نزار قباني.. صوت من لا يستطيعون الصراخ
في ذكرى رحيله الــ 23 .. كيف أنزل نزار قباني الشعر من سماء النُخبة إلى أرض البشر؟ وكيف نجح في أن يكون صوت الناس؟
23 عاماً مضت مذ ودَّعنا نزار قباني (1923-1998)، ومع ذلك ما زال صوته مديداً في خدمة "الذين لا يستطيعون أن يصرخوا"، إذ عبر 36 ديواناً شعرياً و12 كتاباً نثرياً ومسرحية وحيدة، كان الناس هم البداية والنهاية في كل ما كتب، لا سيما شِعْرُهُ الذي أنزله من سماء النُخبة إلى أرض البشر، ودائماً أراده أن يخرج من جدران الأكاديميات لينطلق في الحدائق العامة، ويُعايش الناس ويتكلَّم معهم.
انطلاقاً من هذه الاستراتيجية الشعرية التي رسَّخها قباني خلال نصف قرن، بات الحقوقيّ الذي يترافع عن المظلومين والمقهورين والبُسطاء من دون أن يترفَّع عنهم، مُستخدِماً في سبيل ذلك لغةً بسيطة شفيفة واضحة، قال عنها: "منذ عام 1944 وأنا أشتغل على مُعادلة لتحويل الشعر إلى قماشٍ شعبي يلبسه الجميع، وشاطئ شعبي يرتاده الجميع، وقد نجحت. حلفت ألا يبقى مواطن واحد في الوطن العربي يكره الشعر، أو يستثقل دمه، أو يهرب من سماعه أو من قراءته.. وانتصرت".
تلك اللغة بقدر ما هي سهلة التلقّي، تبقى بليغة في إيجازها، وقوَّة ألفاظها، وسلاسة نغماتها، وجماليّات ألوانها، وفرادة صوَرها، حتى لتكاد تكون قصائده أشبه بمشهديات مسرحية لا تُنسى، تُرافق الجميع وتترفَّق بهم، تواسي الحائرين، وتُعزِّي الحَزانى، وتُجبر خواطر المقهورين، وترفع صوتها في وجه المُتسلِّطين والمُستبدّين والظلاَّم، ساعيةً إلى التنوير والتثوير وإحقاق الحق، من خلال تفجير طاقات اللغة واختيار موضوعات مسكوت عنها، أو لا يُراد لأحد الخوض فيها، خاصةً وأنها بصوت قباني ونبرته العالية، باتت تُزعزِع يقينيات، وتفضح المستور، وتخترق عادات وقِيَماً راسخة، وتدعو إلى التفكير وتبنّي مواقف جديدة.
نزار قباني سعى وراء الحرية من خلال خطابه الشعري، مُنتقلاً من حرية الجسد، إلى حرية المرأة، فحرية الإنسان، ثم حرية المواطن، مُتّبعاً إياها بحرية الوطن ككل، ما جعله في سِجال دائم مع السلطات المجتمعية والدينية والسياسية والتاريخية، وفوق ذلك مع سلطة مُنتقدي شعره، ومُتّهميه باتهاماتٍ ليس أقلَّها بأن قصائده سطحية ومُمعنة في حسِّيتها.
لكن ردّ صاحب "أشعار مجنونة" كان بأنه "الجرح الذي يرفض سلطة السكين"، لذا ظلّ يرفع صوته أكثر في وجه الجمود، والقمع، والاستبداد بالرأي، مع مزيدٍ من السعي إلى خَلْخَلة السائد والتأكيد على أن "الشعر، هو هذا الصُراخ الذي نطلقه في وجه الليل حتى يصير صباحاً، وفي وجه اليباس ليصير اخضراراً، وفي وجه السجون حتى تصير حدائق، وفي وجه الخنجر حتى يصير وردة.
الشعر هو هذا الانقلاب الذي يقوم به الشاعر في داخل اللغة، وفي داخل القناعات الثابتة، من أجل تغيير صورة الكون"، حسبما جاء في ردِّه على سؤال "لماذا الشعر؟" ضمن مجلة "المجلة" اللندنية عام 1985.
وفق هذه الرؤية بدأ صاحب "قاموس العاشقين" ثورته الشعرية بتحرير المرأة، وإعادتها إلى المركز، بعدما ظلَّت لعقودٍ أسيرة الهوامِش، وتائهة في كينونتها، وفي سبيل ذلك ظلَّ يُحيك لها الحكايات، ويؤَسْطرها في كل ما يكتب، جاعلاً منها مُلهمته وقصيدته في الوقت ذاته، فهي "الأنثى اللغة" و"اللغة الأنثى" وما بينهما يُعرِّش الشعر على أصابعه، فتتحوَّل مُفرداته وتعابيره إلى حصنٍ للمرأة تلجأ إليه، وسلاح بيدها تحتمي به، وصوت فريد يُكثِّفها تستزيد منه ويتحلَّى بها، تتغذَّى به وتُغذّيه، ضمن جدليّة من جدليّات الحرية المُشتهاة، وبغنائيّة قلَّ نظيرها، بحيث أن مقامات العشق التي دوَّنها قباني صُنِعَتْ بسحرها، فَصَنَعَتْهُ، وهذا ما تجلَّى في قصائده التي كتبها بصوتها، إذ كانت هي الراوي والمروي، في اندغام كيميائي صعب التَّفكُّك، وهو ما جعل الدكتور خالد حسين يقول في كتابه "نزار قباني.. قنديل أخضر على باب دمشق": "إن ما أهداه نزار للمرأة ليس كما يُشاع: الصورة الشعرية في الرجولة والفحولة، بل اللغة التي جهد في نحتها لتصبح أداةً طيّعة في يدها، وهي تحاول التعبير عن ذاتها وعن عواطفها المكبوتة".
ولم يصل صاحب "هكذا أكتب تاريخ النساء" إلى ضالَّته، إلا من خلال التركيز على فرادة صوته، وخصوصيّة خطابه، والإمعان في توليف أبجديّاته الخاصة في الحبّ التي لا تشبه إلا ذاتها، كما أنه لدرء الاتّهامات التي طالته من مثل تشبيهه بـ"عُمر بن أبي ربيعة" شاعر الغَزَل والتشبيب بالنساء، عزَّز صرخة الأنثى في ما يكتب، رافضاً ذاك التشبيه، فهو لا يشبه إلا صورته، مُضيفاً أنه ليس الفرزدق، ولا جرير ولا الشريف الرضي، وكأنه بذلك في مُعادل موضوعي لقتل الأب الشعري، والتَّحرُّر من تبعات النسب، وثقل الإرث والتزاماته التي لا تنتهي، وهو ما جعل لغته مُتجدِّدة باستمرار، ولاهثة نحو اكتناه حداثة مستمرة، وهو ما عبَّر عنه في إحدى المرات بقوله "فحياتي كلها/ شوقٌ إلى حرف جديد".
ذاك الشوق لم يخبُ يوماً في حياة صاحب "الحب لا يقف على الضوء الأحمر"، لكن التزامه انتقل من تحرير المرأة وحدها، إلى تحرير المجتمع بالكامل والوطن، ولعلَّ هزيمة حزيران كانت المفصل الحاسِم في ذاك الانتقال من كونه شاعر المرأة إلى شاعر السياسة، رغم أسبقية بعض قصائده السياسية على عام 1967.
وقال نزار قباني في أحد حواراته عن هذا التحوُّل في مسيرته الشعرية: "في زمن الحرب الأهلية اللبنانية، وثورة أطفال الحجارة، وفي زمن سقوط الفكر الوحدوي وانتشار الفكر الطائفي، أصبحت أخجل من قصائد الحب، أنا الذي كنت الناطق الرسمي باسم ملايين العشَّاق".
ذاك الخجل تحوَّل إلى غضبٍ عارمِ في وجه الحُكَّام والسلاطين المُتخاذلين، مُحمِّلاً إياهم مسؤولية الهزيمة، وبعد ذلك استشرس دفاعاً عن الحريات والحقوق السياسية، من حرية التعبير والتفكير بعيداً من مُلاحقة السلطات، والحقّ في العيش الكريم بعيداً عن الفقر والعجز، والحق في الدفاع عن الوطن ومُقارعة المُحتل، وغيرها ما حوَّله إلى الناطق الرسمي باسم ملايين المقهورين.
الجميل في الأمر أن نزار قباني ظلَّ يكتب عن كل ذلك بذات البساطة والجمال والعُمق في وصفه لدمشق التي تستوطن فيه أينما حلّ، إذ كان كما قالها مرّة "أكتب عن المرأة وعن القضية العربية بحبرٍ واحد، أصابعي هي هي. وصوتي هو هو. وأنا موجود في عيون الجميلات كما أنا موجود في فوهات البنادق".
ولعلَّ هذا ما أثار نقمة الكثيرين الذين ظلّوا يتعقّبون كل ما يكتبه صاحب "والكلمات تعرف الغضب"، حاملين على ظهورهم عبئاً كاملاً من نظريات السياسة والأخلاق والفن، مُعلنين على الدوام امتعاضهم، ورغبتهم بأن يفرضوا عليه آراء أخلاقية مُعينة، أو منهجاً سياسياً خاصاً، أو لعبة من لعب العروض والقافية والوزن، غير عالمين أن جمالية قباني تكمُن في أنه لا يمكن قَوْلَبته وأنه "خلطة من الحرية تقف مختبرات العالم عاجزة عن تحليلها"، يكتب عن الحب بصوت أنثى، ويقرأ السياسة بعيني خبير في الدبلوماسية من دون أن يكون دبلوماسياً في مواقفه، وأكثر ما تراه عاشقاً عندما يتحدَّث عن دمشق، فله فيها أبجديّته الخاصة التي ظلَّت مُتمسِكَّة بأصابعه وحنجرته وثيابه أينما حلّ، فهو يتصوَّر قصائده كلَّها مُعمَّرة على الطراز الشامي، ومنزل طفولته في "مئذنة الشحم" هو المفتاح إلى شعره، والمدخل الصحيح إليه، أليس هو القائل بعد صدور كتابه "دمشق نزار قباني": "بعد صدور هذا الكتاب، لن تجدوا مشقَّة في العثور عليّ.. فعنواني موجود في مُفكِّرة أية وردة دمشقية.. ولغتي مُشتقَّة من مفردات الياسمين".