الفلسطيني في الأدب "الإسرائيلي": حضور متسلّل لضمير غير متطهّر
يمثّل الفلسطيني إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية الإسرائيلية، فأي صورة يحتلها العربي والفلسطيني في الأدب العبري؟
في تعريفه للأدب الصهيوني، يقول غسان كنفاني: "هو الأدب الذي كُتب ليخدم حركة استعمار اليهود لفلسطين، سواء أكتبه يهود أم كتّاب يعطفون على الصهيونية ويخدمونها مباشرة أو غير مباشرة"، فثمة كتّاب يهود كتبوا أدبًا لا يتعلّق بالمشروع الصهيوني، كما أن كتّابًا غير يهود كتبوا أدبًا يخدم الصهيونية بلغات غير عبرية.
أما الكاتب "الإسرائيلي" زئيف جابوتنسكي فيقول: "إن الكاتب اليهودي هو الذي يكتب بروح يهودية وللقارئ اليهودي"، ففرانز كافكا التشيكي اليهودي دخل في الذات الإنسانية وكتب أدباً عالمياً، وراينر ماريا ريلكه الألماني من أم يهودية لم يدخل في عملية تشويه صورة الفلسطيني التي كانت وشماً في الأدب "الإسرائيلي".
لطالما ارتبطت نظرة اليهود للشخصية العربية بمعتقدهم الديني، حيث لم يرد أي نص في العهد القديم يتعلّق بالعرب إلا وفيه ذم وإساءة للعربي، وانسحبت هذه الإساءة داخل الكتابات اليهودية عن العرب على مرّ العصور وصولًا إلى الكتابات الحديثة.
فقد اشتغل الأدب الصهيوني على تزوير التاريخ الدموي بحق الفلسطينيين من المقولة الأولى عن فلسطين "أرض بلا شعب" إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيّتهم، ويروّج أيضاً هذا الأدب لفكرة أن "إسرائيل" جاءت بالتقدّم والرفاهية لأرض متخلّفة بائسة لم تكن سوى خراب، ويمثّل الفلسطيني إحدى الشخصيات الرئيسية في الرواية الإسرائيلية الحديثة ويبدو في نموذج نمطي شبه موحّد: "البدوي"، "المتوحش"، "المتخلّف"، "كائن طفيلي"، "لصّ"، "سفّاك دماء"، والمحمّل دائماً بكل ما هو خالٍ من القيم الأخلاقية والإنسانية في محاولة لشحن القارئ "الإسرائيلي" بالاحتقار للفلسطيني.
ومن أوائل الذين تطوّعوا للكتابة حول هذا الموضوع شموئيل يوسف عجنون الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1966 الذي قام بإقحام صورة العربي "المتوحشة" في أحداث قصته "تهيلا"، وحاييم هزاز الذي أسهب كثيراً في الإساءة إلى صورة العربي في إنتاجه الأدبي.
وقد سار على نفس النهج روائيون آخرون منهم يوسف حاييم برينر، ويهودا بيرلا، وموشي شامير، والشعراء شاؤول تشرنخوفيسكي، نتان ألترمان وديفيد شمعوني حيث قاموا بعرض الشخصية العربية في قصائدهم بشكل سلبي أيضاً واعتمدوا مبدأ النمطية في تصوير العربي، والفلسطيني تحديداً، بأشكال سيئة مثل "التخلّف" و"العدوانية".
لكن ثمة أصوات أدبية كانت ربما أقل عنصرية تجاه الفلسطيني مثل يزهار سميلانسكي وعاموس عوز وديفيد غروسمان وأبراهام يهوشواع، ما يدفعنا إلى التساؤل: هل حقًا حاول هؤلاء الأدباء تغيير الصورة النمطية عن الفلسطيني وإظهاره أنه "الضحية"، أم أنها كانت مشاعر مؤقتة؟
فالكاتب يزهار الذي كشف الوجه البشع لــ "إسرائيل" ودان مجازرها وسلوكها تجاه الفلسطينيين عاد قبل وفاته ووصف العرب بآكلي لحوم البشر. نسأل هنا كيف هي صورة الفلسطيني الحقيقية في الأدب العبري؟ وهل ثمة أزمة ضمير في مكان ما تجاه الفلسطينيين بين بعض الأقلام الأدبية الإسرائيلية؟
هذا ما حاولنا التعرّف عليه مع عدد من المثقفين المتخصّصين بهذا الأدب: أنطوان شلحت وعبد الرحيم الشيخ من فلسطين، نازك عبد الفتاح، أحمد فؤاد أنور، نهلة راحيل، وناهد راحيل من مصر.
يردّ الكاتب أنطوان شلحت: "إن موضوع صورة الفلسطيني أو العربي ينبغي إخضاعه للدرس والتحليل ضمن ما ساهم فيه الأدب الإسرائيلي بشكل خاص، والنخبة الثقافية في دولة الاحتلال بشكل عام، داخل الإطار الأوسع لحدّي الذاكرة والنسيان، وفي خضم محاولة تفكيك بنية كل منهما، نظرًا إلى كونهما جزءًا رئيسًا من منظومتي الهيمنة وبناء "الذاكرة القومية الجماعية". وبطبيعة الحال هذا يحتاج إلى وقفة مطوّلة، ولكنني بإيجاز أستطيع القول إنه داخل هذين الحدّين ما تزال نزعة تنميط شخصية العربي تطغى على معظم النتاج الأدبي العبري".
ويضيف صاحب "أسطورة التكوين- الثقافة الإسرائيلية الملفّقة" أنه سبق أن أثبتت دراسات عدّة أن التعامل السلبي حيال الإنسان العربي من طرف الإسرائيليين يتم اكتسابه في جيل مبكر لدى جميع فئاتهم، وذلك بصورة غير منوطة قطّ بموقف فئة معينة دون سواها، وهو تعامل يتكوّن من ثقافة المجتمع. وهذا التعامل لا ينفك يشكّل موشورًا يصدر المجتمع المذكور، عبره، حكمه القاطع على الإنسان العربي. وهو يؤدّي حتماً إلى حكم منحرف وانتقائي ومختلّ يلقي أوزار المسؤولية، مثلًا، عن إيجاد الصراع واستمراره (وكذلك عن منع الوصول إلى حلّ له) على كاهل ذلك الخصم. وهو حكم يتمحور، بصورة حصرية وإطلاقية، حول "عنف الخصم" فقط، ويحول دون أي تعاطف وجداني حياله ودون أي اعتبار لحاجاته. ولئن كان هذا الكلام يكمن أشياء فإن الشيء الأهم أن حضور العربي في الأدب والثقافة في إسرائيل كان ولا يزال مأسورًا بـ"الحاجة" اليهودية إلى هذا الحضور. ولذا فهو يظل، أولًا ودائمًا، مغلّفًا بمجموعة من الأحكام هي أقرب إلى البدهيات أو المفهوم ضمنًا المرتبطة بما ينبغي تذكره وبما يتعيّن نسيانه.
ويخلص مترجم "كيف لم أعد يهودياً" لشلومو ساند إلى أن الاستثناء الوحيد ربما يظلّ من نصيب الحضور المتسلّل من شقوق تصيب الإجماع أو البدهي. وأحد أشدّ هذه الشقوق حضوراً في الآونة الأخيرة يتمثل فيما يمكن توصيفه بـ "الأدب القياميّ (الأبوكاليبتي)"، وما ينطوي عليه من قدرٍ ملفتٍ من التشكيك بالممارسة والمسلّمات الصهيونية على وجه الخصوص. بيد أن هذا الأدب غير متطهّر، في معظمه، من دلالات ما أسميناه بـ"الحاجة اليهودية"، ولذا فهو لا يتخلّص من بعض مظاهر التنميط السلبي والعنصرية حيال الإنسان العربي، وإن كانت كامنة في كثير من الأحيان، وفي ذلك ما يفسّر لماذا لا يستطيع تقديم مقاومة حقيقية وثابتة للفكر المهيمن".
من جهته، يقول عبد الرحيم الشيخ إنه لا يوجد تعبير واحد تجاه صورة الفلسطيني في الأدب العبري، بل صور متعددة: "قبل نشوء الدولة، وبعد نشوئها، والآن. إن عاموس عوز و أ. ب. يهوشواع هما صهيونيان يمثّلان أسوأ أنواع النفاق الثقافي. وفضلاً عن عنصريتهما في الكتابة، فقد سبق لهما أن أيَّدا شارون في عدواناته على الشعب الفلسطيني، وهاجَمَا كتَّاباً عالميين، مثل خوسيه ساراماغو، ووصفوهم بالمضلّلين، واللاّساميين، جرَّاء تضامنهم مع الضحية ضد الجلاد".
ويتابع مترجم "أراضٍ للتنزّه" لعوز شيلح أنه بالنسبة لأزمة الضمير فالمؤشّرات عليها نادرة، لأن مجتمع المستوطنين الصهيوني "محصَّن ضميرياً" بالجيش الذي يعتبرونه ضماناً لعدم تكرار المحرقة، وأن سبب "الأزمة" المباشر هو ما وصفه محمود درويش، مرَّة، بـ"اصطدام الوعي الإسرائيلي بالحقيقة الفلسطينية."
وقد تجلَّت تلك الحقيقة للعامة في المجتمع الصهيوني بعد صدور الكتب الأولى للمؤرخين الجدد في العام 1988، بُعيد انتفاضة الحجارة، واستمرّت حتى نشر وثائقي "تكوما (البعث)" في العام 1998 قُبيل انتفاضة الأقصى. وقد أدَّت إزالة السرِّية عن كم هائل من وثائق الأراشيف الصهيونية إلى ظهور ثلاثة تيارات نقدية: مؤرّخون جدد تناولوا الصراع العربي- الصهيوني، واجتماعيون جدد اشتغلوا على السياسات الاجتماعية للدولة وحركة العمل، وثقافيون جدد أحيوا الأخلاقيات اليهودية في نقد الإجرام الصهيوني. وعلى ما يبدو، برأي عبد الرحيم الشيخ، أن حدَثَيّ 1988-1998، زادا من وضوح دم الفلسطينيين الذي لم يجفّ، وتلوين أشباحهم النشطة، "أحيانًا الأشباح تكمل أدوار البطولة بطريقتها الخاصة، وتلاحق المجرمين ونسلهم. أشباح الفلسطينيين لا تزال حاضرة في المكان الفلسطيني، وهي تؤرِّق نسل القتلة من الجيلين الأول والثاني في دولة المستوطنين".
ويختم الشيخ: "تحضرني كتابات ثلاثة من "الشبَّان" كمؤشِّر لافت، ليس على تغيُّر صورة الفلسطيني في الأدب الإسرائيلي، بل على تغيُّر نظرة بعض الإسرائيليين لما حلَّ بالفلسطينيين من مأساة في الواقع. فالمسألة لا تتعلّق بالصورة، بل بالأصل. وقد تمكَّن كتّاب مثل عوز شيلاح وتومر غاردي ونوعم حيوت من رؤية أطياف الفلسطينيين في أمكنة "ذاكرتهم الأليفة" كأطفال، أو خلال خدمتهم العسكرية، أو عبر حوادث شخصية أكثر مأساوية. يكتب هؤلاء ما يمكن أن نطلق عليه "أدب الاعتراف" الهجين الذي يمزج بين السِّيَري، والوثائقي، والروائي. وقد صدرت أعمالهم، باستثناء شيلاح، ضمن سلسلة "العنزة السوداء" التي يحرِّرها حنان حيفر (أستاذ الأدب والنظرية النقدية في جامعة ييل الأميركية) لدار نشر "الكيبوتس الموحَّد" منذ العام 1997. وتعبِّر كتابات هؤلاء عن تيار نقدي لجرائم المشروع الصهيوني: فكرةً وحركةً ودولةً، وذلك عبر زلزلتها للقار والوثوقي في الثقافة الصهيونية، وبالتحديد: حدث نكبة العام 1948 الذي لا يمكن قبوله كـ"واقعة استقلال"، والموقف الأخلاقي من الخدمة في جيش الاحتلال، ونقد المؤسّستين الأكاديمية والثقافية كشريكتين في الجريمة الاستعمارية، والتفريق بين الوطن والأرض والدولة، واتّخاذ موقف من اللغة العبرية نفسها وقد صارت لغة مستوطنين، ومن هنا القرار، في بعض الحالات، بالكتابة بغير لغة الأم (العبرية)، واللجوء إلى لغة زوجة الأب (الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية). هؤلاء باعتقادي من يعبِّرون عن "طفرة العنزة السوداء في الأدب الإسرائيلي".
أما الكاتب أحمد فؤاد أنور فيصف الأدب العبري بأنه أدب يقلّد الغرب، وأنه قام في البداية على الترجمة وعلى التقليد، وأنه في الوقت نفسه يُعدّ أدباً مقنّناً لخدمة الأفكار الصهيونية، وبالتالي من يخرج عن هذا الخط يتمّ تهميشه شخصياً. فمعظم الأصوات التي يتم دفعها إلى الساحة هي أصوات مؤيّدة لترهيب الفلسطيني، وهذه الاتجاهات يتم إصدارها من خلال مصطلح "عربي"، بمعنى أن الفلسطيني في الواقع هو مجرّد عربي، وبالتالي يمكن أن يرحل إلى أي دولة عربية.
ويتابع صاحب "الأدب العبري المعاصر" أنه يتم تصوير الفلسطيني على أنه قذر وخائن للعهود في الأدبيات العبرية، ويتم الإشادة بهذه الأعمال. فخيانة الفلسطيني تبدو في الأدب العبري كخيانة لوعد أو اتفاق مع الجانب الصهيوني وخيانة للمجتمع. وما يجدر ذكره أن بعض هؤلاء الأدباء خدم في العصابات الصهيونية وخضعوا للتجنيد الإجباري، ما عدا عدد محدود جداً من الكتّاب "الحريديم".
ويرى أحمد فؤاد أنور أن بعض الأصوات، مثل عاموس عوز وأبراهام يهوشواع ويانون نير وأورلي كاستيل، ترفع لافتات أكثر اعتدالاً في هذا الأمر، ويتم الحديث عن بعض الحقوق التي يمكن ردّها، والأخطاء التي وقعت بها المؤسسات الإسرائيلية والدعاية المغرضة، لكن أنور يعتبرها في إطار تفريغ شحنة الضمير أو بمعنى آخر تجميل وجه إسرائيل القبيح، ويرى أن هذا التوجه قد يكون ظاهرًا، ولكن في المقابل يتم منح الجوائز والمناصب الدبلوماسية لمن يروجّون للنظرة الرسمية، لمن يشوّهون صورة الفلسطيني والعربي بشكل عام، كما أن هناك ضغوطًا على التيار الأدبي، المرفوض رسميًا، يمكن أن تتمثّل في حصار اقتصادي وتشويه إعلامي، كما حدث مع المؤرخين الجدد الذين خفت صوتهم واضطر بعضهم للتراجع عن مواقفه وكتاباته!".
بدورها، تشير نهلة راحيل، الباحثة في الأدب العبري النثري، أن الشخصية الفلسطينية مرّت بتحوّلات عدّة أثناء تمثّلها سردياً بالأدبيات العبرية المختلفة، وكانت حرب 1948 نقطة فاصلة في تغيير نظرة اليهودي/ الإسرائيلي لأصحاب الأرض الأصلانيين بعد المواجهة العسكرية/ الأخلاقية معهم، حيث أصبح الفلسطيني هو العدو الأول الذي يجب إبادته لتحقيق الوجود اليهودي على أرضه. وأن صورة الفلسطيني "المتسلّل" احتلّت العديد من الأدبيات العبرية التي أظهرت محاولات عودة الفلسطينيين لأراضيهم ولديارهم التي احتلها مستوطنون يهود في السنوات الأولى من إقامة الدولة الإسرائيلية بوصفها "هجمات" تخريبية تهدف إلى القضاء على الدولة الناشئة وتهدّد شرعية الاستيطان اليهودي للأرض".
وتضيف راحيل: "رغم استدعاء الشخصية الفلسطينية وتمثيلها أدبياً بالمرويات العبرية آنذاك في شكل نمطي: "العدو المخيف" أو "المتسلّل المخرب"، فقد ظهرت بعض الأصوات الأدبية التي جسّدت الشكل المعقّد للشخصية الفلسطينية التي وضعت اليهودي في اختيار أخلاقي بين الالتزام الجمعي الذي يحتّم قتال الفلسطيني لترسيخ الوجود اليهودي على الأرض، والشعور الإنساني الذي يحتّم التعاطف معه بعد هدم منازله وطرده من وطنه. هذا الإدراك الأدبي بإشكالية العلاقة بين الفلسطيني والإسرائيلي داخل الدولة الجديدة، أفرز محاولات لإيجاد صيغ من التعايش المشترك بين الشخصيتين، تجسّدت في عدة سرديات عبرية تتطرّق إلى ثيمة اللقاء بين "ضحايا" النازية و"ضحايا" النكبة على أرض فلسطين، وذلك بهدف الترويج لمفهوم "النكبة المشتركة"، كسبيل شرعي لتحقيق المصالحة بين الطرفين وإرساء التعايش المحتمل بينهما".
وتعتبر صاحبة "النكبة والنازية - دراسة في رواية الأجيال" أنه في فترة الستينيات والسبعينيات وما بعدها حدثت تغيّرات واضحة في التصوير الأدبي للشخصية الفلسطينية؛ حيث أصبح العربي الفلسطيني جزءاً أصيلاً من القلق الوجودي لدى الفرد الإسرائيلي، فظهرت في السرديات العبرية ثيمات كتأنيب الضمير ومساءلة النفس وأزمة القيم ونقد الذات وتفكيك الصهيونية. ولذلك، عكست روايات/ قصص الأدباء الإسرائيليين، كعاموس عوز وأ.ب. يهوشواع وبنيامين تموز ودافيد جروسمان وغيرهم المشاعرالمركّبة تجاه الفلسطيني الذي تطوّر تصويره من مجرّد النموذج النمطي ليصبح شخصية فعّالة تدخل في مواجهات جدلية مستمرة مع الآخر الإسرائيلي".
وتؤكّد راحيل أن "المدوّنة السردية العبرية هي عرض دالّ على واقع المجتمع الإسرائيلي غير المتجانس وأزماته الهوياتية، ومن ثم، فقد فرضت حالة التعدّدية الثقافية، الناجمة عن الانتماءات المختلفة لليهود المشكّلين للمجتمع الإسرائيلي والتقائهم بالفلسطينيين الباقين في أرضهم بعد الاحتلال، تمثيلاً أدبياً مغايراً للشخصية الفلسطينية، التي ألزمت العديد من الأدباء الإسرائيليين، خاصة ذوي الأصول العربية، مثل ساسون سوميخ وسامي ميخائيل وألموج بيهار وغيرهم، أو الأدباء الفلسطينيين الذين يكتبون بالعبرية، مثل سيد قشوع وأيمن سكسك وغيرهما، بتبنّي مصطلح "التفاوض" وطرح فضاء الالتقاء بين الإسرائيلي والفلسطيني على صفحات كتاباتهم الأدبية، وضرورة بروزهما معا داخل دولة "ثنائية القومية" تحتّم عليهما العيش في مجتمع مشترك رغم الاختلافات التي قد تبدو غير قابلة للحل".
أما ناهد راحيل، الأخت التوأم لنهلة راحيل والباحثة في الأدب العبري الشعري، أن "عبارة (يا أولاد فلسطين أنا معكم) التي أبدى فيها الشاعر آفوت يشورون تعاطفه مع الفلسطينيين في إحدى قصائده التي كتبها في خمسينيات القرن العشرين، تُعد أول اتصال مباشر بقضية تجاهل الفلسطينيين وتهميشهم من المشهد الإسرائيلي عقب حرب 1948، ويتضامن يشورون مع اللاجئين الفلسطينيين مستخدماً العربية في خطابه الشعري، وقد تم التعبير عن هذا التعاطف وعرض الفلسطيني في صورة الضحية في عدد غير قليل من القصائد التي كتبها الشعراء على إثر حرب لبنان الأولى والانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وقد تمحور شكل التمثيل لدى الشاعر يتسحاق لاؤور مثلاً في كون الفلسطيني ضحية يجب التعاطف معها متجاهلاً دورها في المقاومة".
وترى راحيل أن "الأدب العبري ارتبط منذ البداية بإيديولوجياته المعقّدة التي رافقت مهاده الأوروبي الأول في القرن الثامن عشر ثم صعوده المستمر مع السيطرة الإمبريالية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر، كما ارتبط بمفهوم الحداثة وما فرضه من مذاهب اتخذت من مبادئ العقلنة والأفكار الشمولية بطانة لها، فمثلما تأثر بأفكار التنوير الأوروبية تأثر كذلك بالمد القومي الأوروبي ومحاولات البحث التاريخي عن الجذور، وبالحركة الرومانسية وارتباطها بالاستشراق في مرحلته الاستعمارية، لذلك لم تختلف نظرة الشعر العبري للشخصية العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص وتمثليها عن منظومة التمثيل الاستشراقية التي عمدت إلى اختلاق الشخصية العربية وصناعتها بما يتناسب مع أهدافها وبالصورة التي يسهل معها التحكّم بها، لذلك كان تنميط الطبيعية الفلسطينية في بنى ايكزوتيكية وغرائبية مسيطراً على الخطاب الشعري لبعض الشعراء ذوي الأصول الغربية مثل نتان ألترمان وحاييم جوري وليئة جولدبرج".
وتضيف راحيل أن الشخصية الفلسطينية اتّخذت مساراً مغايراً في الخطاب الشعري ما بعد الحداثي خاصة بعد الانتقال من إطار الذاتية المعرفية إلى مفهوم الغيرية الثقافية، "سنجد شعراء مثل سامي شالوم شطريت وألموج بيهار وموئيز بن هاروش وغيرهم من الشعراء أصحاب الأصول الشرقية يعتمدون مبدأ التضامن مع الفلسطيني في سبيل استعادة تشكيل هويتهم الثقافية المهمّشة؛ ولذلك أصبح استدعاء خطاب الشعراء الفلسطينيين مثل محمود درويش وطه محمد علي وسميح القاسم استراتيجية خطابية للردّ على تلك الاتهامات التي تعاملت مع الثقافة الشرقية العربية من نظرة فوقية قائمة على مبدأ التراتبية الذي تعتمده المؤسسات الأدبية داخل المجتمع الإسرائيلي وتفسر به الظواهر الثقافية من منظور يخدم التمركز الغربي".
من جانبها، توضح الكاتبة نازك عبد الفتاح أن هدف أدباء العبرية الحديثة كان تنوير أبناء جلدتهم المقيمين فى جميع بلدان أوروبا وتحريرهم من "الجيتو" اجتماعياً وفكرياً ودينياً وثقافياً، فكرّسوا جهودهم لمحاكاة الآداب الأوروبية الحديثة. ومنذ أن نفثت الصهيونية سمّها وراحت توهم الأدباء بمفاهيم زائفة عن "أرض الميعاد"، ركب الأدباء هذه الموجة وراحوا يبرّرون فكرة زرع وطن قومي لليهود المشتّتين فى جميع أنحاء العالم فى فلسطين، وصارت أقلامهم سلاحاً يدافعون عن أنفسهم باغتصاب أرض ليست ملكهم، ويخلعون صفات الوحشية على الفلسطينيين سكان البلد الأصليين، ضخّم ذلك احساسهم المتفاقم بأنهم أخيار البسيطة وأكثرهم مجدًا وعظمة إلى درجة من العجب والكبرياء.
وتشير صاحبة "أضواء على الأدب العبري الحديث" إلى أن الأدباء المحدّثين لم تغمض أعينهم طويلاً عما يدور حولهم، فبرزت فى منتصف القرن الماضي مجموعة من الأدباء "الموجة الجديدة"، وراحوا ينقدون الاستيطان وينعون الديموقراطية المفقودة وينتهجون أسلوب الهجاء فيما أُطلق عليه "أدب الاحتجاج" (مثل بنيامين تموز، دافيد شاحر، أهرون ميجد، حانوخ برطوف وعاموس عوز).
وفيما يتعلّق بالأدب العبري المعاصر تسرد عبد الفتاح مقتطفات من رواية للكاتبة الإسرائيلية دوريت رابينيان تعمل على ترجمتها حاليًا إلى العربية هي "سياج من شجر"، تقول عبد الفتاح: "هي سيرة ذاتية اقتبست الكاتبة رقعة من حياتها فروتها وفي حقيقة الأمر أخفت الكاتبة في طيّاتها رموزًا لرقعة أشمل ضمّت فى طياتها نماذج من الفلسطينيين والإسرائيليين المتحمّسين كلّ بأحقيّته فى الأرض. تقول رابينيان إن عنوان الرواية "سياج من شجر" أو "جدار حي" يجسّد مثالاً للتمويه وطمس الحقائق، وأن الإسرائيليين يوهمون العالم بأن هذا السور بين القدس والضفة هو مجرد سياج من شجر تسهل إزالته، وهو في الحقيقة جدار يصعب هدمه، وهو بالفعل أخطبوط سوف يطيح بالأخضر واليابس، ويجعل حل القضية الفلسطينية أمراً مستحيلاً. إن الإسرائيليين لم يكتفوا ببناء هذا الجدار من الخرسانة والحديد والإسمنت، بل راحوا يهدمون منازل وممتلكات المواطنين الفلسطينيين المجاورة. وبقرار من قادة "جيش الاحتلال الصهيوني" لا يمنحون لهم تصريحًا ببناء منازل مجاورة بذريعة قرب هذه البنايات من الجدار وخطورة ذلك عليه، وهي قرارات تبرز مدى السيطرة والهيمنة على المواطنين الفلسطينيين، كما تبرز بلا شك التمييز العنصري. وتتابع رابينيان في روايتها السيرذاتية أن التمييز العنصري بين الإسرائيليين وبين الفلسطينيين يتجسّد في أن مساكن الإسرائيليين في المستوطنات اليهودية هي فيللات من طابقين أو عمارات من عدة طوابق مدهونة باللون الأبيض وأسطح مليئة بالقراميد الحمراء، بينما مساكن الفلسطينيين عشوائية، ضاربة إلى اللون الرمادي، كأنها لم تكتمل بعد. وفي نظر الكاتبة أن تركها هكذا دون إكمال يوحي بأنها مساكن مؤقتة يسهل طردهم منها، وفي الواقع، أن هذه المساكن الفاخرة التى يقيم فيها الإسرائيليون تمثّل نموذجًا صارخًا لسخرة العمال العرب الذين قاموا على بنائها ليل نهار. وتضيف الكاتبة الإسرائيلية "رغم أنهم عمال سخرة، عزّل من السلاح، كان الآباء الإسرائيليون يوغرون صدور الأبناء بأن العرب أقوام همجية وأن هؤلاء العمال سوف يخطفونهم وينكّلون بهم إلى حد أن الأطفال الإسرائيليين كانوا يحملون بين أصابعهم دبابيس يرشقونها فى صدر كل من يحاول الاقتراب منهم، أو يفرّون صارخين "عرافيم، عرافيم" (عرب، عرب)، وكأنهم يَرَوْن أمامهم ذئاباً".