ثورة تونس..بين السَرْد والتخييل
مثَّلت الثورة التونسية فرصة لــ "الفَضْفَضة" والتعبير عن تجارب مريرة.. فكيف تجسدت في الرواية؟
لخَّص طه حسين أدب الثورة بالقول: "إن كتابة الثورة أو الكتابة عنها مختلفان ولكنهما يلتقيان عند الكاتب المُلتزِم الذي يستطيع أن يُزاوج بين الثورة كتجربةٍ إنسانيةٍ وبين الكتابة كمَلَكَةٍ وقُدرة على السفر بالواقع إلى التخييل وتقديمه إلى القرَّاء الذين يمنحونه حيوات أخرى".
أحدثت المُراوحة بين التخييل والتجارب الإنسانية الواقعية في تونس وِفْرة وطَفْرة نوعية في الإنتاج في مجال الرواية منذ العام 2011. حيث نكاد نسمع كل أسبوع عن إصدارٍ جديدٍ من دور نشرٍ مختلفة سواء أكان ذلك ضمن "أدب السجون" أو غيره من الأشكال الأدبية التي وثَّقت أحداث الثورة وما قبلها وما تلاها.
من المؤكد أن الثورة مثَّلت فرصة لــ "الفَضْفَضة" والتعبير عن تجارب مريرة ظلّت محفورة في الأذهان وربما آثارها ما زالت على الأجساد أيضاً.
أما الاستثنائي فهو أن الكثيرين خاضوا تجربة الكتابة كلحظة صدقٍ على حدّ تعبير ارنست همنغواي، من دون أن يكونوا كتّاباً ولا أدباء قبل ذلك، لكن الشجاعة التي عززتها الثورة منحت البعض القدرة على التعبير من دون قيد.
ولعلّ جمالية هذه الأعمال كامِنة في ما قال عنه فيكتور هوغو "أعظم أعمال الإنسان تظهر في الصراعات الصغيرة، الحياة، البلاء، العزلة، الهجر، الفقر، كلها ميادين معارك لها أبطالها، وهم أبطال مغمورون، لكنهم في بعض الأحيان يكونون أعظم من الأبطال المشاهير".
يتراوح مضمون الأعمال المكتوبة خلال العقد الأخير بين سرد سِيَر ذاتية أو وقائع مُتخَيَّلة وأخرى كان الكاتب شاهداً على صراعاتها ومعاركها.
ودعت الرواة الحاجة المُلّحة للتعبير والتوثيق علاوة على غزارة المادة المُتوافرة من أحداثٍ كانت مُعْتٍمة ومُخفية بين قضايا التحيّل والتعذيب والمُلاحقات والتضييقيات وغيرها من فظاعات نظام بن علي.
على مستوى الشكل فإن الروايات تزدان بجملةٍ من الخصائص السردية لهذه النصوص حيث تحتوي أغلبها سرداً لجملة من القصص تدور أحداثها ضمن القصة "الأمّ" أو القصة "الإطار". ويُراوِح الكاتِب فيها بين الواقعية والخيال. فالشخصيات وإنْ كانت من مَحْضِ خياله فهي إحالات على شخصيات حقيقية في مكانٍ ما من تونس.
من ناحيةٍ أخرى قد يتعدَّد الرواة وتظلّ عين الكاتب ترقب تفاصيل الأحداث التي يحيط بها خبر. ويتداخل هنا أيضاً السرد بالوصف والتأريخ فيتميّز النصّ بجمالية المضمون والشكل. ومن الملفت للنظر أن الخيط الناظِم بين مختلف الكتابات والروايات هو المَزْج بين الذاتي والروائي.
فالصحافيون يُحدِّثون القارئ عن العمل الصحفي تحت الرقابة وقَمْع حرية الصحافة والتعبير على غرار الحديقة المُحرَّمة لمعزّ زيود.
أما شكري المبخوت في "الطلياني" فيروي حكاية الحركة الطلابية في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة والنظام البوليسي لبن علي، ما يجعل القصّ غنياً بالوصف ولا يغفل أبسط التفاصيل التي تخدم البنية السردية للرواية.
وقد اخترنا أربعة نصوص روائية مختلفة الأولى لحسين الواد وهو "سيادته... سعادة الوزير"، و"الغربان" وهو نصّ ثانٍ لذات المؤلّف. أما رواية "الحديقة المُحرَّمة" فهي من تأليف الكاتب والصحافي معزّ زيود وآخر الروايات "جوليا" للصحافية الشابة عبير القاسمي.
تمثل الروايات الثلاث سقوطاً حقيقياً لحاجز الخوف، فيما تمثّل الرابعة رؤية شباب كان عند اندلاع الثورة مُراهِقاً ولم يعرف القمع إلا من خلال سلطة العائلة والمجتمع في دولة تنتمي إلى "العالم الثالث".
لقد أماط الواد اللِثام في "سيادته... سعادة الوزير" التي سبقت رواية "الغربان" وتصدَّرت المكتبات في عام 2011، حيث اعتمد فيها أسلوب السُخرية والتخييل ليُصوِّر ما كان يرتكبه نظام بن علي من انتهاكات وفظاعات السرقة والتحايل على شعب بأسره.
وتنكشّف هذه الخدع من خلال سلسلة اعترافات وزير أمام حاكم التحقيق ومحاولته تبرئة نفسه من التهم المنسوبة إليه. ورشحت هذه الرواية عام 2013 ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية.
أما في رواية "الغربان" فقد عبرت شخصية "سي حميدة" السكيزوفرينية تعبيراً جلياً وواضحاً عن الكثير من الشعب التونسي الذي لم يؤمِن بالثورة ولا توقّعها، لكنه انخرط في حماستها إلى جانب شباب "البنطلونات النازلة" على حدّ تعبيره.
ويصف هذه العمل وقائع مرحلة دقيقة اتّسمت بجرِّ البلاد نحو العنف والإرهاب واستغلال التوظيف الأيديولوجي في الجامعات والشوارع وغيرها عبر عيّنات واسعة من الشخصيات المختلفة.
ووثقَّت "الغربان" لحُقبةٍ حُكم الترويكا والفوضى التي دخلت فيها تونس وقتها إلى جانب الخوف من الإنقلاب على مكاسب الثورة.
مُغْرِقاً في الترميز ووصف حديقته وشجراته اعتمد الصحافي معزّ زيود بنية سردية نقلت أزمات ما بعد الثورة على مستوى جماعي وفردي ذاكِراً كل الانكسارات المهنية والعاطفية عبر شخصيّته الرئيسية.
على مستوى أساليب السرد التخيّلي فإن زيود راوح في كتابه بين الرواية والقصة القصيرة ليُنْتِج رواية الحديقة المُحرَّمة مُشابهة لشَّحاذ نجيب محفوظ وتمخضَّات بطله عمر الحمزاوي ويأسه من ثورة الضبَّاط الأحرار والحياة الإجتماعية التي تُكبّله.
حتى راح يبحث عن معاني الحياة من خلال تجارب حسيَّة ونفسيَّة يُفكِّك رموزها بطل الرواية إلى عُطْبٍ في أحلام الثورة وانتظارته.
ولا ينضبط السرد الروائي لتدرّج تاريخي حيث حضرت في أكثر من مناسبة تقنية "الفلاش باك" إما لاستحضار أحداث لاتزال تبعاتها في الحاضر أو لتوليد أحداث جديدة.
رواية جوليا هي من بين الروايات التي تؤسِّس سردية جديدة مُغايرة لما سبقها، تأخذنا من خلالها "عبير القاسمي" نحو مُتخيَّل مفاده اندلاع الثورة سنة2019.
فهي تفترض أن نظام بن علي ظلّ في الحُكم حتى تلك السنة وتأخذنا على بساط الخيال مع بطلة روايتها ليلى نحو ثورات أخرى تعيشها المرأة في تونس وأهمّها الثورة على السلطة البطريركية.
حدوث الثورة في هذا التوقيت الروائي علاوة على قيادة النساء لها جعلت "جوليا" رواية مختلفة عن سابقاتها ومبنية على التخييل أكثر من سرد الوقائع الحقيقة.
أما الشخصية المحورية فهي شخصية مُركبة يقودها حسّ التحرّر وصوت جوليا الشخصية الثانية التي تُعشّش داخلها. وما يُميِّز هذه الرواية عن غيرها أنها تفسح المجال نحو رؤية من زاوية مُغايرة لجيل مُغاير بفكر مُغاير أيضاً نشأ على توافر الأبجديات الأولى للحقوق والحريات في تونس بعد الثورة.
أدب الثورة رافق الثورات والصراعات في العالم لينقل مُعاناة الإنسان تحت وطأة الاستبداد والظلم وانتهاك أبسط الحقوق على غرار الثورة الفرنسية والبلشفية أو غيرها وتتداخل السيرورة التاريخية في هذه الكتابات بالسرد وسحر الوصف والخيال.