكريات التي تطارده، ويتخلَّلها الكثير من الجهد والتعب والإنجاز. بعد إنشاء المكتبة، خاض تحدياً جديداً من أجل تحويلها إلى دار نشر تتبنى نشر وإصدار مؤلفات الكتاب وتتبنى الأقلام الشابة، كما يصدر عنها "مصحف المسجد الأقصى". عشرات الكتب استطاع أن يصدرها على نفقته، كما جعلها تشارك في المعارض الدولية المختلفة.
أنا أيضاً أجمع ذكرياتي التي ائتمنت المكتبة عليها. فرحي الكبير بتحقق أمنيتي بالعمل بين الكتب، وأولى ركلات طفلي التي بدأت في المكان نفسه أيضاً. القصص التي كنت أقرأها له صباحاً، فيستيقظ ويبدأ بركلي، معلناً أنه جاهز للاستماع إليَّ. أصدقائي الأطفال الذين كانوا يأتون وحدهم بالزي الدراسي أو مع عائلاتهم. القراء الَّذين يطلبون مشورتي، وآخرون جدد يريدون بدء المشوار.
أتابع ردود الأفعال عبر مواقع التواصل. تصلنا الكثير من رسائل المواساة والدعم من أشخاص من داخل عزة وخارجها. أرسلت إحداهن تقول: "أشعر بأنّ كل كتاب تمكّنت من شرائه كان بمثابة عملية إنقاذ له"، وأخرى قالت: "لماذا دمروا المكتبة؟ كنت أنوي بعد انتهاء العدوان على غزة مكافأة نفسي بزيارتها والحصول على كتاب جديد لأقرأه". مئات الرسائل كانت على هذه الشاكلة. بعض الأشخاص يريدون أن يشتروا الكتب التي سيتم استخراجها من تحت الأنقاض، مهما كانت متضررة.
أسأل منصور عن رأيه بالتضامن والمواساة التي يتلقاها يومياً، فيقول: "بالتأكيد، جعلني ذلك أبدو بحالة أفضل. أنا اليوم أقوى، وأعتقد أنني سأعيد بناءها فور انتهاء العدوان".
لقد تمّ المساس بذاكرة 2 مليون فلسطيني في غزة، من خلال تدمير وإنهاء حياة وأماكن وشوارع. لقد دمر الاحتلال عدة أبراج تعتبر الأكثر حيوية في القطاع، مثل الجوهرة وهنادي والأندلس والشروق، وجميعها تضمّ شركات ومراكز مرّ عليها جميع أهل غزة.
لقد دمَّروا الشارع الأجمل في غزة؛ شارع "الرمال" الذي كنّا نعتبر أننا نقوم بنزهة خلال المشي فيه والتسوق من محلاته التجارية. وقتها، كان بإمكانك أن تتناول ألذ سندويش فلافل، وتتناول كوباً من شراب الليمون البارد. ما زال المذاق في فمي. ما زلت أستطيع استخراج ذكرياتي من تحت الأنقاض.