"ونزَلنا من السماء ماء مباركاً".. أيّ دور للمياه في الحضارة الإسلامية؟
يمكن القول إن التأريخ لأية حضارة هو فعلياً تأريخ لكل ما يتعلّق بالمياه. أيّ دور لعبته المياه في تشكيل الحضارة الإسلامية؟
يُعتبر موضوع الماء من الموضوعات التي أُشْبِعَت بحثاً من وجهات نظرٍ مختلفة ومن خلال اختصاصاتٍ مُتباينة، وهو يستحقّ بلا شكّ عناء التعمّق فيه لأهميّته البالغة في حياة البشر ووجودهم وارتباطه بنشوء عُمرانهم ومسار تطوّرهم الحضاري. حتى أنه يمكن الحديث عن أن التأريخ لأية حضارة هو فعلياً تأريخٌ لكل ما يتعلّق بالمياه من قبيل حجم توافرها وطُرُق استغلالها. في هذه المادة نحاول أن نتناول موضوع الماء لجهة حضوره في تاريخنا العربي والإسلامي.
الماء في الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام
تُعْتَبر الجزيرة العربية من المناطق الجافّة التي يقلّ فيها عدد السكان بسبب شحّ الأمطار وغياب الأنهار الكبرى التي تشكَّلت حولها حضارات كبرى في المنطقة كحضارات بلاد الرافدين عند دجلة والفرات وحضارة مصر عند النيل.
لم يكن في هذه المنطقة سوى أودية جافَّة أو أخرى ضَحْلَة تصبّ في البحر الأحمر أو في بحر العرب أو تضيع في رمال الصحراء. فالبشر إذن استقرَّوا وطوَّروا عُمرانهم، وكل ما يقترن به من مستوياتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ وقانونية، في نقاط توافر الماء على السواحل أو على ضفاف الأنهار والبحيرات أو بمُحاذاة الينابيع والآبار.
لم تعرف جزيرة العرب الزراعة سوى في المناطق ذات التساقُط الموسمي للأمطار كجنوبها، أو في المناطق التي تفجرت فيها العيون والينابيع بمُحاذاة بعض الأودية التي تكثر فيها المياه الجوفية، كالحجاز والأحساء وغيرها.
وهذه الزراعة كانت محدودة ولا تسدّ حاجات السكان، وقد استغلّ العرب في تلك المناطق مياه العيون من خلال شبكة قنوات تربط مياهها ببيوتهم تحت سطح الأرض دونما أن تتعرَّض للتبخّر(1). ومن أبرز هذه الأودية التي تكثُر حولها العيون والآبار وادي إضم ووادي نخال ومصبّه في الصفراء بين مكَّة والمدينة وهو وادٍ كثير النخل والزرع على طريق الحجّ، ومياهه تجري نحو ينبع، ووادي بدا الذي يتصل بوادي القرى الذي يقع بين العلا والمدينة، وهو ممرّ لطريق القوافل القديم الذي كان من أهمّ شرايين الحركة التجارية في العالم القديم (2).
وبالتالي أضحت الآبار والينابيع، في هذا السياق الجغرافي والبيئي القاسي، المُحرِّك للاقتصاد عند العرب والمصدر الأساس المُدِرّ للثروة الذي تدور حوله وتنهل منه باقي المصادر كالتجارة، والمراعي وقُطعان المواشي، من جهة، والعامل الرئيسي في تشكيل النظام الاجتماعي والرؤية السياسية للقبائل العربية من جهةٍ أخرى.
ذلك أن ملكيّة آبار الماء التي كانت مشاعاً بين القبائل، تماماً كما باقي مصادر الثروة وعلى رأسها المراعي، قد ساهمت بشكلٍ حاسمٍ في ترسّخ "اللقاحية" التي نظَّر لها المُفكِّر العراقي الراحل هادي العلوي في مَتْنِ كُتبه للتأصيل لظاهرة عدم خضوع العرب لسلطة الدولة. كما ساهمت أيضاً في خَلْقِ تراتبيةٍ اجتماعيةٍ ضمن القبائل العربية بين "مجموعات أرستقراطية" استأثرت في فتراتٍ مُعيّنةٍ بمناطق آبار الماء على مجالات مرور القوافل التجارية (وقوافل الحجيج)، تبيعها أو تؤجِّرها لمَن يحتاجها من الناس (3)، وبين مجموعاتٍ فقيرةٍ غير مالِكة.
وكانت "الأرستقراطية القُرشية" في مكَّة أو "سادة قُريش" كما تُسمَّى في القاموس التُراثي العربي، أكثر مَن استفاد في الجزيرة العربية من ازدهار الحركة التجارية في المنطقة فترجمت نفوذها الاقتصادي والاجتماعي إلى ممارسة سلطةٍ سياسيةٍ على قُريش من خلال "دار الندوة"، كما أن توافر ينابيع وآبار المياه في يثرب (المدينة) ساعد على ممارسة أهلها للزراعة واكتساب حياةٍ حَضَريةٍ مُستقرِّة.
في هذا السياق الاقتصادي - الاجتماعي لمجال الجزيرة العربية، وبالأخصّ الحجاز، الذي لعب فيه الماء دوراً رئيساً، ظهر الدين الإسلامي في مكَّة ثم ما لبث أن تحوَّل انطلاقاً من يثرب (المدينة)، بعد فترةٍ من الزمن، إلى قوَّةٍ توسَّعت خارج مجال شبه الجزيرة العربية مُشكِّلةً الإمبراطورية والحضارة الإسلامية.
الماء في التُراث الحضاري الإسلامي... لحظة التأسيس
إن الإضاءة على أهميّة الماء في التُراث الإسلامي تبدأ حتماً من الحديث عن حضوره في القرآن باعتباره النصّ المؤسِّس للإسلام كدينٍ انتشر بين عرب الجزيرة أولاً، وثانياً كدولةٍ انتقلت عبر مسارٍ تاريخيٍ حافلٍ إلى مرحلة التوسّع الإمبراطوري الذي تجاوز المجال العربي، وصنع حضارةً أنتجت لنا تُراثاً ثرياً من العمارة والأدب والفلسفة والموسيقى والفُقه، إلى غير ذلك من مُنتجات ما أصبح يُعْرَف لاحقاً بالحضارة العربية الإسلامية.
وكثيرةٌ هي النصوص التي وردت في الماء في القرآن، والتي شكَّلت أساساً لمنظوماتٍ فُقهية وقانونيةٍ وإداريةٍ بل وتقنيةٍ وعُمرانيةٍ للتعامُل مع أهميّته القصوى في استمرار الوجود البشري ومسار تطوّره، على غِرار آية "وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ"(4) وآيتي" وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا*لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا"(5) و"وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ"(6) و"وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ"(7) وغيرها من النصوص القرآنية.
لقد تجسَّد الأثر القوي لحضور الماء في لحظة التأسيس الحضارية للإسلام المُبكر، منذ خروجه من المجال العربي الذي انطلق منه، في الشكل العُمراني للمدينة الإسلامية ابتداءً من المدينة المُنوَّرة كأول عاصمةٍ للكيان الوليد إلى باقي عواصم الإمبراطورية الإسلامية الممتدَّة الأطراف في دمشق ثم بغداد.
لقد أصبح وجود مصادرَ للماء شرطاً أساسياً لبناء المدن، وقد كان إبن خلدون أحسن مُعَبِّرٍ عن تلك الميزة في عمارة المدن الإسلامية لضرورتها للسكان أولاً فكتب في مقدِّمته:"وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيُراعى فيه أمور منها الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائها عيون عذبة ثرَّة فإن وجود الماء قريباً من البلد يُسهِّل على الساكِن حاجة الماء وهي ضرورية فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة"(8)، ولأغراضٍ دفاعيةٍ عسكريةٍ ثانياً:".. فأما الحماية من المضار فيُراعى لها أن يُدار على منازلها جميعاً سياج الأسوار وأن يكون وضع ذلك في مُتَمنِّع من الأمكنة إما على هضبة مُتوعِّرة من الجبل وإما باستدارة بحر أو نهر بها حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها..."(9).
بقيت هذه القواعد في عمارة المدينة الإسلامية ثابتة مع باقي الحواضِر التي أنشأها العرب المسلمون الأوائل، مع التمدّد إلى مناطقَ بعيدةٍ عن المركز كمدن بلاد المغرب والأندلس.
ويُخبرنا في هذا الصَدَد مؤرِّخ الفن والعمارة الإسباني باسيليو بابون مالدونادو Basilio Pavón Maldonado بأن الوصف الخلدوني للمدينة الإسلامية ينطبق على كل المدن التي أنشأها المسلمون في الأندلس، سواء الجديدة منها أو تلك التي أقيمت على أنقاض المدن الرومانية أو القوطية (10).
لكن تأسيس مدنٍ عربيةٍ بما يخالف هذه المعايير التي وصفها إبن خلدون، لم يكن غائباً تماماً في تاريخ العُمران الإسلامي المُبْكِر كما يمكن أن نقرأ حول تأسيس البصرة في العراق (11) مثلاً في منطقةٍ بعيدةٍ عن مصادر الماء.
لكن يبدو أن ذلك كان حافزاً للبحث في هذا المجال لإيجاد حلولٍ لنقص مياه الشرب في تلك المدينة، وقد حدث الأمر نفسه في مدينة تونس في بلاد المغرب، وحدَّثتنا المصادر على أن حُكَّامها من الحفصيين (12) واجهوا مشكلة نقص الماء فيها، لبُعدها عن مصادر المياه، بالاعتماد على تقنياتٍ موروثةٍ عن العهد الروماني.
ومن نافل القول إن ارتباط الحضارة بالماء ليس ميزةً خاصةً بحضارة الإسلام، فما عرفت البشرية من حضاراتٍ قديمةٍ إلا وكان أهمّ عنصر في قيامها، لكن ما يُميِّز الحضارة الإسلامية حقاً، هو ترجمة تلك الأهميّة القصوى للماء لمنظومةٍ قانونية وفُقهية وأيضاً لتُراثٍ أدبيٍ ثريّ قد يحتاج التطرّق إليه إلى صفحاتٍ طويلة، وللسياق الجغرافي القاسي الذي ظهر فيه الإسلام دور في هذا بلا شك.
هذا يُحيلنا إلى الحديث عن التشريعات المُرتبطة بالماء من خلال استنطاق المصادر التاريخية ونوازِل الفُقهاء، فهي تنطلق من مبدأ عام، وهو أن الماء والكلأ والمُحْتَطب (13)، ملكية مشاعية وهو ما يمنع عملياً الملكية الخاصة لمصادر الماء أو بيعه (14). ما يعني أن حفر الآبار وإنشاء قنوات الريّ يقع على عاتق الدولة، فخصَّصت الدولة العباسية الموارد المالية الضرورية لإنشاء القنوات والسدود وخزَّانات المياه وتولَّت الإشراف على توزيع المياه (15).
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحال الاقتصادية - الاجتماعية والسياسية للإمبراطورية/الخلافة الإسلامية كان لها الأثر الكبير في بلورة المنظومة الفُقهية المُتعلِّقة بالماء، في النصف الثاني من القرن الثامن وبداية القرن التاسع، وهي فعلياً الفترة التي بلغت أوج تطوّرها.
ولا يمكن إغفال المساهمة الفعَّالة لفُقهاء مدرسة أبي حنيفة النعمان في صوغ تلك التشريعات، حيث برز قاضي بغداد المعروف بأبي يوسف القاضي والذي أضحى كتابه "الخراج"، الذي صنَّفه بطلبٍ من الخليفة العباسي هارون الرشيد، مرجعاً محورياً في مجال التعامُل القانوني مع الماء.
فقد تناول الأراضي ذات الملكية العامة والماء، وضمنياً مهمة إحياء الأرض المَوَات والتي يمكن أن تُمنَح لأفرادٍ أثرياء، وإذا كان الرأي الفُقهي السائد بأن ملكية الأنهار ترجع أساساً إلى الدولة فإن الدولة تكتفي فقط بمُراقبة المجاري المائية والقنوات الأصغر ولا تتدخَّل سوى في حالات معيّنة.
وعرفت نفس الفترة نصوصاً قانونية أخرى مرتبطة بتسيير المياه للفُقيه الكوفي يحيى بن آدم صاحب كتاب الخراج، أو صحيح البخاري وتضمَّنت أبواباً كاملةً عن الريّ، ثم توالت النصوص في فتراتٍ زمنيةٍ مُتباينةٍ ويمكن ذِكر ما كتبه المؤرِّخ والأديب البغدادي قدامة بن جعفر في القرن 9م والمؤرِّخ الدمشقي إبن عساكر في القرن 12م الذي حفظ لنا نصّاً لتقسيم مياه نهر بردى، الذي يسقي الغوطة، يعود إلى عهد الخليفة الأموي هشام إبن عبد الملك (724-743م).
المؤرِّخ والمُستشرق الفرنسي كلود كاهن Claude Cahen (1909-1991) نشر أيضاً نصّاً يعود إلى القرن 11م يتحدَّث عن تقنياتٍ مختلفةٍ مُخصَّصةٍ للريّ منها آلات لرفع المياه (16).
الماء في المغرب الإسلامي
خلال قرنٍ تقريباً، وهي الفترة التي تمتد من فتح بلاد المغرب في بداية 8م إلى تمكُّن مذاهب إسلامية مختلفة من تأسيس دول مستقلَّة عن مركز الخلافة/الإمبراطورية في بغداد ابتداءً من نهاية نفس القرن (16)، استكمل مسار أَسْلَمَة المغرب أو الغرب الإسلامي، وأصبحت معه هذه المنطقة ومنها الأندلس، جزءاً من التاريخ الإسلامي ومن الحضارة الإسلامية، وبالتالي تأثَّر المغاربة بعلاقتهم بالماء بالتُراث الإسلامي في مركز الإمبراطورية/الخلافة في هذا الصَدَد، وأضافوا إليه أيضاً، تشريعياً وتقنياً.
لا توجد في منطقة المغرب أنهار كبرى، لذا فإن سكان المنطقة استغلّوا المياه الجوفية الموجودة في العيون ومياه الأودية المختلفة (الصومام، تافنة، ملوية، زيز، أمّ الربيع...)، من خلال ما عُرِف من تقنياتٍ لحفر الآبار وبناء السدود.
إن المُتتبِّع لتاريخ وجغرافية تأسيس المدن المغربية لا يلمس خروجاً عن القاعدة التي حكمت بناء المدن العربية وفصَّل فيها إبن خلدون، سواء تلك التي أسَّسها المسلمون ابتداءً أو تلك التي بنوها على أنقاض مدنٍ رومانية، بدءاً من القيروان أم الحواضِر المغربية ثم إلى باقي المدن: فاس، سجلماسة، تيهرت، تلمسان، المهدية، أشير، مليانة، ميلة، بجّاية وغيرها من المدن المغربية، وتنقل لنا المصادر التاريخية، في فتراتٍ مختلفة، عن إبداعات المغاربة وما تركه الرومان من تقنياتٍ في بناء السدود والصهاريج وشبكات الريّ التي اعتمدت في مدن المغرب المختلفة (17).
وقد يطول الحديث عن تلك التقنيات بالتفصيل، لذا ارتأينا أن نُسلِّط الضوء فقط على طُرُق تعامُل المغاربة مع الماء في الصحراء، لسببين رئيسيين أولاً لِما في تلك الطُرُق والتقنيات من قدرةٍ إبداعيةٍ غير مألوفة في باقي الجهات، وثانياً لأنها ارتبطت بحواضر بُنِيَت على طُرُق القوافل التجارية الصحرواية مع بلاد السودان، مع ما لهذه التجارة من دور حاسمٍ وأهميّةٍ بالغةٍ في تأسيس وصعود كل الدول والإمبراطوريات المغربية؛ من الرستمية والإدريسية والمدرارية في القرن 8م، إلى الفاطمية في القرن 10م إلى الزيرية والمُرابطية في القرن 11م إلى المُوحِّدية في القرن 12م وصولاً إلى الدول التي تقاسمت إرث الأخيرة في القرون الثلاثة التي تلت سقوطها في 1269م.
وهي ثلاثة طرق رئيسية واحد في الغرب يمرّ عبر سجلماسة في جنوب شرق المغرب الأقصى، وواحد في الوسط يمرّ عبر ورجلان أو ورڨلة في جنوب شرق الجزائر، وآخر في الشرق يمرّ في بلاد الجريد في الجنوب التونسي ومدينة غدامس الليبية، وإقليم توات في جنوب غرب الجزائر يتّصل مباشرة بطريقيّ الغرب والوسط.
نظام الفڨارة في السقي...تحدي الطبيعة القاسية
الفڨارة وتُنطق في الجزائر بقافٍ بدوية وتُجمَع غالباً بصيغة "فقاقير"، هي تقنيةُ سقيٍ لا تزال تقاوِم الزمن إلى الآن في منطقة توات جنوب غرب الجزائر، تعتمد أساساً على استخراج المياه الجوفية ثم دفعه باتجاه الواحات ليستفيد منها سكانها لسقي زراعتهم، عبر حفر بئرٍ أوَّلية متّصلٍة بآبار للتهوية من خلال قنواتٍ في باطن الأرض تجري منها المياه على شكلٍ مائلٍ ثم تتجمَّع في حوضٍ، ثم تخرج إلى سطح الأرض عبر فتحاتٍ لتُوزَّع على المزارعين وفق نظام تقسيمٍ دقيق.
وتُعرَف هذه التقنية القديمة في صحراء المغرب الأقصى بالخَطَّارة والتي يختلف الباحثون في تاريخها، بين مَن يُرجِّح أصلها المشرقي القديم ما قبل الميلادي، إلى حضارات بلاد فارس أو بلاد الرافدين، وبين مَن يُرجعها إلى المهندس الأندلسي عبيد الله بن يونس الذي تنقل لنا المصادر أنه أدخل هذه التقنية إلى مدينة مراكش حين تأسيسها على يد المُرابطين في 1065م.
لا يمكن بالتأكيد الجَزْم في أصل هذه التقنية ولكن لابدّ من الإشارة إلى أن ذِكرها في حضاراتٍ مشرقيةٍ في فترات ما قبل الميلاد يُبْعِد احتمال دخولها إلى منطقة المغرب في القرن 11م، فقد تكون وصلت في تواريخ مُبكرة لبربر زناتة (18)، عن طريق الاحتكاك التجاري مع مصر وباقي حضارات المشرق، وقد تكون فعلاً قد دخلت عن طريق المهندس الأندلسي إبن يونس الذي انحدر من بيئةٍ كان فيها للتُراث الحضاري الفارسي حضور في مجالاتٍ عديدة.
وقد يقول قائل، في معرض نفي أصل التقنية الأندلسي، بأنها مُصمَّمةٌ أساساً لمجالٍ صحراوي قليل المياه، على عكس طبيعة الأندلس التي يُلخِّصها لنا الشاعر الأندلسي إبن خفاجة في بيتٍ خالد:
يا أهل أندلسٍ لله درُّكُمُ ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجارُ
لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن كل مُنتجات الحضارة المختلفة، وهذه التقنية منها، تدخل في إطار فعلٍ تراكُميٍ ممتدٍ ومستمر.
الهوامِش:
(1) جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي، المُجلّد الأول ص 162-163.
(2) نفس المصدر، ص 168-169.
(3) محسن خليل، في الفكر الاقتصادي الإسلامي، مكتبة الإسكندرية، ص83.
(4) سورة الأنبياء، الآية رقم 30.
(5) سورة الفُرقان، رقم 48 و49.
(6) سورة البقرة، الآية رقم 22.
(7) سورة ق، الآية رقم 09.
(8) عبد الرحمن إبن خلدون، المُقدِّمة، دار الجيل، بيروت، ص 385و386.
(9) نفس المصدر، ص 384.
(10) يعطي المؤرِّخ الإسباني مثالاً نموذجياً لذلك الوصف الخلدوني بمدينة ساڤونطو SAGUNTO في شرق إسبانيا، أو مُرْبَاطَر كما كان يُسمّيها العرب، التي بُنيت على منطقة جبلية وبجوار نهر بالنثيا.
(11) تأسَّست في سنة 636م في عهد الخليفة عُمر بن الخطاب، على يد عتبة بن غزوان المازني عامله على الحدود بين بلاد فارس وجزيرة العرب.
(12) سلالة بربرية من نفس قبيلة المهدي بن تومرت، استقلّت بالمغرب الأدنى في تونس وليبيا الحالية وأجزاء من المغرب الأوسط في الجزائر الحالية، بعد سقوط الإمبراطورية المُوحِّدية ما بين القرنين 13م و16م.
(13) ورد هذا التعبير عند الجاحظ، كتاب الحيوان، جزء 5، ص99.
(13) مع ذلك هناك آراء فُقهية مُتعدِّدة تذهب إلى أن الماء يمكن أن يكون ملكية خاصة وما لا يجوز امتلاكه بالمُطلق هو فقط الأنهار.
(14) عبد العزيز الدوري، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 72.
(15) Pierre Guichard, l'eau dans le monde musulman médiéval, l’homme et l’eau en méditerranée et au proche orient, MOM Éditions, Année 1982, N° 3 pp. 117-124.
(16) يتعلّق الأمر بدولة الرستميين التي أسَّسها الإباضيون وعاصمتها تيهرت في غرب الجزائر الحالية في 776م وبدولة الأدراسة الزيدية في فاس سنة 788م في المملكة المغربية الحالية وبدولة الأغالبة، التي ارتبطت بالبيعة بالعباسين، في بغداد في القيروان في تونس الحالية سنة 800م.
(17) من بينها كتب الجغرافيين والرحّالة والمؤرِّخين من بينها: تاريخ إبن خلدون، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي، وصف إفريقيا لحسن الوزان، كتاب الفلاحة لإبن بصال، المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب.... إلخ.
(18) قبائل زناتة البربرية هم سكان الواحات في صحراء المغرب من شرق ليبيا الحالية إلى الجنوب الشرقي في المغرب الأقصى مروراً بالصحراء الجزائرية.