هل كان الأبنودي شاعر الثورة أم السلطة؟
في الذكرى السادسة لرحيل "الخال".. هل كان عبد الرحمن الأبنودي شاعر السلطة؟
"الطبل غير الشعر يا واد
ماتهبلشي
وأيّ شخص يكون شاعر
مايطبلشي
ياتقول كلامك من جوَّاك
يا متقبلشي
ملعون أبوك طالع نازل
شاعر أكره"
كتب شاعر العامية المصري أحمد فؤاد نجم الشهير بـ"الفاجومي" تلك الكلمات في هجاء الشاعر عبد الرحمن الأبنودي المعروف بـــ "الخال"، وهي جزء من قصيدةٍ تغنَّى بها رفيق دربه الشيخ إمام، وردَّدها خلفه المُثقّفون في أمسياتهم وصالوناتهم الأدبية، أو علَّهم ردَّدوا مضمونها ومعناها في جلساتهم الخاصة، سواء المُغْلَقة أو في المقاهي. ذلك أننا كثيراً ما نسمع عن علاقة الأبنودي بالسلطة ومُهادنته لهم، وهي النبرة التي تبنّاها "الفاجومي" كلما ذكر "الخال".
عاش نجم والأبنودي في خطين متوازيين ولم يلتقيا إلا في محبّتهما للشعر، وإنْ اختلفا أيضاً في رؤيتهما له. فالأبنودي القادم من أقصى الصعيد مُعبِّراً عن بيئته وشخوصه وقضاياه، بصدقٍ لم تعهده العامية المصرية، يرى أن نجم "بيكتب شعر وحش" حسب كلام نجم نفسه، بينما "الفاجومي" الثائر دائماً والمُعارِض للأنظمة السياسية المُتعاقبة، يرى أن الأبنودي "صعيدي مش جدع".
لم يُشكِّك النقَّاد ومحبّو الشعر في شاعرية الأبنودي ومنهم فؤاد نجم نفسه. فحضور الأبنودي وموهبته ومنجزه الشعري يتكفّلان بذلك. لكن تبقى علاقته بالسلطة محل شكّ دائم. فهل كان الأبنودي "شاعر أكرة" طالع نازل في يد السلطة؟ أم أن الأمر يعود إلى مفهوم وظيفة الشعر لديه كما ذكرها في حوارٍ مع مجلة "البيان الكويتية" عام 1970، باعتبارها "ليست وظيفة سياسية، فالشعر يتعامل مع الحسّ ومهمّته إعادة بناء وجدان الناس بطرح قِيَم الشاعر المُتقدّمة وإحلالها محل كل القِيَم المُتخلّفة عند الإنسان"، ويمكننا الإجابة على ذلك من خلال تتبّع علاقته بالأنظمة السياسية المصرية المُتعاقِبة.
"مش ناصري ولا كنت في يوم".. في رثاء الزعيم
في العام 1954 ضرب الفيضان محافظة قنا مُغْرِقاً بيوتها وناسها وشوارعها. حينها حلّ "مجلس قيادة الثورة" في قنا ليشارك أهلها مأساتهم، وكان من بينهم الزعيم جمال عبد الناصر شاباً يافعاً يشبه أهلها السُمر. وبينما يسير مُستطلِعاً أحوال الناس قابله طفل صغير يعرف ملامح رئيسه جيّداً. هرول الصغير باتجاه عبد الناصر ومدّ له يده مُسلِّماً، فانحنى عبد الناصر ليُسلِّم عليه بعينين حالِمتين وشامِختين. ظلَّت نظرات عبد الناصر محفورة في ذاكِرة الطفل الذي أصبح رجلاً وشاعراً كبيراً.
هذا الطفل كان عبد الرحمن الأبنودي، وكان هذا اللقاء الوحيد الذي جمعه بعبد الناصر. ظلّ "الخال" يحكي عن هذا اللقاء طوال حياته، إلا أن علاقته بالزعيم كانت كعلاقة غيره من أبناء تلك المرحلة.
فهم خاضعون لسطوته وسلطته ومحبّته الطاغية رغم اعتقاله لهم ودخولهم السجون في عهده. ففؤاد حدَّاد كتب أعذب قصائده في رثاء عبد الناصر، رغم أنه عاش في سجونه لسنوات، ثم أحمد فؤاد نجم الذي عاش ومات مُعارِضاً، لم يمتلك سوى أن يرثي عبد الناصر، وأيضاً الأبنودي الذي ذاق السجن في عهده كتب قصيدة طويلة قال فيها:
"مش ناصري ولا كنت في يوم
بالذات في زمنه وفي حينه
لكن العفن وفساد القوم
نسّاني حتى زنازينه"
ذلك المقطع الشعري هو جزء من رثاء الأبنودي لعبد الناصر. لم يكتب مديحاً في شخص الزعيم العربي سوى بعد وفاته. أما في حياته فقد عاش مُتعلّقاً بالمشروع الناصري، وكان المُعبّر عن تجربة السدّ العالي، وناقل تفاصيل وتأثير المشروع القومي للبُسطاء والعامة عبر "جوابات حراجي القط" أحد أشهر دواوينه الشعرية.
وكذلك انتقل إلى السويس ليكون لسان المقاومة الشعبية إبان حرب الاستنزاف، كما كان صوتها المُغنّي في نكستها من خلال مشروعه مع عبد الحليم حافظ، بعد أن تراجع جاهين مُتأثّراً بالهزيمة، فالأبنودي حسب وصفه - "مكان ما تكون مصر يكون".
السادات و"وزارة التثقيف الشعبي"
كان صلاح جاهين بمثابة شاعر الحقبة الناصرية، لكن منذ تولَّى محمد أنور السادات الحُكم كان يحلم بشاعر يُمجِدّه ويُحْسَب على عصره. اعتقد السادات أنه وجد في الأبنودي ضالَّته. فالأخير شاعر كبير وذائع الصيت وصاحب قصيدة "وجوه على الشط" التي تأثّر بها كثيراً، غير أن "الخال" لم يجد في نفسه ذلك، كما كانت الأيام تُخبِّئ علاقة مُتوتِّرة بينهما.
ظلت علاقة الأبنودي بالسادات هادئة خاصة أن الأول لم يخرج عن إطار كتابة الأغاني الوطنية. لكن كل شيء تغير في العام 1975، عندما تلقَّى الأبنودي اتصالاً يُخبره أن السادات ينتظره في استراحة المعمورة. ولما طلب أن يرسلوا له سيارة لأنه لا يعرف مكان الاستراحة، طالبوه أن يتدبَّر أمره على أن يتّصل بهم عندما يصل إلى الإسكندرية.
وصل الأبنودي وسُرعان ما وجد نفسه أمام الرئيس. كان من الممكن أن يمرّ هذا اليوم كغيره، لكن الأبنودي وأثناء مدّ يده للسلام، كان السادات قد أعدّ منضدة بينه وبين الخال، ليظهر الشاعر وكأنه ينحني أمام الرئيس، وهي الصورة التي تصدّرت الصحف في اليوم التالي. اعتبر الأبنودي هذا الأمر "أحد ألاعيب السادات" وكانت سبباً في تعكير صفو علاقتهما وانضمام "الخال" إلى "حزب التجمّع اليساري" وغضب السادات منه.
حاول السادات كسب ودّ الشاعر مرة أخرى، فأرسل إليه من يُخبره أنه سيجعل منه وزيراً في وزارة جديدة تدعى "وزارة التثقيف الشعبي". لكن الأبنودي اتصل بفوزي عبد الحافظ، مدير مكتب السادات، وأخبره برفضه العرض، قائلاً له إن الشارع مَن صنعه وليس الحكومة، وطلب منه إخبار السادات أنه غير مناسب لتلك الوظيفة، فقال له الأخير "حاضر" وأغلق الخط. أغلقت صفحة وزارة "التثقيف الشعبي" إلى الأبد، لكن لتبدأ صفحة جديدة من العداء بين الإثنين، ومنها "زيارات" الأبنودي المتكررة لمقرّات أمن الدولة بعد كل قصيدة جديدة كان ينشرها.
مبارك للأبنودي: "ازّيك؟ كويّس؟"
في العام 1985 أجرت الكاتبة الصحفية اعتماد عبد العزيز حواراً مطوَّلاً مع الأبنودي نُشِرَ في مجلة "أدب ونقد"، سألته فيه عن رفض السلطات لقصيدة العامية، قائلة إن شعراء العامية جزء من هذا الموقف، لأنهم "مُنعزِلون لا يطالبون بحقوقهم ولا يدافعون عنها"، مُستشهدة بدعوة صلاح جاهين لإقامة مهرجان الشعر العامي عام 86 والذي يوافق ذكرى مرور ربع قرن على وفاة بيرم التونسي، على أن تُهدى فيه الجائزة لفؤاد حداد، لكنهم لم يتضامنوا وراء هذه الدعوة لإقامتها وتساءلت عن السبب.
أجابها الأبنودي مؤكِّداً اختلافهم مع صلاح جاهين، "فهو ما زال يرى أنه في هذه الدولة أمل للحوار معها والخطاب والتسوّل منها.. بينما نحن نعلم حقيقة موقفنا من السلطات وموقف السلطات منا"، موضحاً قيمة حداد الشاعرية ومكانته في نفوسهم، وأنه ليس في حاجةٍ إلى تكريم، بل يُكرِّمه نضاله وسجنه وشعره، مضيفاً في حدّة تعكس طبيعة علاقته بنظام الرئيس محمد حسني مبارك: "نحن لا نتسوَّل من السلطة اعترافاً.. فكيف تعطينا السلطة اعترافاً وهي تخون الشعب".
في بداية تولِّي مبارك للحُكم توطَّدت علاقة الأبنودي بالسلطة، من خلال كتابته لثلاث أوبريتات قُدِّمت في مناسبات وطنية مختلفة، ورغم أنها جاءت تمجيداً لبطولات الجيش والشرطة وخالية من مديح شخص الرئيس، إلا أن لقب "شاعر الرئيس" ظلّ يُطارده في تلك الفترة. تعزز هذا الاعتقاد مع حصول الأبنودي على "جائزة الدولة التقديرية" عام 2001.
كان اللقاء الثاني بين الشاعر ومبارك عام 1997، حين كان الأخير يصطحب المُثقّفين والكُتَّاب إلى توشكى، ولعلّ ذلك المشروع هو سرّ توتّر العلاقة بين مبارك و"الخال". إذ يحكي الدكتور مصطفى الفقي أنه بعد تدشين المشروع التقى الأبنودي وقال له "إنت كتبت "جوابات حراجي القط" وثّقت فيه ما حدث في مرحلة بناء السد العالي، فلماذا لا تكتب لنا عن إبن حراجي القط في الزمن الحالي"، لكن الأبنودي لم يرحِّب بفكرته، وقال له: "إنه لا يشعر بهذا المشروع أصلاً".
اللقاء الأخير كان ضمن 30 كاتباً ومُثقفاً وجِّهت إليهم دعوة لمقابلة مبارك في قصر الرئاسة، وكانت بعد نشر "الخال" لقصيدته "عبد العاطي" التي يقول فيها: "لحظة دخول الرئيس كان واقفاً بجواري زكريا عزمي، ورغم ذلك تجاهلني ولم يُسلِّم عليَّ كالعادة، ودخل حسني مبارك، وسلَّم على إثنين، ثم التفت إليَّ، وقال بلهجةٍ تهديدية: (ازّيك؟ كويّس؟)، قلت له: (آه كويّس يا ريّس).
تنصَّل نظام مبارك من علاج الأبنودي على نفقة الدولة عام 2008، لتقع القطيعة بينهما، كما تجلَّى الخلاف في قصائد ترصد الوضع السياسي والاقتصادي طوال عهد الرئيس المخلوع، فكان أول المشاركين في ثورة 25 يناير 2011 بقصائده التي احتلت شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد.
الأبنودي للسيسي: لو جيت على الغلبان هيكرهوك ويقلبوك
بدأت علاقة الأبنودي بالرئيس عبد الفتاح السيسي في يوليو 2013. موقف الأبنودي المعارض لــ "جماعة الإخوان المسلمين" كان واضحاً، وبالتالي فإن تأييده للسيسي كان بديهياً.
لم تجمع بين الأبنودي والسيسي أي علاقة خاصة. اللقاء الذي جمعهما قبل يوم من ذكرى ميلاد الأبنودي وتخلله ثناء على تجربة "الخال"، جاء في إطار اللقاءات التي أجراها السيسي مع المُثقّفين والسياسيين والشخصيات العامة والرموز الوطنية للتعرّف على رؤيتهم المُستقبلية للأوضاع في مصر.
بعد اللقاء خرج الأبنودي في الإعلام ليعلن تفاصيل لقائه بالسيسي وتأييده له، حتى أنه نشر عبر حسابه على "تويتر" رُباعية بالعاميّة المصرية قال فيها:
"حضن عليها بجناحك
وأحلم لها بأعزّ صباح
ونام أيديك حاضنة سلاحك
للفتح يا (عبد الفتاح)"
قوبِل كلام الأبنودي بهجومٍ شديدٍ. مناصرو "الإخوان" رأوا في حديث الأبنودي وتأييده للسيسي نوعاً من التقرّب للسلطة ومُعاداتهم، وكذلك بعض المُثقّفين الذي تحدثوا عن "ركاكَة" الأبيات الشعرية وصدمتهم بموقف الشاعر المؤيِّد للمُشير على حساب منافسه حمدين صباحي المدعوم آنذاك من القوى المدنية.
فاز السيسي بالانتخابات الرئاسية عام 2014، لتبدأ علاقة جديدة بينه وبين الأبنودي تأرجحت بين التأييد أحياناً والمعارضة في أحيانٍ أخرى، وكان أشدّها في 13 تموز/يوليو 2014. أي بعد شهرين تقريباً من فوز السيسي حيث قرَّرت حكومة إبراهيم محلب رفع الدعم عن المواد البترولية ويبدأ الاحتقان في الشارع المصري.
حينها ظهر الأبنودي في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي وائل الإبراشي معلناً رفضه لقرارات الحكومة الجديدة معتبراً أنها "انحياز للأغنياء على حساب الفقراء من شأنه إفقاد شعبية السيسي"، مُضيفاً في حديث وجَّهه للرئيس المصري قال فيه: "البنزين ارتفع بطريقةٍ بشعة، لو جيت على الغلبان هيكرهوك ويقلبوك، والحكومة كان يجب أن تبدأ بالأغنياء لا بالغلابة والبسطاء".
لم يكتفِ الأبنودي بالتصريحات الإعلامية فكتب قصيدة بعنوان "مرسال"، وهي عبارة عن رسالة شديدة اللهجة وجَّهها للسيسي، استخدم فيها لغة تحذيرية من غضبة الشعب وثورته في حال إحساسه بالظلم، قال فيها:
"الشعب عُمره ما راح يعود للوَهم
والرجرجة في القول والأفعال
المسألة غياب سلوك الحسم
في حرب جبارة جهاد وقتال
المسألة مش دعم
رايحين لفين دا الأهم"
وصل السيسي إلى سدة الرئاسة في العام 2014، ورحل الأبنودي في العام 2015. لم يعش في ظل هذا الحُكم أكثر من عام. أيَّد السيسي حيناً، وعارضه حيناً آخر، لكن المؤكد أن الأبنودي لم يعرف في تاريخه معارضة مُستمرّة أو تأييداً دائماً. كما عاش غير منشغل بآراء المُثقفين وتصنيفاتهم أو محاولة الإجابة عن سؤالهم الأبدي: هل كان شاعراً منحازاً إلى الحُكّام؟