في اليوم العالمي للكتاب والمؤلِّف.. أين الحقوق؟
في "اليوم العالمي للكتاب والمؤلِّف".. أين حقوق الكتّاب؟ وأين الكتّاب من تفجر النرجسية والألقاب على مواقع التواصل؟
بدأت المنظّمات الدولية تنظر إلى المرحلة الحالية من مراحل تفشّي فيروس "كورونا" وتحوّراته، على أنها مرحلة قصيرة الأمد وعابرة، فعكفت على استشراف مرحلة ما بعد الجائحة عبر اللقاءات الحوارية والندوات المُنظَّمة عن بُعد، مع تزايُد الأمل بعودة الحياة الثقافية إلى طبيعتها تدريجاً، أي أن تعود الروح إلى معارض الكتب والمكتبات العامة ونوادي القراءة والندوات، إلى الأجناس الثقافية التي تحتاج إلى تجسيد نصوص مكتوبة أولاً. نصوص أنتجها مؤلِّفون. لكن، على الرغم من الأمل الذي لا يزال يُنْظَر إليه على أنه سابق لأوانه، يظهر أن الواقع في بلادنا لم يكن يحتاج إلى الجائحة كي يُعبّر عن نفسه، فالكتاب والمؤلِّف مأزومان، ولم تعالج مسألة الحقوق بجوانبها المُتعدِّدة معالجة جدّية كافية عبر المؤسَّسات الرسمية أو المنظمَّات المدنية التي تدَّعي أنّ لها صفة تمثيلة كاتحادات الكتّاب والمنظمات الأدبية والثقافية المختلفة. الواقع في بلادنا أكثر تأزّماً من أن يتعثَّر بجائحة عابرة.
أرادت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعِلم والثقافة (اليونيسكو)، أن توجِد محطَّة سنوية للبحث في حقوق صانعي أحد أهمّ أوعية المعرفة، أيّ الكتاب، فكان "اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف" في 23 نيسان/أبريل.
ويعود سبب اختيار هذا اليوم لكونه يصادف يوم وفاة الأديب الإنكليزي وليم شكسبير (1564-1616)، والإسبانيين ميغيل دي ثيربانتس (1547-1616) وغارثيلاسو دي لا فيغا (1498-1536)، على الرغم من أن اليوم المُرجَّح لوفاة هذا الأخير هو 14 تشرين الأول/ أكتوبر.
وترى المنظمة الدولية أن من أهداف تخصيصها هذا اليوم للكتاب والمؤلِّف هو "لتشجيع الناس عموماً، والشباب على وجه الخصوص، على اكتشاف متعة القراءة واحترام الإسهامات الفريدة التي قدَّمها أدباء دفعوا بالتقدّم الاجتماعي والثقافي للبشرية إلى الأمام".
ولا يلحظ أيّ نشاط فعلي للمنظمة في بلادنا، تجاهه وتجاه حقوقه، في هذه المناسبة سوى الرسالة السنوية لمديرة هذه المنظمة، والتي تُتَرْجَم رسمياً إلى العربية إلى جانب اللغات الخمس الأخرى المعتمدة في الأمم المتحدة.
سنة "أونلاين"
على الرغم من أنه من السابق لأوانه إتمام استقراء علمي جاد عن تأثير الحَجْر الصحّي الطويل، والتزام الناس بيوتهم نسبياً خلال العام الماضي، إلا أن بعض المؤشِّرات فرضت نفسها على المشهد العام، الذي تُشكّل مواقع التواصُل الاجتماعي مسرحه الأول.
تُتيح هذه المواقع لأيّ مُشترك فيها أن يدَّعي ما يشاء، إلا أن ظهور آلاف الحسابات التي تسبق أسماء أصحابها ألقاب، مثل، الكاتب/ـة، الروائي/ـة، الشاعر/ة، الناقد/ة، بل وحتى الأديب/ـة، خلال السنوات الفائتة وتزايد في السنة الأخيرة، له دلالاته على مستوى التشخيص، خاصة عند قراءة الإنتاج "الأدبي" لهؤلاء.
فهذه الموجة مؤشِّر على مستوى مُتقدِّم في عُقَدِ النقص المُستفحلة في مجتمعات تتحكَّم فيها الرثاثة، فيحاولون التعويض عن النقص المَرَضي لديهم عبر إلصاق ألقاب بأسمائهم من جهةٍ، أو إنشاء وإدارة صفحات "أدبية" تمنح "شهادات" من جهةٍ أخرى، أو ملء سِيَرهم الذاتية بإنجازاتٍ وهميةٍ من جهةٍ ثالثة... لا تتوقَّف فوائد استقراء مواقع التواصُل الاجتماعي عند كشف حقيقية أن ما كان في السابق مُجرَّد "كلام فارِغ" يُحكى في الأزقّة والمقاهي أو ساحات القرى اكتسب صفة العالمية وخلق طبقة من المُتفوّهين بالكلمة والصورة والفيديو، بل بات يُحمَّل طابعاً "أدبياً"، ويُلْصَق بأنواع أدبية أيضاً.
فالإدراج بات "قصيدة" أو "قصة قصيرة جداً" أو حتى "هايكو". والهدف الأسمى لديهم هو حصد "اللايكات"، التي لا يُخفى أنه يسهل شراؤها كذلك في بلاد يمكن أن يُشترى فيها أيّ شيء.
فوق بحر التواصُل الاجتماعي تطفو كل أنواع التفاهات وتختلط بأعمال جادَّة ونصوص متينة لكُتَّاب وشُعراء، لا تسلم من أن تُسْرَق وتُنْسَب إلى آخرين أحياناً، فيضيع الجهد ويُجهًّل أصحابه. وقد لوحِظ في الفترة نفسها نشاط مثمر من قِبَل بعض الناشطين لكَبِح جماح السرقات الأدبية عبر الكشف عنها وتتبّع مُرتكبيها وفضحهم. والطريق لا يزال طويلاً.
"عندك شي لدوستويفسكي؟"
بطبيعة الحال، إذا ما توافر المبلغ المالي الذي تطلبه بعض دور النشر، يعمد أصحاب الألقاب أولئك إلى إصدار كتاب. ولكل دار من هذه الدور عقدها وسعرها. وحيث ينعدم التقييم، ولا وجود للجنة تبتّ بأمور النشر عند تلك الدور، ولا من يراجع المادة المكتوبة مراجعة فعلية أو يُدقِّق فيها، ولا خوف من وجود نقد ونقّاد، وحيث يكون الكتاب مُجرَّد سلعة يدفع صاحب النصّ سعرها سلفاً ولا تتحمَّل الدار أية مخاطر.. عندها من الممكن طباعة أيّ شيء. أيّ شيء.
في الواقع كانت قد تباهت دار نشر "مرموقة" بأن لديها هدف – "تارغيت"، وهو أن تطبع كل يوم كتاباً. وقد حقَّقت هدفها آنذاك، فظهرت "روايات" و"دواويين". وكي تكون الكُتُب "مُحْتَرَمة" يجب ألا تقلّ عن 12 ملزمة، مع اختيار نوعية الورق الذي يعطي الكتاب سماكة، بغضّ النظر عن المحتوى.
في المقابل يعلق المؤلِّفون الجدّيون في شباك بعض تلك الدور كذلك، فتُهْضَم بعض حقوقهم، إذ عرف أحد الزملاء بالصدفة أن دار النشر التي وقَّع معها عقداً على ألف نسخة من كتابه، طبعت في الواقع ألفاً وأربعمئة. فيما أبلغت دار نشر "محترمة" أخرى أحد الكُتَّاب منذ أكثر من سنتين أن طبعة كتابه نفدت، وطلبت منه نسخة مُصحَّحة للطبعة الثانية المُنقَّحة فقام بتسليمها إياها، ثم حلّ الصمت، وفجأة بات الكتاب نفسه بطبعته "الأولى" مُتوافِراً من جديد "وقد ما بدّك في".
قد نفهم أن الهدف "الأسمى" والوحيد لدى كثير من دور النشر هو "الصراع من أجل البقاء"، أي الربح ولا شيء غير الربح، مع انحسار موجة المال السياسي، وتغيّر المُمّولين.
إلا أن تلك الدور تخلق عملياً "كُتَّاباً وشُعراء وروائيين"... تخلق "مؤلِّفين". وتصبغ الساحة الأدبية بصبغةٍ كثيفةٍ من الغثاثة تتحوَّل شيئاً فشيئاً إلى هويّةٍ مرحليةٍ للإنتاج الكُتبي.
إلى جانب هذه الكُتب يحرص الناشرون على طباعة أعمال لأسماء "بيّيعة" لا حقوق لأصحابها، مثل كبار الأدباء الروس وغيرهم. وبسبب الإصرار على "الرواية" يجب أن يكون الكتاب "دَسِماً" من حيث الحجم. يمكن أن يضمّ بضعة قصص لنيقولاي غوغول (ميكولاهوهول 1809-1852)، أو ميخائيل ليرمنتوف (1814-1841)... أو يمكن تحويل إحدى القصص إلى "رواية".
ومن عجائب الأمور أن السؤال الشائع: مَن هو الأديب الروسي الكبير الوحيد الذي لا رواية له؟ والذي جوابه من أيّ طفل أنهى المدرسة في روسيا: طبعاً أنطون تشيخوف.. هذا الجواب خطأ لدينا "طلعنا بنفهم أكتر من الروس".
إذ باتت لديه "روايات" باللغة العربية! الأمر هنا لا يتعلّق بحبّ الأدب ولا بحبّ أدب تشيخوف تحديداً، بل كل ما في الأمر أن إسمه "بيّيع" و"نحن في زمن الرواية".
لا بدّ من ناشر
قبل سنوات رفع أحد الناشرين البارزين في "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب" شعار "قارئ يا مُحسنين"، بعدها رُمِز للكتاب ثم للقارئ بتابوت ليُبكى عليهما، وبات جيل كامل يتندَّر على "كليشيه" أن العناوين الأكثر مبيعاً هي الكُتُب المذهبية والطبخ والتنجيم.
تزامن ذلك مع ترويج مقصود عنوانه "نحن في زمن الرواية"، على الرغم من أن المدينة لم تشهد رواية بمفهومها الواسع بعد رائعة توفيق يوسف عواد "طواحين بيروت"، إذ أن مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية أنتجت بعض المحاولات الجديّة ونصوصاً سردية جيّدة، أما الرواية المُنتظرَة التي تطوي حُقبة سبع عشرة سنة من قتل المدنيين على أيدي مُجرمي الحرب فبقيت مُنتظرَة. فيما بات مجرمو الحرب أنفسهم رؤساء ووزراء ونواباً، وباتت "الثقافة" بأيديهم، وهم لا يحتاجون إلى مؤلِّفين إنما إلى أبواق "يلهجون بذكرهم" فيملأون المساحات الورقية للكُتُب والصحف والمساحات الزمنية للأثير والهواء.
في زمن الطائف، و"السلم الأهلي والانصهار الوطني"، زمن "الأجهزة" و"البوريفاج" والرقابة الذاتية وهزيمة اليسار وتفرّق "مُثقّفيه" على المذاهب ومزاريب الأموال أو انزوائهم، لم يجد أمراء الحروب أية ضرورة في وجود مؤلِّفين مُثقَّفين، فجنحوا إلى الاكتفاء بالأبواق والمُصفّقين، وشراء الذِمَم والمنابر، وكان جلّ اهتمامهم أن ينشغل "المؤلِّفون المُحْتَمَلون" بالكتابة عن اللاشيء. أدرك أمراء الطوائف خطر الثقافة عليهم، ولما كانوا ضحلين فيها كان همّهم أن يتدنّى مستوى الخطاب داخل طوائفهم ليغدو دون خطابهم.
وهكذا مرّت سنوات طويلة من المُحاباة والمُمالأة وتدوير الزوايا والتلاعُب على الكلام من جهة، وتقليد مُشوَّه لما يصدر في الغرب من جهةٍ أخرى، يُسجّل فيها فقط ظهور بعض الكُتُب التي تضمّ نصوصاً متينة اخترقت الأفق اللبناني الذي كان يضيق سنة تلو أخرى، نحو الأفق العربي الأرْحَب، وحظيت بلفتاتٍ وجوائز وتقديرات. بعضها استحقّ تلك الجوائز بالفعل، مع أن الجوائز العربية مُغْرِقة في السياسة، وهي للأسف، كما أية مؤسَّسة عربية فإن هيكلها الخارجي مُستوْرَد برّاق "فرنجي برنجي" أما بنيتها الداخلية الحقيقية فلها حساباتها السياسية الدقيقة التي تُزان بميزان الذهب.
إلا أنه من المُنصف بمكان أن يغتبط المُثقَّفون لنَيْل أيّ مؤلِّف لبناني جائزة عربية، إذ أن جهده على الأقل لُحِظ بالتقدير في الخارج، فيما دولته غائبة عن السمع، ووزارة الثقافة فيها ملحقة بالزراعة أو بأية وزارة أخرى.