في ذكرى النكبة.. هويات المكان في التشكيل الفلسطيني
في ذكرى النكبة.. لماذا يحضر المكان في أعمال التشكيليين الفلسطينيين بأشكال وهويات متنوعة؟
سواء كانوا في الداخل المحتل أو في الشتات، شكل المكان خياراً فنياً ومقاوماً للفنانين الفلسطينيين. الكثير منهم بدأوا برؤية المكان كما عاشوه بعيداً من فلسطين، وكان لكل واحد منهم إضافة جمالية ما لرؤيته لهذا المكان.
في كتابه "استحضار المكان" (المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة/2000)، يشير الفنان والباحث الفلسطيني الراحل كمال بلاطة إلى أن النكبة كان لها أثر على الفن التشكيلي الفلسطيني قائلاً: "في تلك الأيام التي تجرد فيها الفلسطينيون من أرثهم وكافة ممتلكاتهم العائلية التي تضمنت مجموعاتهم الفنية، اختار دايفيد بن غوريون متحف الفن بتل أبيب ليعلن قيام دولة اسرائيل".
ويشرح بلاطة أن الفنان المنفي ربما وجد في اللوحة التجريدية مكاناً له، واستحضر ثبات الأرض في الشكل الهندسي المربع. هكذا شكلت النكبة حدثاً مهماً وشائكاً في جعل الفنانين الفلسطينيين الغائبين عن المكان يستحضرونه برموز أخرى مختلفة عما قبل النكبة، حيث صوروا المناظر الطبيعية للمكان، فيما شكل الاقتلاع عنه أفقاً جديداً لرؤية حياتهم الفلسطينية بعيداً من بلادهم كجزء من هويتهم.
ففي لوحات فنانين فلسطينيين، بعضهم لاجئين في الخارج أو في الداخل، يحضر المكان كتجمع بشري كحال لوحات اسماعيل شموط، ويغيب كلياً لصالح الرموز التاريخية كمكان بديل في لوحات مصطفى الحلاج، ثم كتلة بشرية وجماعية من قامات متلاصقة وغريبة عن نفسها كما يقدمها الفلسطيني الأرمني بول غوراغوسيان، ثم في الحضور الهندسي للمكان كما في أعمال كمال بلاطة، إلى أن يحضر المكان بوصفه قطعة جغرافية خضراء كما في لوحات نبيل عناني.
عكست لوحة "العطش" لشموط حكاية اللجوء. خاصة أنه رسمها في الخمسينيات بعد تجربته مع سقوط اللد بيد العصابات الصهيونية عام 1948، حيث أجبرت عائلته على الهروب إلى رام الله ومنها إلى خان يونس. ولم يسمح لهم في تلك الرحلة القسرية بحمل المياه فمات شقيقه من العطش.
نرى في اللوحة تجمعاً من البشر المتعبين وكأنهم في طريقهم إلى مكان آخر، يمد شخص ما يده بقوة في إشارة إلى العطش، بينما يسقط الأطفال على الأرض ويتداخل المشهد مع من سقطوا ومن بقوا واقفين.
يرسم شموط التعب والعطش فنشعر بقسوة هذا الخروج، خاصة أن الألوان الترابية تغطي اللوحة في تذكير بأن اندماج هذه العناصر مع بعضها البعض يوحي أن الأرض هي ذاتها هؤلاء الناس.
أما جدارية "ارتجالات الحياة" لمصطفى الحلاج فتقف بين الوضوح والغموض. وقال مرة في حوار معه: "أنا الغموض أستوضحه على بياض اللوحة". الحلاج الذي خسر نحو 25 لوحة بسبب القصف الاسرائيلي على بيروت، حمل أنقاض لوحاته وانتقل إلى دمشق حيث أكمل بقية حياته قبل أن يموت محترقاً في مرسمه بعد الحريق الذي شبّ في بيته.
تحضر في اللوحة صورة امرأة تمد يدها إلى الخلف حيث يحتمي بها ستة أطفال ويجلس على الأرض رجل مكبل، فيما يمتد شعر المرأة على طول يدها. يعطي الحلاج لحضور المرأة مساحة كبيرة في اللوحة لتبدو حرة وقوية.
وهنا نتذكر أن الوجود الجماعي للفلسطيني مرتبط بحرية المرأة. يرسم الحلاج غربة هذا المكان كما في كل لوحاته بالأبيض والأسود، حتى أنك تشعر بملامسة عناصر جديدة، حيث تتضاءل الكتلة البشرية لتقتصر على أشخاص محددين كرمز لشعب بأكمله، فيما يمنح المرأة مهمة القيادة. أما الفراغ الحاضر فهو جزء أصيل من اللوحة.
لوحات الحلاج مختلفة عن لوحات الفنان الفلسطيني الأرمني بول غوراغوسيان الذي عايش التغريبتين الفلسطينية والأرمنية، فصور لنا الأجساد المتلاصقة كأنها مكان وحضن أكثر من كونها أجساداً.
في لوحته "العائلة" (1990) تتجمع الأجساد وتتلاصق كأنها الوطن بعينه على الرغم من الغربة الساكنة في الوجوه. يغيب المكان لصالح العائلة التي تمثل الشوق لمعانقته.
أما ابن القدس كمال بلاطة فقد تأثرت لوحاته بجماليات المساجد الاسلامية "المنمنمات" وبالكنائس البيزنطية وبالفنون الغربية الحديثة. من أهم أعماله "سرة الأرض" التي تضم 12 لوحة كانت ثمرة دراسات أجراها خلال عام 1996.
ويبدو واضحاً في لوحات بلاطة أن شغفه بالهندسة هو ما جعله يركز على المربعات وتداخلها. يحضر المكان في تلك اللوحات على شكل وجود هندسي متناه في الدقة والتصوير والزخرفة.
أما لوحات نبيل عناني فيمكننا أن نخرج بانطباع أن المكان فيها ساحر بطبيعته، حيث يضيف عناني الألوان المتناغمة مع الطبيعة وتحضر الأشجار والمساحات الخضراء وأحياناً المساحات الخالية من الأشجار.
وفي لوحته "أرض مأزومة Troubled land 2018" تبدو الأرض كقطعة من الوجود الانساني الواسع. وهناك طبقات داخل هذه الأرض تشعر معها أن المكان أكثر من مكان واحد فعلياً، وأنه عليك الحفر عميقاً للوصول إليه. فضلاً عن التشوش بين طبقات الأرض الملونة. تشوش جمالي يضيف على المكان سحر ما. ويجعل الأشجار جزءاً من المقاومة والمكان.